أديب الأحساء الكبير

الناشر: جريدة الجزيرة الثقافية

معالي د. محمد عبداللطيف الملحم

– العدد: 109

تاريخ النشر: 06/06/2005م

الرابط: http://www.al-jazirah.com.sa/culture/06062005/fadaat9.htm
والكتَّاب فئتان: فئةٌ تكتبُ، وما تكتبهُ غثاءٌ كغثاءِ السيل، أو كالزَّبدِ الذي يذهبُ جفاءً،

ويَتمنَّى محبو القراءة لو توقَّفت هذه الفئة عن الكتابة لأنّها نفسها عبء على عالم الكلمة، وما تكتبهُ سرعانَ ما يذوبُ كذوبَان الجليد إذا تعرَّض لتأثير الحرارة المجرَّدة. وفئةٌ أخرى تكتبُ، وإذا كتبتْ تجدُها تأخذ بناصيةِ الكلمة، وزمامِ الحرف، وتشدُّ إليها محبِّي القراءة ومتذوِّقي معانِي الحرف. وكاتبنا الذي أتحدَّث عنه من الفئة الثانية. كاتبٌ عرفتهُ منذ أن شببتُ عن الطوق وحتى يومنا هذا. ويتميَّز هذا الكاتب أنّه: ذو حيوية شبابية، وفكر نيِّر، ودراية واسعة، وصاحب قلم سيال، صافي الذهن، لَمَّاح، ذو عطاء متدفِّق. إذا كَتَبَ كَتَبَ وكفى … وإذا كَتَبَ فهُو يعرفُ كيف يكتب، ولمن يكتب، ولماذا يكتب؟ ومتى يكتب. تجدُ ما يفيد فيما يكتبه، بل ويُروي غليل الصادي. تجدُ فيما يكتبه مصداقيةً متناهيةً لأنّه كان، وعلى الدوام، صادقاً مع نفسه قَبْلَ أن ينقلَ للغير فكرَه. وبسبب هذه المصداقيّة كسب ثقة قرَّائه منذ أن عرفوه، حيث وجدوا فيما يكتبه دفء الكلمة التي تنساب إلى الوجدان قَبْلَ العقل. الكاتب أديبٌ تتفاعل في نفسه، بل وفي وجدانه، حرفة الأدب منذ أن شَبَّ عن الطوق. الكاتب قارئٌ ومطَّلعٌ. كَتَبَ في التراجم والسِّيَر، أمَّا في الأدب والسياسة والاجتماع والاقتصاد والثقافة فله فيها باع طويل. أطلقتُ عليه في كتابي (كانت أشبه بالجامعة) لقبَ أديب الأحساء الكبير لأنّه يستحقُ هذا اللقب. لم أجد كاتِباً سخَّر يراعه لخدمَة مسقط رأسه مثلَه. تفانَى في حبِّ (الأحساء) لدرجة لا توصف أو تفوق الوصف. إنّها كلمة حقٍّ أقولها لوجه الحقِّ. كان لا يتوانَى في الحديث عن إيجابيات وسلبيات أحوال (الأحساء) الاجتماعية والثقافية والتعليمية والعمرانية وغيرها. وكان يشطحُ بقلمه أحياناً ولكن في سبيل الحقِّ إذ لم تكن تأخذه في الحقِّ لومة لائم .. تناول بقلمه السيال أحوال رجالات (الأحساء) من أدباءٍ ومثقفينَ وطلبةَ علمٍ. زوَّد هذا الكاتب المكتبة الثقافية (في معاهد العلم والجامعات وفي السوق) بالعديد من الكتب القيِّمة في شتَّى الفنون. ومن كتُبه التي لا أزال أتردَّد على قراءتها كتاب: أحاديث بلدتي القديمة. إنّ مضامينَ هذه الأحاديث جزءٌ من حياتِي وكيانِي كما لو كنتُ أنا الذي سجَّلتها لأنّها تتناول وقفاتٍ في حياتِي أيّام الشباب والصِّبا. كلما قرأتُ هذه الأحاديث أجدُها تعيدُنِي إلى أيّام الشباب والصِّبا. تمكَّن هذا الكاتب، وبجدارة وبمهارة فائقة، أن يعرضَ أحاديث المدينة القديمة في أسلوبٍ سهلٍ، وبقلمٍ رشيقٍ، وكلماتٍ لا تنقصها البساطة والوضوح. كان الكاتب يعرضُ أحوالَ المعيشة في أحياءِ مُدُنٍ مثل (الهفوف) و(المبرز) وغيرها من بلدان (الأحساء) كما عهدتها أيّام الصِّبا. وجدتُ، ولا أزال أجدُ، كلما عاودتُ قراءة هذه الأحاديث أنّ الحياة عندي تتجدَّد. وكأنّ هذه الحياة التي تناولَتها هذه الأحاديث قد صُبَّت في قوالب فنِّية بريشة فنان. وفي هذه القوالب إمتاع أيّ إمتاع، ومؤانسة أيّة مؤانسة، بل وفيها وفيها وفيها إشباع ذهنيٌّ كامن. كيف لا! إنّها أحاديث بين دفّتي كتاب عن أحوالٍ عاصرتها وعايشتها. وشوقي للرجوع لهذا الكتاب في تزايد لأنّ أسلوب الكاتب في عرض أفكاره في هذا الكتاب أسلوبٌ آسرٌ وحابسٌ وممتعٌ. واختياري لهذا الكتاب جاء عن طريق الصدفة إذ للكاتب كتبٌ قيِّمةٌ أخرى، وما عرضْتُه هو نموذجٌ واحدٌ من كتبه، والكاتب يدركُ، بثاقب بصره، أنّ الكتابة فنٌّ وتذوُّق وموهبة. وهكذا مع ذلك الإدراك عند كاتبنا تمكَّن أن يحقق نجاحاً يحسده عليه قرَّاؤُه. كاتبنا مالكٌ لناصية الكلمة الصَّادقة وما تحتوي عليه من رموز. والسؤال الذي يطرح نفسه هو كيف تمكَّن هذا الكاتب أن يفرضَ نفسه في عالم الكلمة متألِّقاً متميِّزاً خلال عقود من الزمن؟ الجوابُ سهلٌ، ويسرُّني أن أرويه لأترابي وكذا للأجيال القادمة. إنّها رحلة القلم، رحلة الكلمة، رحلة تزويد النفس بما لا تعلم، ومن ثم تزويد الغير بما تعلم. هذا هو شأن كاتبنا. وَجَدَ كاتبنا في الصحافة المكتوبة هدفه المنشود في حياته. وكانت هذه الرحلة مليئة بالصِّعاب والعوائق والمشاق والمتاعب. كانت الصحافة جزءاً من لحمه ودمه ومجرى حياته. وكما يقال (كلٌ يغنِّي على ليلاه)، وكانت الصحافة ليلَى كاتبنا. كانت جريدة الخليج العربي هي ليلَى كاتبنا. بصماتُ كاتبنا في الصحافة معروفةٌ وواضحةٌ منذ أن كانت الصحافة صحافة أفراد، وواصل كاتبنا مرافقة الصحافة حتى بعد أن كانت صحافة مؤسسات. كانت الصحافة عند كاتبنا هواية، وكان مع هوايته كأنّه يتمثَّل ويردِّد بيتَ (ابن الوردي): وافتكر في منتهى حسن الذي أنت تهواه تجد أمراً جَلَلْ. أحَبَّ الصحافة إلى درجة العشق. والعشقُ إذا تمكَّن زواله محالٌ! لازم الصحافة والتصق بها: كهِوَايَة، وكهَويَّة، وكحرفة أي كمصدر رزق. الصحافةُ، في عُرْفِه، هِوايةٌ وهَويةٌ وحِرفةٌ. هي بالنسبة له دم الحياة! ولعلَّ من اللافت للنَّظر في مشواره الصحفي (بالنسبة لي على الأقل) أنَّه كان يتكيَّف مع كلِّ المستجدات والمتغيّرات التي طرأت في عالم الصحافة منذ أن كانت صحافة أفراد ومن ثم صحافة مؤسسات. وهناك الكثير من يُغَيِّرُ أحوالَه من وضعٍ إلى وضعٍ سواء في سبيل الحصول على لقمة العيش، أو من أجل تحقيق هدف معيَّن، أو من أجل التغيير لمجرَّد التغيير حتى لا تكون الحياة عنده وبالنسبة له شبه آسنة راكدة مملَّة. وكاتبنا ليس من هؤلاء. كانت حياته تسيرُ على نمطٍ معيَّنٍ رتيبٍ منذ أن كان سكرتير مجلة (هَجِرِ) اليتيمة الصادرة في عام 1376هـ بالمعهد العلمي بمدينة (الهفوف). عشقٌ دائمٌ لهوايةٍ واحدةٍ يرى كاتبنا أنّ حياته فيها في تجدُّدٍ مستمرٍ. ولله في خلقه شؤون. أعرفُ الكثيرَ من أترابه (وهم من أترابي) مِمَّنْ أحبوا تغيير نمط الحياة في سبيل الحصول على لقمة العيش أو تحقيق مطمحٍ مَّا. أمَّا كاتبنا فقد الْتَزَمَ نمط حياة معيَّنة وَجَدَ فيها مطمحه. وفي حقيقة الأمر أنّه حقَّق مجداً تَفَوَّقَ فيه على ما حقَّقه أترابُه من أمجادٍ في الحياة. خدمةُ الحرفِ شرفٌ. وكانت هذه الخدمةُ مربطَ الفرس عند كاتبنا. حارب ممتطياً فرس الحرف فانتصر في أكثر من معركة. ويكفي أنّ كاتبنا أثرى المكتبة بكتبٍ فيها متعةٌ ومنفعةٌ، وستبقى هذه الكتب أثناء حياته رامزةً على علوِّ همَّته، وشموخِ نفسه التّوَّاقة إلى مجدٍ يعلمُ هو نفسه أنّه مجدٌ سيبقى نافعاً للأجيال القادمة. في كتابي (كانت أشبه بالجامعة) تحدَّثتُ عن كاتبنا في فصلٍ مستقلٍ. ونقلتُ في كتابي ما تحدَّث به هو عن نفسه أي عن هوَايته وهوِّيته وحرفَته. قال كاتبنا في صفحة 468 من كتابي عن نفسه ما يلي: أمّا (الثالث) (يقصد كاتبنا نفسه) فقد (تشعْبط) في خيوط الهواء حيث كان يرى أنّه يستطيعُ إصلاح العالم، وأن يغيِّر من المفاهيم، فتعلَّق بالصحافة، وكان يظنُّ أنّه بهذه الوسيلة الإعلام يستطيعُ أن يكون له صوتٌ مؤثِّرٌ .. وَمَا دَرَى أنّ الصحافة كوسيلةٍ إعلاميةٍ قابلة للتطوُّر .. وقد تطوَّرت بجانبها وسائل إعلامية أخرى تجاوزتْها وتركتْها تحبو على الطريق، وسائلٌ تستطيع أن تصل إلى المتلقِّي في عقر داره .. تنقلُ إليه أحداث العالم البعيد على الهواء مباشرةً في حينها .. وهي وسائلٌ تدعمها الدول والحكومات، ويساندها التطوُّر العلمي والتكنولوجي المتجدِّد الهائل السريع التَّفاعل. … أمّا (الثالث) (يقصد الكاتب نفسه) فلم يزل في القاع مكتفياً بإشارة الناس إليه بقولهم: هذا الكاتب الصحفي (فلان) .. تماماً كما يشيرون إلى (العبيط) أو (المجنون) بقولهم: (العبيط أهوه) .. باللهجة المصرية الدارجة .. وكان يظنُّ في البداية أنّه سوف يرقى سلَّم الشهرة والمجد، وما درى أنّه يسلك مسلكاً صعباً، إن زلَّت به القدم، فلن تقوم لصاحبها قائمة، وصاحبنا (يعني كاتبنا نفسه) لم تزُل قدمه، ولم ينزلق بحمد الله .. بل كان صوتاً من أصوات الإصلاح لا يزال يتردَّد صداه في الآفاق على ممر السنين .. ولكنها الأيَّام تغيَّرت، والوسائل تطوَّرت، وظلَّ صاحبنا (يعني كاتبنا نفسه) يراوحُ في مكانه، ويجتَرُّ الذكريات لأيّام خوال لن تعيدها عقارب الساعة إلى الوراء لحظة واحدة. إنّ مشاعرَ المحبة التي أكنُّها لهذا الكاتب لا تقفُ عند كونِي أنّني مِمَّنْ يقرأ له، بل تتجاوز ذلك إلى اعتباره رمزاً من رموز الوطن في المجال الذي كرَّس وقتَه وجهدَه من أجله. حياةُ كاتبنا منتجةٌ حافلةٌ، وهو جدير بالتكريم. كاتبنا رقيقٌ الجانب، هادئُ الطَّبع، دمثُ الأخلاق. أطال الله في عمر كاتبنا أديب الأحساء الكبير الأستاذ (عبدالله بن أحمد الشباط) الذي لا يزال يتحفُنا من وقتٍ لآخرَ إمَّا بمقالةٍ مفيدة أو كتابٍ قيِّمٍ.

الناشر: جريدة الجزيرة الثقافية

معالي د. محمد عبداللطيف الملحم

– العدد: 109

تاريخ النشر: 06/06/2005م

الرابط للمصدر

ورحل عملاق (9-9)

موضوع ترك الوظيفة العامة أو الإحالة إلى التقاعد أو التقاعد نفسه من الموضوعات التي كثر الحديث عنها، بل لا يزال الحديث عنها موضوع الساعة. والانفكاك من الوظيفة العامة أي التقاعد إما أن يكون اختيارياً أو قانونياً أو قسراً. تعدّد الأسباب والتقاعد في المحصلة النهائية واحد. والسؤال الذي يطرح نفسه: ماذا يفعل الموظف بعد التقاعد؟ هناك من يتقاعد وبعد التقاعد يجد نفسه في مسرة، وآخر يجد نفسه في كآبة تنتهي به إلى عزلة أو مرض. وسأقتصر هنا على ذكر ثلاثة آراء في التقاعد (لأديب) و(لي) ولشيخنا المربي الفاضل (بو ناصر). سئل الأستاذ الأديب الشاعر (حسن بن عبد الرحمن الحليبي) بعد أن تقاعد عن التدريس في (المعهد العلمي بالأحساء) عن رأيه في التقاعد فكانت وجهة نظره كما أملاها عليَّ بالهاتف كما يلي: (عز بعد ذل، وصحة بعد سقم، وراحة بعد تعب، وحياة بعد موت)، وهذا رأي غريب ومثير للتساؤل ولعل صاحبه على حق. أما عن وجهة نظري فلقد عبّرت عنها في جريدة (الجزيرة) بأن (التقاعد عبارة لم أفهم معناها. وإذا تقاعد الموظف العام فهو في حقيقة الأمر ينتقل من موقع إلى موقع آخر. وربما يكون في الموقع الجديد أكثر إنتاجيةً وعطاءً. أما أستاذنا المربي الكبير (بو ناصر) فله وجهة نظر عن التقاعد. تحدث عن وجهة النظر هذه، ورسم برنامج عمل لمن يتقاعد. ووجهة نظره وبرنامج العمل الذي حدده جديران بالاهتمام. عبّر المربي الفاضل عن وجهة نظره أثناء تعليقيه على كتاب ألفه طالب علم نبيل، وكان أحد طلبتي في معهد الإدارة العامة عندما كنت عميداً لكلية التجارة – جامعة الرياض آنذاك ومحاضراً غير متفرغ بمعهد الإدارة العامة في أوائل التسعينيات من القرن الهجري الماضي. إنه الأستاذ (عبد الكريم بن حمد بن إبراهيم الحقيل). وعنوان الكتاب (منهل المستفيد من الشعر المفيد). استهل المربي الفاضل تعليقه بوجهة نظر ضافية عن التقاعد. وهي وجهة نظر مبرمجة. يقول المربي الفاضل: اعتقاد الكثير أن التقاعد وأد وموت، وهذا خطأ محض، بل إن التقاعد بعث ونشر لعدة اعتبارات: أولا – أن المتقاعد قضى شبابه في العمل والإخلاص، وصُهر بلا شك في أداء واجبه وفي معلوماته التي كررها ورسخها في ذهنه وغرسها في الأفكار.. ثانياً – أن عصر الشباب والفتوة زال عنه.. وأقبل على شيخوخة فيها ما فيها من الفوائد.. ثالثاً – لو كلف نفسه وشق عليها ومن ثم تجاوز في مواصلة العمل أكثر وأكثر من السنوات فوق الستين تماماً لكلّ جهده.. وشاخ فكره.. وتضاءل ذهنه.. واستنفد طاقته وذكاءه وما استطاع، ولَبَدَا على العمل نقص وظهر فيه شرخ بل ضعف.. رابعاً – ما دامت هذه التجارب والسنوات الزاهرة التي فيها كفاح الشباب وفتوته.. والرجولة وحيويتها والتي انفضت في عمل ودأب خدم بها الدولة والبلاد والمرفق.. أفلا يشعر بأنه يستطيع أن يجعل من بقية العمر مزرعة للآخرة يعود فيها إلى ربه مستقراً ذهنه في عبادة هادئة.. وحياة هانئة.. يستذكر فيها حسنات العمل وعلاقته مع الناس وصلاته بهم ليسجل فيما يعود عليه بالفائدة كتاباً إن كان قارئاً أو لقاء بالآخرين لاستغلال الفراغ واستعمال ما هضمه من عمله.. وما اكتسبه من خبرته في أن يكون له ما يلي: أ- أن يتصل بمن له بهم صلة، وأن يجتمع بهم، ويبرم معهم أوقاتاً يلتقون فيها، ويتبادلون بها هذه الاجتماعات مع الأصدقاء القدامى وذوي الكفاءات لاجترار الماضي والذكريات. ب- وإذا كان ذا معرفة وإدراك ووعي في علم أن يدون معلوماته، وما بناه في عمله ومجتمعه ليكون ذلك كتاباً يفيد الناس، ويهتدي به غيره، ويؤدي واجباً عليه. ج- أن يجعل من المطالعة زاداً من المعرفة التي يتجه إليها في هدوء مع تأدية ما لله من حق في هذه الصحة والعافية التي منحها الله له.. فقد يكون إثراؤه للمجتمع أكثر مما عمله يوم كان شاباً من واجبات وعمل.. وضرب مثلاً بالأستاذ (عبد الكريم) الذي عَرَفَ، بعد تقاعده، كيف يستغل وقته فيما هو مفيد ونافع.إن برنامج العمل الذي رسمه وخطط له المربي الفاضل وإن كان قد رسمه وخططه لكل من يتقاعد إلا أنه ألزم به نفسه فسلكه، وتقيّد به فجاءت حياته حافلة بالعطاء الأدبي والتربوي، ناهيك من فعل الخير، والحرص على لقاء أصدقائه ومحبيه ومريديه، وكذلك مواصلة الكتابة في المجالات التربوية والاجتماعية والتاريخية والأدبية. وقد شهد له بذلك الكثير ممن رثاه بعد أن توفاه الله سبحانه وتعالى، فعلى سبيل المثال، لا الحصر، رثى الأستاذ الدكتور (محمد بن سعد آل حسين) الشيخ (عثمان)، وكان كما لو كان متتبعاً وراصداً لمسلك المربي الفاضل في تطبيق برنامج العمل الذي قرره ليس لنفسه فحسب وإنما للآخرين بعد تقاعده. قال الأستاذ الدكتور (محمد) في كلمته: (ولئن كان الشيخ (عثمان) قد رحل عنا، فإننا لا نزال نعيش أعماله وصفاته المتمثلة في أعماله التربوية ثم في تلك الندوة التي ما انفك يقيمها في منزله مساء كل اثنين حيث تدار مواكب الأفكار، وتنداح الآراء خلف كل فكرة، وهو يضيف موجهاً ومعلقاً، متحفاً ضيوفه بما تفيض به قريحته). وأضاف الدكتور (محمد) أن الشيخ (عثمان) صاحب قلم سيال يكتب الشعر مثلما يكتب النثر لا يعوزه في ذلك تفكير. (سمعته في بعض المناسبات يلقي شيئاً من نظمه، وما بعثت إليه بطاقة زواج إلا وأجابني عليها بقصيدة.. وهناك مسألة في حياة الشيخ ربما جهلها كثيرون وهي أنه قارئ متميز لا يدع الكتاب حين يحصل عليه إهداء أو سواه إلا ويقرأه وقد يعلق عليه، وهذا مصدر آخر من مصادر فكر الشيخ أعني تعليقاته على الكتب..). أما الأستاذ الأديب (حمد القاضي) فيقول: (لقد كان الشيخ (عثمان) وهو في صحته رغم كبر سنه نادراً ما يذهب الإنسان إلى مجلس عزاء إلا ويجد الشيخ متصدراً صدر المجلس يدعو ويواسي وينشر أشرعة الطمأنينة في قلوب أصحاب العزاء.. وفي فضاءات الأفراح قليلاً ما يشارك المرء منا إلا ويجد الشيخ الغالي في الفرح حتى عندما بدا ينهكه التعب – حاضراً ينشر البسمة المضيئة، والكلمة الطيبة، والتهنئة الصادقة متوكئاً على شيمة حبه للناس قبل اتكائه على عصاه.. أما في دارته – رحمه الله – فإنك قليلاً ما تجده وحده في أي وقت وفي أي فصل حتى عندما دبّ الضعف إلى جسده، كان لا يخلف ميعاداً، كان يجلس في باحة منزله يستقبل ويشفع وينثر طيور الفرح بأحاديثه وطرفه، ويجعلها تغرد في أفئدة زواره ومريديه).. هكذا روى بعض من عرفوه والتقوا به بعد تقاعده وهم كثر كيف ألزم نفسه بالبرنامج الذي رسمه لنفسه. ولقد تأثرت كثيراً وأنا إذ أختم هذه الحلقات، برثاء الأستاذ الأديب (سعد البواردي)، وهو رثاء نابع من القلب وفيه صفاء وشفافية. مما قاله في رثائه:لم يكن (الشيخ عثمان) نكرة كي أعرفه..عرّفنا بنفسه من خلال حياة حافلة بالعطاء..صنع جيلاً من الرجال في زمن عز فيه الرجال..ربى فأحسن التربية..وأعطى فأحسن العطاء..وأوفى فأحسن الوفاء..من مدرسته تخلقت مفاهيم..وحلقت أذهان.. وأشرقت عقول بعد أن نضجت على موقد التربية الذي كان هو نفسه موقداً بطاقة الحزم.. ووقود العلم.. ومثابرة المعلم المربي. عثمان الصالح أحد رموزنا في عالم التربية ودّعنا.. وأودَعنا بعد رحيله سيرة معطاءة ثرة يحسده عليها الكثيرون والأكثر.. يحمده عليها الأكثر.. ويجددها ذكرى عطرة الكثيرون والأكثر.. ما أكثر الذين يرحلون وهم على قيد الحياة.. وما أقل الذين يبقون ذكراً وحياةً بعد رحيلهم..)وفي ختام هذه الحلقات أتوجه بالدعاء لله – سبحانه وتعالى – أن يتغمد شيخنا المربي الفاضل بواسع رحمته، ويغفر له، ويلهم سائر أفراد عائلته ذكوراً وإناثاً الصبر والسلوان، و{إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.


ورحل عملاق (9-9) عثمان بن ناصر الصالحورحل عملاق (9-9) عثمان بن ناصر الصالح
الناشر: جريدة الجزيرة

– العدد: 12272

تاريخ النشر: 05/05/2006م

الرابط للمصدر

ورحل عملاق (8-9)

ومارس الأستاذ (عثمان الصالح) العملية التربوية والتعليمية لمدة ثلث قرن في كل من (المجمعة) و(الرياض). فما هي الدروس التي استفادها خلال هذه الفترة المديدة؟ وما هي التجارب التي مرَّ بها عند ممارسته للعملية المشار إليها لاسيما وأنه كان قريباً من ولاة الأمر والكثير من أبنائهم في عهدته؟ هل كان قاسياً أم لَيِّنَ الجانب؟ وهل كان يحسب للكثير من الأمور ألف حساب؟ هل كان يستشرف الزمن من بُعْد؟ أم كانت حدود نظره عند قدميه؟ وما هي وجهة نظره في الوسائل التعليمية بين الأمس واليوم وبالأخص منها استعمال العصا والطبشور والحاسب الآلي؟ وأنا ممن استُعْمِلَتِ العصا ضدَّهُ في (مدرسة الأحساء الابتدائية) العملاقة حينما كنتُ فيها طالباً؟ طُرِح على (بوناصر) بعضٌ من هذه الأسئلة بعد أن تخلَّى عن العملية التعليمية في جريدة (الجزيرة) بتاريخ 28-3- 1424هـ فكان جوابه من واقع تجربته: (التعليم بين الأمس واليوم له مغزاه وله مدلوله ذلك أن له أسسه، وأعتقد أننا لو عُدنا إليه اليوم لوجدنا فارقاً بين الماضي والحاضر، ذلك أن التعليم القديم له رهبة، وله تأثير، وله بقاء في النفس، ذلك أن المادة التي يأخذها الطالب عنصر كامل، والتربية تجمع بين نوعين: النوع التربوي الذي يتلقاه الطالب في المدرسة، والنوع التربوي الذي يتلقاه في البيت، وكلا النوعين ممتاز ومؤثر. أمَّا العصا أو وسيلة الإيضاح ورماد الطباشير أو شاشة الحاسب الآلي فلا شك أن الطباشيرة أدَّت في ذلك الحين دوراً كاملاً، وكانت أداة طيعة وموفقة تلتقي مع العصا الذي نعيشه في ذلك الحين، أما الحاسب الآلي فشيء جديد وشيء لا أستطيع أن أجيب عنه لعدم معرفتي به ولكن أعتقد أنه يحسن استعماله، ويحسن أن يكون في مدارسنا، وفي إدارتنا، وفي كل أمر من أمورنا. أما العصا وما شابهها فلم تكن كما يقول الناس يضربونه على أم رأسه، أم يفتكون به أو يكون طريح الفراش من ألم الضرب وتأثيره المبرح. فالعصا تخيف وترهب ولكنها لا تستعمل إلاَّ في الحالات النادرة التي يجب أن تستعمل فيها حتى اليوم. وأعتقد أن العصا تركها بتاتاً، وعدم استعمالها في الحالات الضرورية لا داعي له ولو أنه عصر شاشات الحاسب الآلي. ولو عدت إلى التعليم مرة ثانية لاستعملت الماضي بصلابته وقوته، واستعملت الجديد بحدته وطراوته. وهذا التعليم الذي نستعمله اليوم لا شك أنه جميل ومحبوب ويجاري روح العصر. ولكن المادة يأخذ (التلميذ) وصفها ولكنه لا يحفظها، ومن هنا يتخرج التلميذ وهو يعرف المعنى ولكنه لا يستطيع أن يأتِي بالنص كاملاً).وباعتباره مربياً أو لأنه تشرَّب العملية التربوية حتى الثمالة كما يقال فهو لم يترك العمر الذي قضاه في حقل التربية والتعليم دون أن يقيد أوابده وشوارده في بعض المقالات التي نشرها أو في بعض المقابلات الصحفية التي أجراها، ذلك أن العملية التربوية والتعليمية في قلبه ودمه. فهو كثيراً ما تحدَّث عن بدايات العملية التربوية والتعليمية مما هو مكنون في ذاكرته. ولي مقالة بعنوان (أضواء على تربيتنا) ناشدتُ فيها من يهمه الأمر بالعناية بتربية الطفل وكذلك تعليم أمه كنتُ قد نشرتُها منذ نصف قرن في (دليل نشاط مدرسة ثانوية الأحساء لعام 1375هـ، فوجدت صدىً لهذه المقالة في آراء وبحوث تربوية لشيخنا (بوناصر) عن تربية الطفل وتعليم الأم كان قد نشرها في مقالتين في جريدة (الجزيرة) في عام 1411هـ، وهي بحوثٌ أملتها عليه حالة التجربة التي عايشها وعاصرها في كل من المجمعة والرياض. وكان من رأيه أن العناية بالطفل أساس التربية، والبوصيري يقول:
وَالنَّفْسُ كَالطِّفْلِ إِنْ تُهْمِلْهُ شَبَّ علَى ….. حُبِّ الرِّضَاعِ وَإِنْ تَفْطِمْهُ يَنَفَطِمِ
ومن واقع تجربته يقول الشيخ (عثمان) عن حالة الطفل وإن كان قد وجَّه كلامه إلى مربيه: (والطفل أكثر ما يكون تقليد! وعليك أيها المربي أُمّاً أو أباً أو مربياً أو معلماً.. أو مسؤولاً وموجهاً ألاَّ تلزم الطفل بالتقليد لئلا يكون الأمر صناعيا بحتا.. لهذا يجب أن يصدر التقليد من الطفل.. عن نفسٍ راغبةٍ مختارةٍ بعد التحبيب والترغيب له في ذلك الشيء المفيد.. والتقليد عكسي ووقتي وتمثيلي وقصدي واسمي، وكل واحدة من هؤلاء لها في نفس الطفل مكان، ولكن عليك أيها المربي أن تنفحه بتوجيهٍ للتقليد الأسمى الذي تُنمِّي به روحه، وتوصله إلى الكمال النفسي الذي هو أشرف أنواع التقليد للأخلاق الكريمة والمعانِي السليمة.. والطفل ينْزع إلى حب التملك وعدم مشاركة أحد له في سنواته الأولى، فلا تجمع بين يديه إلاَّ ما كان له قيمة كالأزهار والنقود وما أشبه ذلك. وشيء مهم جداً وهو التكوين والتخريب فإنهما غريزتان تبعثان في نفوس الأطفال سروراً وارتياحاً واضحاً، وبسببهما إظهار قوته جليةً واضحة، أو حب الاطلاع على ما سيصير أمر شيء بعد التكوين والتخريب.. وشيء من التشويق والتوجيه يستطيع الطفل أن يعود إلى البعد عن هذا بحسن التفهيم بلا قسوةٍ ولا إكراهٍ مع زرع الانتباه في نفسية الطفل شيئاً فشيئاً.. وأن يعنى المربي كل العناية بأمر الانتباه الاختياري لا القسري.. في غرس النشاط في الأطفال إلى الدروس في الصباح وعمل البواعث على ذلك، وعلى المربي أن يزرع في نفس الطفل الملاحظة والمضاهاة في النظر للأشياء والتسمية ليعلُق في الذهن كل ما هو جميل، ويبقى في فكره حياً مرسوماً لأن هذه الصفات إذا ثبتت في نفسه تَمَّتْ مداركه التي يعوزها الضبط والكمال.. ولهذا فغرس عادة البحث في الأطفال توصل إلى الحكم العام تدريجياً ويصير التطبيق سهلاً.. ويجب أن يفهم الأطفال أن هناك كثيراً من الأشياء التي لا يمكن إدراكها وهم في طور الحداثة، ويجب أن يعوَّدُوا (على) قبول بعض الحقائق من غير جدال.ما سبق بعضٌ من آراء ومقترحات المربي الفاضل في التربية وهي قليل من كثير مما تحدَّث عنه بلسانه في مدرسته ومعهده، وبقلمه للخاصة والعامة.ومما هو غير معروف عن شيخنا أنه حينما يكتب أو يتحدث عن أي موضوع من طبيعة تاريخية أو أدبية أو جغرافية تجده يروي من مخزون ذاكرته ما تستفيد منه. فعلى سبيل المثال لنرى ما رواه عن العقير. وقبل أن أرى ما قاله لعلَّه من المناسب التمهيد لذلك بنبذة عن العقير. يقع العقير على ضفاف الخليج العربي الغربية. وللعقير تاريخ يعرفه (ياقوت الحموي) و(الأزهري) و(الصاغاتي) والكثير من جغرافيي العرب ومؤرخيها منذ العهد الجاهلي وحتى عصورنا الحديثة. وبالعقير آثارٌ مطمورةٌ تشهد على عظمة ماضيه وإن كان لم يكشف النقاب عنها بعد. وبه ميناء كانت له أهمية بالغة على مر العصور لكل من نجد والأحساء. إذ هو ثغرهما منذ القدم، وعن طريقه كانت البضائع والخدمات تنتقل إليهما فيما بين البلدان العربية الواقعة بشرق جزيرة العرب وبلدان فارس والهند وسرنديب وسومطرة. وأورد علامة الجزيرة الشيخ (حمد الجاسر) من وصف (ابن الزجاج) في رسالة إلى ديوان الخلافة العباسية من أن العقير دهليز (الأحساء) ومصب الخيرات منه إليها، وكثرة الانتفاعات التي جل الاعتماد عليها). ومنذ استرداد جلالة الملك (عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود) الأحساء في عام 1331هـ وحتى أواخر الستينيات من القرن الهجري الماضي كان ميناء العقير هو الثغر الوحيد للمملكة على شواطئها الشرقية. وعاصر هذا الميناء أمجاداً إذ على ضفافه في العهد السعودي حط الرواد الباحثون عن البترول رحالهم فيه. واتخذ اسمه مسمى لاتفاقية سعودية – بريطانية شهيرة وُقِّعَتْ على ضفافه في بداية الأربعينيات من القرن الهجري الماضي. في هذا الخصوص – وهنا بيت القصيد – يروي الأستاذ المربي الشيخ (عثمان الصالح) أن للملك (عبدالعزيز) رحمه الله مقولة مشهورة عندما كان (بالعقير) هي: (الآن عرفت أن لي دولة وملكاً، وقد ملكت منفذاً بحرياً على العالم). ويضيف (بوناصر) أن ميناء العقير هو ميناء المنطقة الوسطى)


ورحل عملاق (8-9) عثمان بن ناصر الصالح
الناشر: جريدة الجزيرة

– العدد: 12271ت

اريخ النشر: 04/05/2006م

الرابط للمصدر 

ورحل عملاق (7-9)

بعثتُ برسالة في عام 1412هـ للأستاذ المربي (عثمان) وبرفقها هدية هي (دليل النشاط الثقافي لمدرسة ثانوية الأحساء لعام 1375هـ) للاطلاع عليه نظراً لما يكنه في قلبه من محبة لبلاد (هَجِر)، ناهيك عن تتبع أخبار أدبائها وعلمائها، وهي محبة عبَّر عنها – حقيقةً – بلسانه وقلمه وشعره.وكان (دليل النشاط) مجرد هدية. وما كنتُ أتصور أنه سيكون لهذه الهدية صدى عجيب لدى أستاذنا لأنني تعوّدت أن أهدي للبعض فلا ترد منهم حتى مجرد كلمة شكر، ولله في خلقه شؤون.وشيخُنا (عثمان) ممن يقدِّر الهدية ويثمِّنها. وَصَدَقَ قاضي (الأحساء) حينما نعت (بو ناصر) بأنه ذو فضل، وسداد رأي، وخلق نبيل. ويحتوي الدليل على مقالات صغيرة للطلاب، وعلى بحوثٍ وآراءٍ لأساتذة المدرسة ومعظمهم من أبناء الكنانة منهم: إبراهيم عمر ربيعي، وإبراهيم فتحي البرماوي، وعبدالمنعم حسين، وعبدالرؤوف نعمة، وأحمد محمد حنة، وإبراهيم داوود حسَّاب، وحامد حامد عبدالقادر، وخالد الكرداني، ومحمد حسن غنيم، ومحمد حسن محمد أبوعينة، وصلاح محمد الجزار.بعث المربي الفاضل برسالة شكر لي، ولكنها ليست، في حقيقة الأمر، رسالة. إنها رسالة أديب واعٍ مطلع. وظلّت الرسالة حبيسة أوراقي المبعثرة.ومن أجل ذكراه ورغبتي أن يشاركني، من يعز ويحب صاحبها، في تأملها لما احتوت عليه من أفكار نافعة، وفوائد مفيدة، وآراء سديدة، وتعليقات خفيفة طريفة، ناهيك عن مدى محبته (للأحساء) لدرجة أن المرء يخيل له أنها مسقط رأسه.جاءت الرسالة في أسلوب أدبي ذي أشكال بلاغية معتمدةً على الشرح والتوضيح وذلك عند تعليقه، ناهيك عن قدرته على تخير ألفاظه بحيث تكون عذبة مستساغة محببة إلى النفس.والرسالة كما يلي: معالي الأستاذ الدكتور محمد الملحم.(تحيةً واحتراماً: تلقيت خطابكم الرقيق الذي صحبه النشاط المدرسي من المدرسة الثانوية بالأحساء.. هو في عام 1375هـ، وكأنه في عام 1412هـ. مما يدل على وعي التعليم.. ولكن (الأحساء) سابق بما فيه من (المرابد) في بيوت أبناء الأحساء.. كانوا وما زالوا أعلام علم وأدب، وما زالت البيوت على ما هي عليه من وعيٍ وإقبالٍ.. على تغذية الفكر.. ولكن أولئك يحتاجون إلى الشجاعة. إنهم يمشون على استحياء في مواجهة الجهر بالأدب والنطق بالكلمة.. والجهر بالبحث.. وإذا كانوا ليسوا بخلاء في البذل في تغذية الفكر بما يجب أن يكتب وينشر فإن واقعهم منشور، وعن الماضي المشرق غير مبتور، ويعوزه القيد، والقيد يحفظ العلم والأشخاص والأدب والأدباء.. إن ذلك توثيق.. لكن هذه النبذة التي صورت عام 1375هـ نبذة وثيقة.. تنبئ عن الحقيقة.. قرأتها حرفاً حرفاً، وسأحتفظ (بها)، وأريد أن أكتب عنها بإذن الله كتابةً وافيةً بعد أن أستعيد النشاط.. إن ما نبهت عليه، وأرشدت إليه هو على بالي.. أما (التأليف المدرسي مفقود) بقلم محمد بن عبدالله بن عبدالمحسن الملحم كلمة واعية تصلح لتكون ألبوما.. أما كلمة (عمران العمران) فقد أنبأت عن شاعريته، ونمّت عن عمقه.. وشفّت عن أدبه ليكون شاعرا اليوم طالب الأمس، فلا يتحدث شاعر إلا عن شاعر وما – المعري – إلا من أولئك الجهابذة في الأدب.. والأكابر في الشعر.. والفطاحل في الرأي.. ويكفي أن نعلم أنه أي العمران كتب عن شاعر الأحساء أو متنبي الأحساء (ابن مقرب)، ولهذا فقد بدرت مواهبه، وبرزت مناقبه بعد أن اشتمَّ رشده الأدبي.. فتحية للعمران.. أما تربيتنا والأضواء عليها تلك التي حفلت بها بضع صفحات بدأت من 75 إلى 80 فإنها اليوم هي المطلوب، وهي الهدف، كانت بالسابق مستوحاة من حاضرهم، واليوم مستوحاة من ماضينا، وفقدانها – مع الأسف – من حاضرنا وليست فيه. نُطْريها.. ولا نبينها.. ونشدو بها ونحدو.. وهي عن حاضرنا وعنا تعدو.. يا لها من كلمة.. إن جماعة الخطابة والمناظرات صفحة – 81 – عجيبة أحببتُها في – اليمامة – وأنت فيها ومنها ولها في ندوةٍ حضرتها، ونلت فيه الجائزة الأولى في الارتجال والمناظرة معاً.. وأنا أول من سلم عليك، فقد كنت ممن أكرموه بهذه الندوة الناضرة.ولعل حديث – إبراهيم الربيع – في السياسات والأيديولوجيات التي أخفقت اليوم في عالمنا الحاضر إذ ركعت أمام الإسلام والحقيقة والواقع.وتجلى (الملا) في كلمته عن العالمية ومثلها (محمد المشاري الحسين) كل أولئك مفكرون، وبرزت أفكارهم ومقدرتهم ونبوغهم في عالمنا الحاضر.كل في فنه أضحى أميراً، وفي معرفته قديراً. والنشاط المدرسي تتبعته بتدبرٍ.. وتفكرٍ فكانت صفحاته الخمس واحة فينانة.. وحديقة أدب ريانة.. وللأحساء وعنه حديث نيّر.. من كاتب خيّر هو – عبدالله بن علي بن مبارك – أربع أوراق (ثماني صفحات) مشرقة المعاني، واضحة الأهداف.. عن بلد شريف.. وبقعة خضراء، وواحة ذات مياه ونخيل، وارفة الظلال، عريقة الأحوال منذ القدم وإلى اليوم وهي ريف الجائع، وكساء العاري.. وغذاء البلاد والعباد (يُخلاصِها وشَهلِها وشَيْشِها) الذي هو الحلو.. وهو الشبع والكنز الثمين.. في بلد أمين.. وعلّق عليها – إبراهيم البرماوي – بحديث شائق وتعبير رائق بما في (الأحساء) من كل جميل وفائق.. إنه معلم، والمعلم عليم يعرف العميق والصحيح بلغةٍ متينةٍ، ومعانٍ ثمينة.. وللصفحات الست مكانة في نفسي وانطباع في قلبي. والرياضة لها مقام فهي جمال الأجسام.. كالعلم الذي يبني الأفهام.. وفي ذلك المدرس – عبدالمنعم حسين – بسبع صفحات بالخزامى مورقات وبالأنوار نافحات. والجمعية التاريخية لها مكانة في النشاط حفية.. وصفها الأستاذ – عبدالرؤوف نعمة بأوصاف ندية. وله من هنا وهناك في صندوق الاقتراحات.. أفكار طيبات، وآراء صائبات في ثلاث، وكانت فيها الأضواء الناصعة والاقتباسات الساطعة.. والآراء اللامعة.وتلاها من النوادر الأدبية والألغاز الخفية.. ما يفتح الأذهان ويلقح الأفكار برائق النوادر.. مما يحيي المشاعر.. وأحسن – إبراهيم عمر ربيعي – عن الإجابة لكل سؤال. ولكن استشهاده بيتي (عنتر) عن الذلة والعز.. فالذل منبوذ والعز مطلوب ولكن جهنم ليست أطيب منزل نعوذ بالله من جهنم.وأفكار أحمد محمد حنة – كلها حقائق عن الأحساء بحتة. ألذ من الخبز والفتة – بمرق اللحم ومائع الشحم!! ووقفت إعزازاً وإكراماً للكلمة في تربية الطفل للأستاذ (خالد الكرداني) فإنها أصابت المعنى.. وهدفت إلى ما هو أغلى وأسنى.. والمشكلة الغذائية. لو صبر الإنسان لأغنتنا الأرض الأحسائية.. وصدق – حامد عبدالقادر – بلفظه المليح وقوله الصريح. ومدح الطالب الأحسائي من الأستاذ (إبراهيم حسَّاب) لم يخرج عن الصواب، فثلاث صفحاته جزء من أفكاره واقتراحاته.. فرحم الله أولئك القوم فطالما قالوا فسمعْنا.. وأمروا فأطعْنا لأنهم أهل صدق في القول ونفع في العقل.. وَخُتِمَتْ الأفهام.. بمعلومات صادقة وحقائق ناصعة.. ومكتبة المدرسة حافلة بالكتاب.. رافلة بكل ما لذّ وطاب.. والمكتبة دائماً هي المنهل بالنُّدر من العلوم المدونة.. والأفكار المصونة.. ومدرسة بلا مكتبة كمن هو في العراء بلا غطاء ولا كساء.. وليت أن الكاتب – محمد الجزار – فأقول له أحسنتَ فيما قلت وما به فهت.. ورحمة الله على مكتبة الفصل فقد وئدت في تغريباب في مدرسة هي بدونها خراب.. المكتبة للمدرسة والفصل معاً كنا نراها مهمة في مدارسنا الأولى.. أما تقرير عن النشاط فإنه يلوح لي من أصالته وعراقته ما يعطي الطالب عطاء.. ويبني الفكر والذهن.. ويصقل المواهب وقد أحسن في وصفه ورصفه -محمد غنيم- ونشيد الكشافة فيه معنى الأدب والوطن والعلم والطموح.. والألعاب والغرض منها اتضح صحيحه، وبرزت فائدته بما ذكره -محمد حسن- وهو من قبل صريح صحيح وفي عهدنا مُتَكَلَّفٌ… عزيزي تحيةً على عجل فمعذرةً، وإلى لقاء مستقبلاً لأكتب عنه كتابةً وافيه. المخلص).الرسالة، كما سُطِّرَتْ، جادة في موضوعها، وقد جاءت بقلم المربي الفاضل في عبارات سهلة لا تكلّف فيها، بل إن الشيخ (عثمان) قد تحدّث على سجيته، جاعلاً خواطره تتداعى ذلك لأن ما ورد في دليل نشاط مدرسة ثانوية الأحساء قد أثار في نفسه ذكريات وشجوناً كان هو من صناعها في (معهد الأنجال) لدرجة أن (الدليل) كما لو كان هو (دليل) عن نشاط (معهد الأنجال).. أقول هذا لأن (أبوناصر) قد قرأ ما ورد (بالدليل) كما قال في رسالته حرفاً حرفاً، حيث اهتم كثيراً بما سطَّره من أفكارٍ عن أساتذة أوائل من أرض الكنانة. أَخَذَ يسميهم اسماً اسماً كما لو كان يعرفهم معرفةً شخصيةً، ويعقبُ على ما قالوه في الدليل بالثناء والرمز، واللبيب تكفيه الإشارة كما يقال. ولعل لهم نظائر في (معهد الأنجال). هذه القراءة المتأنية لدليل نشاط مضى عليه أكثر من نصف قرن تأخذ طريقها للنشر هذه الأيام وكأنها تحكي عن حاضرنا. وورد بهذه القراءة المتأنية لبس في اسم رأيتُ وقتها ضرورة تصحيحه فكانت الرسالة القصيرة الموجهة للشيخ (عثمان) في 8- 3-1412هـ. وورد بالرسالة بعد التحية ما يلي: (تسلمتُ رسالتكم الرقيقة ذات التعليقات اللطيفة على دليل النشاط الثقافي لمدرسة ثانوية الأحساء لعام 1375هـ. وهذه التعليقات تنمُّ عن بصيرة نافذة وصالحة للنشر. ولم يتسير نشرها آنذاك).وقبل أن أختم هذه الرسالة بودي تصحيح بعض لبس ورد في رسالتكم عن الأخ (عمران بن محمد العمران) الذي كان زميلاً لي بالمدرسة وهو الآن من رجال الأعمال ويشغل كذلك رئاسة مجلس إدارة البنك السعودي الفرنسي بالرياض وهو ابن عم الأستاذ الأديب (عمران بن محمد العمران) رئيس مصلحة المياه والمجاري بالرياض وصاحب كتاب ابن مقرب، الشاعر العملاق والذي لقبتموه، بحق (بمتنبي الأحساء). ولإزالة هذا اللبس أحببت التنويه عن ذلك. ولكم أطيب تحيات


ورحل عملاق (7-9) عثمان بن ناصر الصالح
الناشر: جريدة الجزيرة

– العدد: 12270

تاريخ النشر: 03/05/2006م

الرابط للمصدر

ورحل عملاق (6-9)

ووصلت قصيدة الاعتذار للقاضي (بو يحيى) من المربي الفاضل، وفي الحال حبر (بو يحيى) قصيدةً أبان فيها الكثير مما خفي من مآثر وخِلال ومناقب (بو ناصر). جاء في مطلع القصيدة:

(أعثمانَ بن صالح) من تسامى ….. بأخلاق بها اجتاز الغماماوأعمالٍ تجاوزت الثريا ….. وآدابٍ بها بلغ المراماوأوغل في العلوم فحاز منها ….. نصيباً وافراً أثرى وداماويا شيخ المآثر والمزايا ….. بلغت بكل مأثرةٍ مقاماففي التعبير توّجت المعاني ….. بألفاظٍِ لها صارت وساما
وبعدما تحدث القاضي (اليحيى) عن بعضٍ من مآثر وخلال ومناقب المربي الفاضل رأى بثاقب بصره أن ينوه عن واحدةٍ منها، إنها دوره حينما كان في مقعد الصدارة (بمعهد الأنجال) معلماً وموجهاً وقائداً حيث كان من مجهوداته تخريج رجال جهابذة:

وفي التعليم صُلت وجُلت حتى ….. بلغت به مكاسبَه العظامافها هو معهد (الأنجال) يروي ….. عن الماضي مفاخرك الجسامافمن مجهودك المشهور أهدى ….. إلى الدنيا جهابذةً كراما
أما عن صولات وجولات (بو ناصر) في التأليف وفي الإسهامات الصحافية فقال عنها:

وفي التأليف أبرزت الخفايا….. مسطرةً وأبديت اهتماماوفي فن الصحافة شدت صرحا ….. فنمّقت الكتابة والكلامابأسلوبٍ بديعٍ مستطابٍ …… صريحٍ هادفٍ ماضي أماما
أما عن شاعرية (بو ناصر) فيدل عليها شتى الأشعار التي حبّرها، وهي شاعرية ذكّرت (القاضي بو يحيى) بشعرائنا القدامى:

وفي الشعر الفصيح قطعت شوطا ….. بعيداً ذكّر القوم القدامىفمنه أتت محبّرةً تهادى ….. إليّ خريدةً تحكي انسجاماوتفتن في رواها من يراها ….. ويسمعها فتورثه هيامالقد شقت عباب البحر عذبا ….. إلينا (وافراً) صحبت همامافأهداها وسايرها فحلت ….. بأروع موكبٍ ورد الخياما
وختم قصيدته مزجياً الشكر الجزيل للمربي الفاضل (أبي الآداب)، السباق للمكارم، والداعي للمودة والوئام، وما أفضلها من دعوة:

فأهلاً ثم أهلاً ثم أهلاً ….. مكررةً به وبها دواماوشكراً يا (أبا الآداب) شكرا ….. فبالآداب أمسكت الزماماوسابقت المكارم في رباها ….. وحبذت المودة والوئامافأُهدي في الختام إليك شكري ….. شذياً والتحية والسلاما
وحينما كان المربي الكبير في ضيافة القاضي (بو يحيى) وعد القاضي بأن يهدي (لأبي ناصر) ما تجيش به خواطره من قصيد. عن الوعد الذي نُفذ قال المربي الفاضل لمضيّفه الذي يكن له أخلص المودة:

وعدْتَ أخاك وعداً يوم كنا ….. لديكم في مكانكمُ الجميلبأن تهب القصيد لنا فلم لا ….. وفيت وأنت ذو الرأي الأصيلنحبك يا (ابن يحيى) حبّ صدقٍ ….. وما هو بالضئيل ولا القليل

وأجابه فضيلة القاضي (اليحيى) بسبعة أبيات كرر فيها ما سبق أن قاله في (بو ناصر) من صفاتٍ، منها أنه ذو فضلٍ، وسدادٍ رأي، وخلقٍ نبيل، وأرفق بالأبيات ثلاث قصائد من تحبيره:

إلى ذي الفضل والرأي الأصيل ….. وذي الإقدام والفعل الجليلوذي الأدب الرفيع وذي المزايا ….. وذي الإدراك والخلق النبيلإلى (عثمان صالح) من تسامى ….. بباعٍ في مواهبه طويلأزف تحيتي وعميق ودّي ….. بباقات من الشعر الجزيلأتاني منكمُ شعر رقيق …… أعاد لي القريض من الأفولوقلتم فيه إن عليّ وعداً ….. لكم بقصيدة من بعض قيليفهاكم من قصائدنا ثلاثاً ….. وشكراً يا أخا الشكر الجميل
ولم يقتصر نشاط الشيخ عثمان الصالح على تزويد المجلات والصحف بمقالاته الأدبية فحسب، بل كان يتعدى ذلك حيث كان قارئاً دؤوباً لما يكتبه الآخرون. وله على ما يقرأ من شعرٍ وأدبٍ منشورٍ تعليقات مفيدة وملاحظات عابرة ذات صدى. كان (بو ناصر) مرهف الحس في نقده الأدبي، كما كان الراصد الأمين، كما سبق القول، لما يكتب من أدبٍ وينشر من شعر.وعلى سبيل المثال، كنت قد نشرت في جريدة اليوم في عام 1410هـ قصيدةً طويلةً بعنوان (مرثية عين البحيرية) لشاعر الأحساء الكبير (محمد بن عبد الله بن حمد آل ملحم) في عدة حلقات. وهي قصيدة كانت ضمن مخطوطات الشاعر، ولم تنشر من قبل. وجاء في مطلع القصيدة:

عين من الماس أم عين من النور….. أم اللجين جرى في بحر بلورأم هذه الشمس أم تلكم أشعتها ….. بيض وصفر أذيبت في قواريربل ذي (البحيرية) المدرار طاميةً ….. زمرداً بين ريحانٍ وكافور
وأُعجب المربي الفاضل (بو ناصر) بأبيات القصيدة، وعبر عن مدى تفاعله وإعجابه في رسالة أدبيةٍ وجهها لرئيس تحرير جريدة (اليوم) ضمن مقالة تحت عنوان (عبارات.. وملاحظات). ونشرت جريدة (اليوم) الرسالة الأدبية في 23-11-1410هـ، ومما جاء في هذه الرسالة: أخي خليل الفزيع.. المحترم بعد التحية، تصل إليّ جريدة (اليوم) وفيها ما لذّ وطاب من فصيح القول وجميل الكلمات.. وطاب لي أن أشكركم شخصياً على المتابعة المستمرة لنشر مصطفى الشعر ومختاره للشاعر – محمد بن عبد الله بن حمد الملحم -. إن هذا الشاعر المجيد (بضم الميم) من الشعراء الذين لهم شاعرية خصبة وملاحم معروفة ولكن شهرته لم تتعد مكانها.. وبنشركم ذلك تباعاً من ديوانه يعطي عن الملحم (نوعية) من الإعلام عنه، والتنبيه عما تتحلّى به قصائده من بيان وبلاغة في ديوانه.. وإذا كان لديكم ديوان مطبوع له فأود إمدادي به وإسعادي بالتفضل به، أو إشعاري عن المكتبة التي يباع بها لأجتنيه منها لأن شعره لتبدو عليه السهولة واليسر، وما قال في عين البحيرية له أهمية في وصفها.. فيها عيون مبصرة من الشعر.. وفرائد أبيات عجيبة كقوله:

تدفق الماء وانسابت جداوله ….. على نظامٍ مدى الدنيا ودستوريروي المزارع رياً قدر حاجتها ….. ولا يزال بها يدور كالسورفما يفارقها آنا بدورته ….. وما يزيد فصرفاً وجهة البوربين الخمائل والأشجار وارفةً ….. تجللت بالضحى ثوب الدياجيرلا تظهر الشمس من أوراقها فترى ….. إلا مبعثرةً مثل الدنانيرخريرها الشعر إلا أنه نغم ….. يفوق ترنيمه لحن المزاميرناجى بها الغصن والأطيار صادحة ….. ما بين منطلقٍ منها ومأسورما أجمل الليل إن الليل يؤنسني ….. إن صحت يا ليل في طولٍ وتقصيرأرجع الشعر فيه كل آونةٍ ….. وحسبي الشعر من فن وتعبيرأصوغ فيه شعوري كل قافية …… تغري الخليّ وتشجي كل موتور
ويواصل الشيخ (عثمان) القول في رسالته الأدبية: انتق هذه الأبيات والحسن لها لباس، والجمال لها تاج، والربيع من أنفاسها يفوح، وصدق العاطفة من عبيرها يموج. ومن قطعة يقول فيها:

بين النخيل وماء العين منسكب ….. ينساب حولي لجينا في قواريرمن (البحيرة) لا غاضت منابعها ….. ولا أصيبت مدى الدنيا بتعكير
ويخاطب الشباب فيقول:

ويا شباب العلا صونوا شريعتكم ….. مما يدبر أعداها لتدميويا شباب العلا كونوا على ثقةٍ ….. وشمّروا للعَمَالي كل تشمي

ثم يوجه الكلام إلى الملك (فيصل) فيقول:

ويا مليكي حبيب الشعب عشت لنا ….. سيفاً وغيثاً يقينا كل محذورمحكماً شرعة الإسلام في زمنٍ ….. قد خيم الجهل فيه كالدياجيرفشرعة الله لا نبغي بها بدلا ….. فما لنا ولتأليف الدساتيروعشت يا ناصر الإسلام في دعةٍ ….. وفي سلامٍ وفي أمن وتقدير وعاش من حولك الشعب الوفي لكم ….. يفديكم بالغطاريف المشاهير
ويقول، وقد عادت (عين البحيرية) بعد خرابها:

حتى إذا شاء ربي بعثها بُعثت ….. بالرغم من كل شيطان وشرّيرأمدها (الفيصل) الباني بنجدته ….. جاءت أوامره في شكل تقريرواليوم أشهدُها حسناء ثانيةً ….. عادت لسيرتها الأولى بتوفيرعُزت وذُلت وشيدت بعد ما خربت ….. وهكذا الكون في هدمٍ وتعمير
ويواصل الشيخ (عثمان) قوله في رسالته: (وهكذا قد نقلتُ لكم ما اخترت من أبيات جيدةٍِ في سبكها وإن كانت تفتقر إلى الجزالة في المفردات اللغوية، ويميل (الملحم) إلى شعر العلماء والنظم إلا أنه في مجمل شعره ينحو نحو التقليد بنظر ثاقبٍ وتفكيرٍ صائبٍ وفيه تجديد أيضاً). ومن ثم توجه الشيخ (عثمان) في رسالته إلى رئيس تحرير (جريدة اليوم) قائلاً: (وبودي لو استعرضتم شعراء المنطقة من القطيف ومدنه ففيه شعراء أصيلون وأدباء كثيرون. لو جعلتم لكم منهم دراسةً كالتي قدمتموها صامتةً (لمحمد الملحم)، وتجعلون له تعاليق تزيدها تنويراً وجلاءً أكثر مما عملتم مع (الملحم). هذا الكتاب للأخ الكريم لأعلمك بأنني قرأت ما كتبتم عنه، وله (أي للملحم) في نفسي مكانةً، ولا شك أنكم ستُشكرون إذ تعنون بأدباء البلاد وشعرائها وإزاحة الغبار الذي يغطي كفاءة أولئك). انتهت الرسالة.


ورحل عملاق (6-9) عثمان بن ناصر الصالح
الناشر: جريدة الجزيرة

– العدد: 12269

تاريخ النشر: 02/05/2006م

الرابط للمصدر

ورحل عملاق (5-9)

وأثارت رحلةُ الشيخ المربي (بوناصر) الميمونة إلى بلاد (هَجِر) شجونَ وتباريح فضيلة قاضي (الأحساء) الذي لم يسيطر على خياله فأطلق له العنان ليشكُر من لبَّوا دعوته وعلى رأسهم (بوناصر). وبدأ (بويحيى) قصيدته مثنياً على الشيخ (عثمان)، ومنوهاً عن مناقبه وعن استحسانه لقصيدته ذات الحكايا:

أيَا شيخَ المكارِمِ والسَّجايَا …. ويَا شيخَ الفضائلِ والمزاياويا شيخَ القريضِ وكلَّ نثرٍ ….. حوى ما يُستطابُ من الحكاياأتتني غادةٌ منكُم تهادَى ….. كأحسنِ ما يكُونُ من الصَّباياأتت في دلِّها تمشي الهُوينا….. فوافقَ حُسنُها منِّي هوايايُسابقُ خَطوَهَا نحوِي شذَاهَا….. جَلَبتُم لي بها أحلى الهدايا
ولم يكتف القاضي (اليحيى) بمدح قصيدة (بوناصر)، وإنما عنى بمدح القصيدة مدح (بوناصر) نفسه الذي كما قال القاضي، حوى في جعبته الكثير من الأشعار ولكنها مخفية:

فشُكراً يا أخَا العُرفانِ شُكرا ….. على ما صُغتُمُوا بينَ الحَنَايافأنتَ الشاعرُ الفذُّ المُجلَّى ….. وشِعرُكَ مَشمَخرٌ في العَلايَاقليلٌ من كثيرٍ ما بَدَا لي ….. ولكنَّ الخبَايَا في الزَّوايَا
ولأن أسرة (آل صالح) أسرة كريمة ذات أصول عربية معروفة رغب القاضي (اليحيى) أن ينوه عن ذلك مجرد تنويه:

(عُثمانَ بن ناصرَ) أنتَ شهمٌ ….. وذُو فضلٍ وطلاَّعُ الثَّناياأيا فَرعَ الأَكارمِ من سُراة ….. تَنَاهوا في المكارمِ والعطاياوفي أدَبٍ وإقدامٍ وعلم ….. ومعروفٍ وفي حلِّ القضاياأولئكَ عِترةٌ كرُمت وطَابَت ….. وَرَافت في السُّهُولِ وفي الثَّناياوأَنجَبتِ الرِّجالَ وقد تسامَوا ….. بها مِن (آلِ صالحَ) في العَلايَا
ولما للشعر من تأثير في البيان والتوثيق للزيارة رغب القاضي (اليحيى) أن لا يقتصر على ذكر (بوناصر) في هذه الزيارة فحسب، وإنما على ذكر رفيق دربه الشيخ (عُثمانُ بنُ حَمد الحقيل) كذلك مع الإشادة به وبأسرته وأسرة (الصالح) لِما بين الأسرتين من روابط. ولم ينس القاضي (اليحيى) (المجمعة) قاعدة منطقة (سدير) وأهلها حيث خصَّهم بالذكر الحسن:

لَقَد أَتحَفتَنَا (عُثمَانُ) شِعرا ….. وَوصلاً بالزِّيارةِ والتَّحايافكرَّسهَا وأَكَّدها كَريمٌ ….. وتابعَها بعزمٍ في المَضَاياأخُو العَليَاء (عُثمَانُ بنُ حمد)….. حَقيليُّ المَفاخرِ والمَزَايَا(أَبُوحَمد) له في كُل نادٍ ….. مقامٌ بارزٌ تحتَ المَرَايَاأخُو علمٍ وحلمٍ واتزان ….. ونُصحٍ في الظَّواهرِ والخَفَاياوتَوجيهٍ وتنبيهٍ ونُبل ….. وإخلاصٍ وزُهدٍ في الدَّنَايَافأَنعِم بالعَشيرةِ من (حُقيل)….. أُولي المَجدِ المُؤَثِّلِ وَالحَمَايَا هُمُ وَ(الصَّالحُ) ارتبطُوا جميعا ….. (بمجمعةِ السُّديرِ) حِمَى السَّرايَافأَكرم (بالسُّديرِ) وعَامريها….. رفيعٌ مُستواها في البَرَايَا
وأرَّخ القاضي (اليحيى) للزيارة التي كانت في الواحد والعشرين من شهر ذي القعدة عام 1413هـ.

ففي إحدَى وَعشرينٍ توَالَت ….. ومِن ذِي قِعدَةٍ عَبَرت خلاَيَاتحقَّقَتِ الزِّيارَةُ مِنهُما لي ….. مساءَ الأربِعا قَدِمَ المَطَايَا
وكما غمر (بوناصر) (الأحساء) بالثَّناء، ووسمها بمنبع الخير، أضاف القاضي إلى ذلك بأنَّ (الأحساء) بلدُ الجودِ والعلمِ والإحسانِ والمجدِ.و(الأحساءُ) مسقطُ رأس القاضي (اليحيى) وهو خبير بها وبأهلها:

فحلَّ البشر في (الأحسَا) (بهَجر) ….. بلادِ الجُودِ مِدهَالِ النَّضايَابلادِ العلمِ والإحسانِ دوما ….. بلادِ المَجدِ عُنوانِ الشَّذايا
وختم القاضي (اليحيى) قصيدته ناقلاً لضيوفه تحياته وتحيات من قابلوهم من أهل الأحساء بما فيهم الوجيه (سعد المنقور). لم يفت عليه في نهاية القصيدة ذكر مدينة (الرياض) التي وَسَمَها ببلاد العز:

فَحُبُّهمَا وَصحبُهُما جميعا ….. مدى الأزمانِ في كُلِّ الحَنَايامِنَ الزُّملا وأبنائي وصحبي ….. تحياتٌ لكُم دوماً تَهاياتحيَّاتُ (ابنُ مَنقُورٍ) إليكُم ….. تَوَالى في الضَّحايَا وَالعَشَايَاإِليكُم في (رِيَاض) العِزِّ منِّي ….. سَلاَماً شَامِلاً كُلَّ التَّحَايَا
ونظم (بوناصر) قصيدة أخرى أثنى فيها على القاضي (اليحيى)، وتناول في أبياتٍ منها فضل العلم والأدب حينما يتحلى بهما المرء:

(أبَا يَحيَى) إِلَيكَ اليَومَ مَنِّي ….. سَلاَماً نَفحُهُ عَبَقُ الخُزامَا(أَبَا يَحيَى) لَكُم في العلمِ فوزٌ ….. يُزيلُ لنا بدُنيَانَا الظَّلاَمَاوفي دُنّيَا القَضَاءِ نَصَرتَ عَدلاً ….. بِهِ المَظلُومُ قَد بَلَغَ المُرَاماأَشَيخي إنَّ للآدابِ ذَوقاً ….. وَذَوقُكَ فيه يا شَيخي تَسَامَايَحُسُّ بلَذَّةِ الآدَابِ شخصٌ ….. تَرَوَّاهَا وَنَسَّقَهَا نظَامَاولذَّةُ شاعرٍ في نَحتِ دُرٍّ ….. يَرَاهُ لهُ شَرَاباً بل طَعَاماًيفُوقُ جميعَ لذَّاتٍ بدُنيَا …… بلاَ أَدَبٍ بَدَتَ سُخفاً وذَامَا
أما عن دور القاضي (اليحيى) حينما تقلَّد منصب القضاء فقال عنه المربي الفاضل:

جَمَعتَ الفِقهَ والآدَابَ فَهما ….. بَقيتَ بهنَّ يا شيخي سَنَامَافأَنتَ بمنصبٍ كالغيثِ تهمِي ….. وغيرُكَ لَم يَزل فِينَا جَهَامَامَحَاكمُنَا بكُم تَزهُو بِعدل …… على العادي تُصيِّرُهُ رَغَامَا
ويظهر أن المربي الفاضل قد نظم هذه القصيدة معتذراً للقاضي (اليحيى) عن أمر ما لم يفصح عنه:

خُتَاماً جُد لَنَا بالعُذرِ إنِّي ….. لشُغلٍ ما وَفيتُ لَكَ الذِّمَامَاوَسَوفَ أَغِيبُ أيَّاماً وآتِي ….. فَجَنِّب خِلَّك الوَافي مَلاَمَاولاَ تحسب بأَنِّي يَا خليلي ….. أُخالفُ عندما أَعطي كَلاَماولكِنَّ المَشاغِلَ دُونَ رَيبٍ ….. ثَنَيْن لِمَا قَصَدتَ لهُ زِمَامَا
وبعد هذا الاعتذار المهذب توجه المربي الفاضل للقاضي (اليحيى) مادحاً ومُعرفاً بمكانته القضائية، وما يصدر من (بوناصر) فهو نابعٌ من القلب، أمَّا (الأحساء) وما أدراك ما (الأحساء) فاسمه محفورٌ، على الدوام، في ذاكرته عرفاناً واعترافاً بفضله:

وما (الأحساءُ) إلاَّ ذاتَ فَضلٍ ….. عَلَينَا كالسَّحابِ إذا تَهَامَابهَا الإخوَانُ مِثلُكُمو كرَامٌ ….. ومن لا يَرغبُ القومَ الكِرامَافدُم (عبدالعزيزِ) ضِياءَ قومٍ ….. فَبينَ قُضَاتِنا أَصبحتَ هَامَاأزُفُ لشيخِنا القاضي المُعلَّى ….. سلاماً نَفحُهُ عَبَقُ الخُزاَمَا


ورحل عملاق (5-9) عثمان بن ناصر الصالح
الناشر: جريدة الجزيرة

– العدد: 12268

تاريخ النشر: 01/05/2006م

الرابط للمصدر

ورحل عملاق (4-9)

وشيخُنا (بو ناصر) من محبّي السفر والسياحة والرغبة في مقابلة رجال العِلم والأدب ووجهاء المجتمع، وكان لا يفوت عليه أن يسجّل في بعض الأحيان ذكريات سياحته وأسفاره في شكل مطارحات شعرية مع من يلتقي بهم.والمطارحات الشعرية فنٌّ من فنون الشعر العربي المعروفة، ولا يختلف هذا الفن عن سائر فنون الشعر الأخرى من حيث أغراضه وموضوعاته ودواعيه.ومما يساعد على ذيوع هذا الفن بين الأصدقاء والأحباب اتساع وشمول مجال القافية ذات الروي الواحد على المحاكاة النمطية.وللمطارحات الشعرية بين الأصدقاء والأحباب تأثير طيّب ووقعها على النفس يفوق الوصف. ولشيخنا (بو ناصر) باع طويل في هذا المجال ويقول عنها: (أما الاخوانيات فقد عشقتُها وأنا صغيرٌ حتى وأنا في مراحل الدراسة سنة 1358هـ أي في الخمسينيات، والحقيقة أن لي فيها ولعاً ورغبةً شديدة مع أنني لا أقول أنني اعتنقتُها ولكنها خَرَجَتْ لبعض الإخوان بدون تكلف وبدون تصنّع – إن شاء الله). وسأقتصرُ على إيراد بعضٍ من هذه المطارحات مع رجلِ علمٍ وُلِدَ وَعَاشَ في (الأحساء)، وبعد تلقِّي العِلم الديني الشرعي بكلية شريعة الرياض آنذاك مارس القضاء، وانتهى به المطاف متولّياً رئاسة المحاكم بمسقط رأسه ردحاً من الزمن، ولا يزال صاحبنا على قيد الحياة أَلاَ وهو فضيلة الشيخ (عبدالعزيز بن يحيى اليحيى)، أطال الله في عمره. وموضوع هذه المطارحات زيارةٌ قام بها المربِّي (بو ناصر) مع رفقاء له لبلدة (هَجِر).وكانت الزيارة، كما سبق القول، للقاضي (اليحيى) تلبيةً لدعوةٍ تقدَّم بها لشيخنا (بو ناصر). هي زيارةٌ ولكنها، في حقيقة الأمر، سياحة سجّلها المربِّي الفاضل شعراً، وحظيت منه (الأحساء) بمديحٍ عاطرٍ ولكنه حقيقي ومن خبير. يقول (بو ناصر) عن هذه الزيارة:
عَرَفْتُ وَمَنْ عَرَفْتُ فَلَيْسَ وَحْياً …. وَلَكِنْ ذَا لَعَمْرُ اللهِ لُقْيَاإلَى (عَبْدِالْعَزِيزِ) الشَّهْمِ سِرْنَا …. عَلَى شَوْقٍ إلَى الشَّيخِ (ابنِ يحْيى)نلبِّي دعوةً كرُمتْ عَلَيْنَا …. إلى (الأحساءِ) واحاتٍ وأفْيَ
وكانت أداة النقل في الرحلة هي سيارة أمريكية من نوع (جِمْسِي) G.M.C وهي سيارة لا تعرف التعب أو الإعياء، وكان أميرُ الرَّكب أديباً من أسرة (الحقيل) الكريمة هو الشيخ (عثمان بن حمد الحقيل)، يقول أستاذنا (بو ناصر):
على (جِمْسٍ) من (الأمريكِ) آتٍ …. فلا يعروهُ في مسعَاهُ إعْيَاأميرُ الرَّكبِ في المَمْشى (حُقيْلٌ) …. من الآدابِ نلْقَى مِنْهُ رَيّ
وتوجّه الرّكب في مرح وسرور إلى (الأحساء) منبع الخير، وذات النخيل الباسقات الطلع، وقد نادى شيخُنا رفيق دربه (الحقيل) في رحلة السير بقوله:
إلى (الأحْسَاءِ) نمرحُ في نشاطٍ …..رعَى اللهُ (الحَسَا) المحبوب رعيافأولُ منبعٍ للخيرِ كانت ….. وما زالت بها تنمو وتحيانخيلٌ باسقاتٌ ذات ظل ….. لذاكَ يا أخي (عثمانَ) هيَّ
وقد أثنى شيخنا (بو ناصر) على المضيِّف فضيلة الشيخ (عبدالعزيز اليحيى) ثناءً عاطراً، وهو ثناء، في حقيقة الأمر، يستحقه القاضي (اليحيى):
نحيّي شيخَنا القاضي (ابنَ يحيى) …. ونشربُ من بديعِ الشعرِ ريّاأديبٌ شاعرٌ قاضٍ لبيبٌ …. له كلُّ المزايا قد تهيّ
أكرم فضيلة القاضي (اليحيى) ضيوفه إكراماً تجاوز فيه شروطاً ألزمه الضيوف بها لدرجة أن المربِّي الفاضل لم ير بُداً من توجيه عتاب رقيق لمضيفه مفاده أن من شأن الإسراف والمبالغة في الإكرام تنفير الصاحب الخل الصفِيِّ. ولعل لهذا العتاب ما يبرره. لنرى كيف وصف شيخنا (بو ناصر) مائدة الطعام المعدّة:
يقدّم للضيوف لحوم ضانٍ ….. يهيئها لهم طبخاً وشيّاعلى تلك الصحون مكوّرات ….. لأيّة وافدٍ حيّا وبيّا(ليَايَا) الضّان مثل القطن بِيضٌ ….. تقولُ لآكلٍ هيّا إليّاعلى (عبدالعزيز) لنا شروطٌ ….. ولم يكُ للشروط لها وفيّالماذا شيخُنا بمُداه أدنى ….. وأصبحت الخرافُ له ضحيّاليطّرح الذبائحَ والحواشي …… ولا يُدني لنا منها طريّاولكنّا رأينا كلَّ صحنٍِ …… يصِرْنَ فوق ذروتها طليّافما الإسراف يدنينا إليكم …… ونحن كإخوةٍ عشنا سويّاألا إن التكلّفَ في طعامٍ …… ينفّر صاحباً خِلاً صفيّ
وبعد زيارة فضيلة قاضي (الأحساء) في منزله لبّى المربِّي الفاضل مع رفاقه دعوةً كريمةً من الأستاذ (سعد بن حمد المنقور) أحد وجهاء (الأحساء).وكذلك دعوة أخرى من رجل كريم أسمه (غنام) وهو قاطن في (هجر)، ولكنه من بلدة (عنيزة). عن هذه الدعوات تحدث شيخنا عن الأثر الذي تركته في نفسه مع إزجاء عاطر المديح لأسرة (المنقور) ولأصلها اليعربي:
وكنّا بَعدُ عند أخٍ كريمٍ ….. وكان من الوفاء أخاً زكيّانود من (ابن منقور) اعتذاراً….. ولكن الكريمَ بدا عصيّالدى (سعد بن منقور) زعيمٌ ….. له شرفٌ سما فوقَ الثريّا(بنو المنقور) من سروات (نجدٍ) ….. لقد نالوا بها شرفاً عليّاسُراة (بني تميمٍ) في عُلاها ….. بدنيانا لقد نالوا رُقيّاهُمو في كلِّ أرضٍ حيث حلّوا ….. بربْعِ (سُديرنا) روضاً جنيّاتعجّب صاحبي من جُودِ (سعدٍ) ….. وأبصرَ دارَهم ربْعاً بَهيّافقلتُ وأنت يا (غنَّامُ) عِشتمْ ….. بقلبِ (عُنيزةَ) كرَماً سخيّاوجدناكمْ ولا زِلتمْ كِراماً ….. وكلٌّ منكمُو هَلاّ وحَيّ
وكرر شيخنا (بو ناصر) ثناءه على بلدة (هَجِر)، وعلى أهلها، وعلى علمائها وأدبائها الذين غمروه ورفاقه بترحابهم وكرم ضيافتهم وهم، في حقيقة الأمر، أهلٌ لذلك لما يتمتعون به من علمٍ وأدبٍ:
أقول لرفقتي والقولُ حقٌ ….. رأينا في (الحَسَا) بَشَراً أبيّاشيوخٌ في القضاءِ وفي النّوادي ….. فلستَ ترى بِهُمْ إلا سَنيّاذوي أدبٍ وهم وجهاءُ دنيَا ….. ودينٍ في المروءة والحميّاغمرتونا بفضلٍ من سَجَايا ….. وما كُنّا لها يوماً نَسِيّا
ومن ثم أثنى، بصفةٍ خاصةٍ، على فضيلة القاضي (اليحيى) وأبنائه لما لهم من فضل في توجيه الدعوة:
فبوركَ شيخنا القاضي بسعيٍ ….. أتاحَ لنا هنا يوماً هنيّاوبوركَ في بَنيه شيوخِ علمٍ ….. فكلٌّ بالحِجَى أضحَى فتيّا
وعاد شيخنا مرةً أخرى مثنياً على أهل (الأحساء) وبالأخص من شَرُف بلقياهم في منازلهم دون أن يسميهم بقوله:
وفي (هَجر) سلائلُ من كرامٍ ….. كأنّهمو غداةَ الجودِ طيّادعُونا في بيوتهمو فكانوا….. بنيْلهموا إذا اتّخذوه زيّاولو أنّا أطعنا لو بَقينا ….. لكُنّا في نواديهم سنيّا
وللتعبير عن مدى سروره وارتياحه من الزيارة لم ير (بو ناصر) بُداً من توجيه شكره الجزيل، مرةً أخرى، لصاحب المبادرة في دعوته بقوله:
ختاماً يا (ابنَ يحيى) في حِماكُم ….. حمدناكم صباحاً أو عشيّاولكنّا نُغادرُكم وكلٌّ …. بشكركمُ الجزيل بدا حفيّاوما ننسى من (القاضي) تحايا ….. كعَرفِ الرّوض قوّاماً نديّا
ومع المديح الضافي لمحافظة (الأحساء) عاد شيخنا أدراجه متذكراً (الرياض) العاصمة التي غادرها لأيامٍ معدودة قائلاً:
ولا تنسوا بعاصمةٍ إخاءً ….. (رياضكم) بكم أضحى غنيّافنحن اليومَ منكم في ودادٍ ….. مدى الأيامِ ظلّ بكم نقيّاوعاصمةُ البلادِ لنا جميعاً ….. لنا درعٌ نَصُدُّ به الكَميّا
ومن ثم عاد شيخنا، مرةً ثالثةً، ليؤكد محبته وتعاطفه مع نجباء ببلدة (هَجِر) كما لو كان (بو ناصر) – يرحمه الله – موجّهاً بقية أبيات القصيدة لابنه الأخ الأستاذ الدكتور (ناصر) بالذات بأن لا ينسى بلدة (هَجِر):
هنا نُجباءُ في (هَجر) تباروا ….. تعالوا فاعرفوهم يا (بُنَيّا)تروْا فيها عناصرَ طيّباتٍ ….. وقوماً في (الحَسا) شعباً رضيّاسلام ُاللهِ ما غنّى حَمامٌ ….. بسامقِ نَخلكمْ صوتاً شَجيّا


ورحل عملاق (4-9) عثمان بن ناصر الصالح
الناشر: جريدة الجزيرة

– العدد: 12267

تاريخ النشر: 30/04/2006م

الرابط للمصدر

ورحل عملاق (3-9)

وخلال مراحل دراستي خارج بلادي وبعدها كنتُ أتابع النشاط التربوي والأدبي لهذا المربي الجليل الذي تخرَّج على يديه قادة، كما سبق القول، ساهموا، ولا يزالون يساهمون، في قيادة مسيرة بلادنا الخيرة كل في موقعه من حيث المسؤولية سواء منهم من هو أمير لمنطقة، أو وزير على رأس مرفق، أو أديب مثقف، أو صحفي موهوب، أو رجل أعمال.وللأستاذ (الصالح) صولات وجولات في مجال التربية والتعليم من طبيعة رائدة، وحتى بعد أن تخلّى هذا المربي الجليل عن قيادة (معهد الأنجال) بالرياض لا يزال قلمه الفياض يُثْرِي التربية والتعليم في بلادنا بالفكر التربوي الأبوي المفعم بالتجربة والحكمة.وحتى بعد أن ترك هذا المعلم الساحة التربوية فإنه لم يزل معها بقلبه ودمه وفكره وأحاسيسه حيث لم تشدّه عنها وسائل البحث عن المال والغنى أو الرغبة في التواري عن الأنظار طلباً للراحة والدعة. لقد كان (بو ناصر) بعد تركه للساحة التربوية أكثر حماساً وتعلقاً بها من ذي قبل؛ إذ ساهم قلمُه الفياض في مجال الأدب والتوجيه التربوي حيث أثبت هذا القلم، وبجدارة أن صاحبه شاعر مجيد، ومرب واعٍ، وذو اطلاع واسع في عالم الفكر والثقافة.وكنتُ، على سبيل المثال، أتابع ما ينشره هذا الْمُعَلّمُ في مجلة (المنهل) الغراء تحت عنوان (ملاحظات غير عابرة)، وهي ملاحظاتٌ قيمةٌ أو هي بمثابة الموسوعة حيث تجد فيها ما لَذّ وطاب من القول الجيد الحسن. فيها الطرافة في الاختيار والعرض، وفيها القصة المعبرة، وأبيات الشعر الجميلة من مَقُولِ الشيخ (عثمان) أو منقوله، كما تجد بها ما اختاره من طيب القول المأثور شعراً ونثراً وذلك بالإضافة إلى التعليق المفيد والكلمة الصادقة المعبرة. وكم أتمنى على أبناء شيخنا أن يجمعوا تلك الملاحظات بين دفتي كتاب لتستفيد منها الأجيال الصاعدة التي أحبّ وربّى آباءها.وفي إحدى (ملاحظاته غير العابرة)، وما أكثرها تحدّث الشيخ (عثمان) في عام 1408هـ عن لغتنا الجميلة أو لغتنا الخالدة حيث قال (من بين أمور أخرى) ما نصه: (كلتا الجملتين يصلح لأن نعبرَ بهما عن لغتنا الجميلة الخالدة التي لا يَخْلِق ثوبها، ولا تزول أهميتها، ولا يتحول جمالها ما مر الزمان، وتعاقب الْمَلَوان. لكن نحن الذين مع الأسف (والقول للمربي الجليل) تخاذلنا في دراستها.. وطغى عليها غيرها مع أنها الثوب لكل العلوم… واللباس الذي لم يزل قشيباً… إن العلوم التي تزاحمها، والمواد التي يتلقاها الطالب في مدرسته وفصله ليست هي السبب في هزالها في الأفكار ولكن الذي جعل الطالب يتقاعس عنها… ولا يقبل عليها ذلك أن المعلم لم يكن مؤهلاً فيها ولا متعمقاً في مفرداتها… والإدارة المدرسية التي هيأتها لم تكن واعية لها، ولا متذوقة لطعمها… جَعَلَ التعليم فيها آلياً سواء في مفرداتها أو نصوصها أو قواعدها.حتى أصبح ما يدرسه الطالب في الخامسة في (الابتدائي) لا يعاوده في (السادسة). وما يدرسه الطالب في المتوسط لا يكون مما يتذكره ويراجعه في الثانوي… لأن المدرس نفسه يحفظ أبواباً، ولا يتجاوزها إلى ما سبق….وفي ملاحظات غير عابرة أخرى أورد قصيدة أخوية رقيقة من مَقُولِهِ. وهي قصيدةٌ تنمُّ عن شاعرية خصبة. وقد وجّه هذه القصيدة للأستاذ عبدالله بن حمد الحقيل وذلك بمناسبة تعيينه أميناً عاماً لدارة الملك عبدالعزيز رحمه الله عام 1406هـ وهي قصيدة من بحور الوافر اقتطفتُ منها الأبيات التالية:
(أبَا حَمَدٍ) عَمِيدُ الْمُخْلصينَا …. وَيَا شَيْخاً (بِسِيرتَه) رَزِينا(بِدَارَةَ) قَائِدٌ فذّ عظيمٌ …. صَعَدْتَ لها فَصُرْتَ لَهَا أمِينَانُهَنّيِكُم بَفوْزٍ في مجالٍ …. شَرِيفٍ مَا تَزَالُ بِهِ قَمِيْناوَكُنْتَ مُرَبِّيًا وَمُدِيرَ عِلْمٍ …. وَرَبَّيْتَ الشَّبيبةَ أَجمعِينَاوَفي درْبِ الثّقافةِ سِرْتَ شَوْطاً …. وفي التَّدْرِيسِ قَدْ زاولتَ حِينَالِذَا أهَّلْتَ نَفْسكَ دُونَ شكٍ …. لِتُصْبِحَ رَائِدَ الرُّوَّادِ فين
وكنتُ، ولا أزال، أتابعُ وبشغف كذلك ما ينشره هذا المربي في مجلاتنا وصحفنا (كالمجلة العربية) و(الجزيرة) و(اليوم) و(الرياض) من تعليقات قيمة ذات طابع أدبي واجتماعي وتربوي ومنها على سبيل المثال تعليقاته حول (الطفل وكيف نربيه) التي نشرها في جريدة الجزيرة الغراء بتاريخ 14 و18 جمادى الآخرة 1411هـ. وهي تعليقات تَنُمُّ عن بصيرة نافذة رغبَ أن يُرينا شيخنا فيها الداء والدواء والسلبيات والإيجابيات في مجال تربية الطفل. لقد استهل تعليقاته متحدثاً عن أهمية الطفل والطفولة، وعمّا سيكون للأُمة في المستقبل من تقدم وسمو إذا كان الطفل معتنى به خُلقيًا وتربويًا وعلميًا وصحيًا، وفي هذا الخصوص يشير الشيخ (عثمان) إلى أن الطفل بقوله إنه (وديعة مهمة عند الأب والأم.. فإذا لم يعتنيا بهذه الوديعة والأمانة، ويحافظا عليها ستصبح الأمانة نقمة.. والوديعة خسارة ومن ثم يؤولان إلى عبء على الأسرة في شخصية هذا الطفل المضاع). كذلك يمضي الشيخ (عثمان) ليتحدَّث عمَّا ستتحول إليه هذه الوديعة إذا أصبحت خسارة حيث ستمسي (لبنة منهارة في المجتمع ونكبة سوداء في جبين البلد… إن الطفل الذي لا يجد أمًّا تربيه ولا أبًا يحميه يصبح كما قال الشاعر:
لَيْس الْيَتيمُ من انتَهى أَبَواهُ … مِنْ ذُلِّ الحياةِ وخلَّفَاهُ ذَلِيلاَإِنَّ الْيتِيمَ هُوَ الذي تَلُقَى لَهُ …. أُمًّا تَخَلَّتْ أَوْ أَبًا مَشْغُولا
إن تعليقات الشيخ عثمان (حول الطفل كيف نُربِّيه لنجعل منه رجلاً صالحاً وامرأة صالحة) هي تعليقاتٌ شيقةًٌ وممتعةٌ وجديرةٌ بالاهتمام، وتَنُمُّ عن فكرٍ نَيِّرٍ وقوةِ إدراكٍ وفطنةٍ


ورحل عملاق (3-9) عثمان بن ناصر الصالح
الناشر: جريدة الجزيرة

– العدد: 12266

تاريخ النشر: 29/04/2006م

الرابط للمصدر

ورحل عملاق (2-9)

وتعود معرفتي بالأستاذ (عثمان الصالح) إلى الأيام التي كنت فيها طالبًا (بمدرسة الرياض الثانوية) الوحيدة، وهي المدرسة التي كانت تحتل بيت (ابن جبر)، بحي (شلِّقة)، غرب (شارع الوزير) الشهير بالرياض آنذاك. وكان مدير المدرسة الثانوية الوحيدة – آنذاك – الأستاذ (أحمد الجبير). في تلك الأيام الخوالي كنتُ رئيسًا لمجلس (طلبة المدرسة)، وعضوًا فعالاً في (نادي المدرسة الأدبي والمسرحي)، وكان الأستاذ المربي (عثمان الصالح) متعاطفًا مع المدرسة للغاية، ويتردد عليها كثيرًا، كما كان يحرص على حضور (ناديها) الأدبي المتواضع الذي كنت أخطبُ فيه وبالأخص الحفل الذي أقامته المدرسة لاختتام نشاطها السنوي لعام 1377هـ. وكان ذلك الحفل متواضعًا في مظهره لضعف الموارد المتاحة له، ولكنه كان ساميًا في معناه وجوهره. وخلال برنامج ذلك الحفل كان الشيخ (عثمان) وكأنه بين طلبته (بمعهد الأنجال) مشجعًا ومتعاطفًا وعلى وجهه علامات البشر والسرور. ولا أبالغ إذا ذكرتُ الآن أنني كنتُ أتخيَّله آنذاك بقلبين: قلب (بمعهد الأنجال) وقلب آخر (بالمدرسة الثانوية) الوحيدة بالرياض.وظلَّ هذا المعلِّم في الساحة التربوية كالعاشق المتيم مُحِبًا للتربية وللعلم وللمتعلمين. وكان هذا الرجل بالمرصاد للطلبة المتفوقين سواء منهم من كان (بمعهد الأنجال) أو من هو (بالمدرسة الثانوية بالرياض) حتى بعد تخرجهم (وأنا منهم)، حيث كان يراسلهم حيثما كانوا مشجعًا لهم على مواصلة الدراسة وبذل الجهد في سبل تحصيل العلم.وعلى سبيل المثال كنت قد نشرتُ في جريدة (اليوم) سلسلة مقالات عن مدرستي (مدرسة الأحساء الابتدائية) الوحيدة المؤَسَّسة عام 1356هـ، وهي مقالات يضمها الآن كتاب بعنوان (كانت أشبه بالجامعة: قصة التعليم في مقاطعة الأحساء في عهد الملك عبدالعزيز: دراسة في علم التاريخ الاجتماعي). لقد كان مبعثُ السرور عندي مفاجأة الأستاذ المربي الفاضل (بوناصر) حينما أتحف قراء جريدة (اليوم) بمقالة علّق فيها على سلسلة مقالات (كانت أشبه بالجامعة) وفيها من الذكريات والفوائد والنصائح؛ ما دفعني إلى نشر المقالات بين دفتي كتاب فيما بعد. ورد بمقالة الأستاذ المربي:(عرفتُ معالي الأستاذ الدكتور (محمد بن عبداللطيف آل ملحم) في مدرسة (اليمامة) (بالرياض) في مناسبتين: الأولى – حفلة أقيمت للخطباء المرتجلين بين جميع المدارس بالمنطقة وإن لم تخني الذاكرة فهي أوسع من منطقة واحدة, وفاز فيها بالتقدير والأولية، ولقد خطب برهةً من الوقت كان مبرزًا، لم يلحن ولم يتلعثم.. وكان موضع الإعجاب والإكبار. والثانية – أقيمت في (اليمامة) نفسها مسابقة الأوائل.. وكان الأول من بين المتسابقين. أُقَدِّمُ هذه الكلمة عن ذكرياتي في تلك الفترة البناءة. و(اليمامة) أولى المدارس الثانوية نشاطًا وتقدمًا واتساعًا وشمولاً، ولا أنسى الأدوار التي قامت بها (اليمامة)، وقد تعاقب عليها رجال كبار أمثال الأستاذ (عبدالله الحمد الحقيل)، والأستاذ الدكتور (حمد السلوم)، والأستاذ (عبدالرحمن العجاجي) ولا يعرف آنذاك إلاَّ بالثاقب، والثاقب اللقب، والعجاجي الأصل، وكلاهما جميل وحسن، فالأولُ مشتقٌ من الضياء الذي يثقب الكلام بالضياء والنور، والعجاجي نسبٌ أصيلٌ وهو نقعُ الخيل إذا أغارت إشارة إلى قول الله عزّ وجلّ (فأثرن به نقعًا، فوسطن به جمعًا) انتهى التعليق..* فأعجبه خطها فسأل عن الكاتب، وعلم أنه شخصي، فكتب إليَّ، واستدعاني لأكون مدرسًا، ووعدنِي بأنه سيعمل ما يريحني سكنًا وعملاً، وكدتُ أوافقُ لولا أن لي والدة لا تريد مغادرة (المجمعة) بأي حال لأنها كفيفة البصر، ولكنه أَلَحَّ وبالغ، ولكن لم يتم لِي نقل، ولا زِلْتُ أذكرُ وأجتَرُّ كتبه يرحمه الله، وحرصه على ما يجعل عمله متكاملاً). انتهى التعليق.وبودي الإشارة إلى (مداخلة) لا تخلو من الطرافة بين (علامة الجزيرة) الأستاذ (حمد الجاسر) والأستاذ (عثمان الصالح)، وهي (مداخلة) نَشَرَهَا شيخُنا (بوناصر) بتاريخ 23 من المحرم عام 1413هـ في جريدة (اليوم) تحت عنوان (حمد الجاسر.. وكلمات من أجل التاريخ)، ونظرًا لما لهذه (المداخلة) من أهمية تاريخية فسأذكرُها – كما رواها شيخُنا (الصالح) – فيما يلي:(اتصل بي أستاذنا ومؤرخنا وشيخنا (حمد الجاسر) معلقًا وملاحظًا على ما كتبتُه في جريدة (اليوم) بتاريخ 17 من ذي الحجة عام 1413هـ حول تعليقي على سلسلة البحوث التي كتبها معالي الأستاذ الدكتور (محمد آل ملحم) حول مدرسة (الأحساء) التي وَصَفَهَا بأنَّها أشبه بالجامعة في أحاديث ممتعة بلغت حوالي العشرين حديثًا، والتي مَرَّ فيها بذكر الأستاذ (النحاس) أول مدير للمدرسة الابتدائية آنذاك، الذي له مجهود مشكور.. وشيخنا وأستاذنا الشيخ (حمد الجاسر) لملاحظاته قيمتها التاريخية والاجتماعية، ولها وزنها فقد أعطاه الله ذاكرة قوية، ووعيًا وإدراكًا لتاريخ البلاد عامة، وإنه لكنْز من كنوز التاريخ في بلادنا الغالية في ظل رائدها – خادم الحرمين الشريفين – وإليك الملاحظات التي تكرم شيخنا (بها):1- أنَّ العام الذي كان (النحاس) (فيه) في الشرقية (الأحساء)، والعام الذي مَرَّ عليه رواتب مدرسة (المجمعة) المؤسسة (هو) عام 1357هـ وليس عام 1347هـ..2- قال أستاذنا مفصلاً، ومنبهًا: إن النحاس جاء إلى (جدة) من (مصر) في عام 1346هـ، وانتقل إلى (الوجه) ثم (ينبع) (وكان شيخنا الجاسر هناك) ولم يكن في (الأحساء) إلاَّ بعد عام 1354هـ، أو عام 1355هـ؛ لذلك يرى شيخنا – رعاه الله – أن العام الذي كان فيه النحاس في (الأحساء) هو عام 1357هـ وليس عام 1347هـ.وكان لي تعليق على هذه المداخلة الشيقة بين الشيخين (الجاسر) و(الصالح) تَتَكَوَّنُ من ملاحظتين: الأولى أن بهذه المداخلة (درسا) يجب أن لا يَمُرَّ دون التنويه عنه، وهو (درسٌ) مفيدٌ، ويدخل هذا الدرس – من وجهة نظري – تحت باب (تواضع العلماء) كما تُحدِّثُنا عن ذلك كتب التراث.والثانية أن أستاذنا الشيخ (عثمان الصالح) قد تقبَّل تصحيحات (علامة الجزيرة) بصدرٍ رحبٍ وسعادةٍ بالغةٍ، بل وبادر أستاذنا (الصالح) – وفي شوقٍ منقطع النظير – إلى نشر التصحيحات، وهل هناك تواضع أكثر من هذا؟!.


ورحل عملاق (2-9) عثمان بن ناصر الصالح
الناشر: جريدة الجزيرة

– العدد: 12263

تاريخ النشر: 26/04/2006م

الرابط للمصدر

ورحل عملاق 1-9

ورحل عملاق ذو سيرة حسنة عطرة إلى مثواه المؤقت.كانت سيرته ملء السمع والبصر لما اشتهر به من خلالٍ ومناقب أجمع على مصداقيتها جيله المعاصر، الجيل الذي أحبّه، ويعجز لو حاول إنصافه بتأبين طيبٍ، أو بحفل تكريمٍ، أو بقصيدة رثاءٍ عصماء أن يُوفِّي له حقه.كان علماً بارزاً، نسيج وحده، في طيبته، ودماثة خلقه، وطيب معشره.تمكّن، وبجدارة، أن يرسم لنفسه خطاً تفرَّد به في ميدان التربية والتعليم.تخرَّج على يديه قادة، ورجال أدب، ورجال سياسة.كان متسامحاً متواضعاً، يحب الخير، ويحث على طلب العلم في سلوكه التربوي والتعليمي.كان يجلله الوقار، وكانت له هيبةٌ وطلعةٌ بهيةٌ، إلا أنه متواضع، تأسرك بشاشته، وطيب حديثه، وسموق أخلاقه.هو هامةٌ شامخةٌ بلا غرور وبلا كبرياء، وبلا عنجهية، وهو طلعة بهية يكللها التواضع وحسن الخلق والحلم والاحتساب والاستقامة النادرة.هو أبٌ روحي. والد كبير. ومربٍ جليل. وأستاذ جيل. عاطفة الأبوة سمة بالغة فيه ليس على أولاده، فلذات كبده فحسب، ولكن على آخرين (وأنا منهم) وجدُوا أنَّهم بعد التَّعرف عليه يُعاملونَ، من قبله، كمعاملة أبنائه سواء بسواء.كان يتحفَّي بالصديق إذا قابله، ويسأله عن أحواله وأحوال أسرته إذا كان على معرفةٍ سابقةٍ بأفرادها.كان في الطليعة بين رجال التربية والتعليم في عهده وفي مقدمة الرواد منهم. وتمكّن بثاقب بصره، وبما تميّز به من حزمٍ وعزمٍ وحلمٍ أن يضع بصمات متميزة في مسيرة تعليم جيل من القادة. جيلٌ تقلّد، وأثناء حياته، زمام القيادة والريادة بعد أن شارك في تأهيله دينياً وثقافياً وخلقياً. وكان ذلك مصدر ارتياح عنده، بل وفخر واعتزاز.كان لقبه الذي عُرِفَ به لقب (المربي الفاضل). لقبٌ يسبق اسمه. استحقَّه بجدارة. اسمٌ محفورٌ في ذاكرة تلامذته ومريديه اعترافاً منهم بفضله في تربيتهم وتعليمهم.كان في تكوينه التعليمي نسيج وحده شغوفاً بالقراءة، ومحباً للتحصيل والتأهيل الذاتي ليكون متمكناً في التدريس وباعتبار أن التدريس أمانة مقدسة عنده، وتدرَّج في ممارسة العملية التربوية من أسفل السلم صعوداً كما يقال، فعركته الحياة وخاض غمارها في مجاله التربوي فكان، بحقٍ، في مقدمة صنَّاع جيلٍ من القادة معطياً بلا منٍّ، لم يبخل بعلمه، وواصل عطاءه بعد التخلي عن التدريس موجهاً بلسانه وقلمه حتى الرمق الأخير من حياته.لم يكن خريج مؤسسة تعليمية نمطية. بل هو خريج مدرسة الحياة وأمثاله في عهده قلة. لهذا السبب وذاك كان معهده الذي تعلم فيه مصاحبة رجال العلم، ومرافقة الكتاب صديقاً حميماً له حتى تمكَّن أن تكون لديه قدرات علمية في الآداب والتراث قوامُها ثروةٌ معرفيةٌ. له مشاركات أدبية في ألوانٍ شتى من أطياف المعرفة. كان فارس الكلمة وصديق الحرف.رجلٌ حديثه عذب. إذا تحدث كان كما لو كان ينهل من نبعٍ ثرٍّ. عَفُّ اللسان، ذو عواطفٍ جياشةٍ صادقةٍ. له مشاركات في أحوال المجتمع العامة، وله حضور متميز في المناسبات العامة.كانت له صداقات واسعة في أوساط مجتمعه معتبراً أن هذه الصداقات بحقٍ، ثروته الحقيقية.عُهِدَ إليه بقيادة مؤسسة تربوية (معهد الأنجال) وهو في ريعان شبابه وذلك في يومٍ كان للأمية السيادة الكاملة، وفي يوم كان التعليم الحديث تحفّه المخاطر لأنه مجرد تعليم حديث فأثبت هذا العملاق قدرةً فائقة في القيادة كان قوامها عاطفة أبوة، وملاطفة مرنة ولكنها حازمة، وإخلاص مطلق، وعطاءٌ ثرٌّ، وعشقٌ صادق للعمل، ناهيك عن تمكنه في معهده من غرس الفضائل والقيم الخلقية والتمسك بآداب الإسلام وتعاليمه.انه الأستاذ الشيخ (عثمان بن ناصر الصالح) المربي الكبير والأديب الأريب الذي كان العلم المتألق في ميدان التربية والتعليم في مدينة الرياض في الستينيات والسبعينيات والثمانينيات من القرن الهجري الماضي.حينما علمتُ بنبأ نجاحي في كلية الحقوق – جامعة القاهرة وحصولي على الأولية في (السنة الأولى) بالكلية على أكثر من ألفي طالب، وهي الأولية التي كانت ملء السمع والبصر في صحافتنا ومنها جريدة (المدينة المنورة) بتاريخ 8-11-1378هـ الموافق 15- 5-1959م وصلتني رسائل تهنئة من بينها رسالة بتاريخ 26-11-1378هـ الموافق 2-6-1959م من الأستاذ الأب المربي (عثمان الصالح) جاء فيها بعد التحية: (علمتُ من جريدة المدينة المنورة أنَّك كنت الأول في الاختبار من بين ألفي طالب في الحقوق، وكنت بهذا مسروراً إذ إن رجلاً من أبناء هذه البلاد شق طريقه، وأثبت وجوده، فسر في هذا الطريق والله معك، ونرجو أن نرى في إخوانك أبناء البلاد – المملكة العربية السعودية – ما رأيناه فيك). كانت هذه الرسالة لمسة تهنئة وتشجيع من مربٍ فاضل يدرك أهمية العلم. بعثت لأستاذنا (الصالح) برسالة شكرتُه فيها على عواطفه النبيلة، كما ذكرتُ له فيها (من بين أمور أخرى) أنني سوف أحاول الالتحاق بالصيف في شركة (أرامكو) ضمن برنامجها الصيفي المعد للطلاب الجامعيين آنذاك. وصلتني رسالة من الشيخ (الصالح) مؤرخة في 11-10- 1379هـ الموافق 7-4-1960م جاء فيها بعد التحية: (أقدركَ وأشكركَ على خطابك الرقيق الذي ينمُ عن الوفاء وعن الأخوة الصادقة التي هي ما يعتزُ به أخوك ويغالي فيه.. إنكَ مثالٌ طيبٌ للإخوان المواطنين الذين نحن نُسرُّ بوفائهم ونبلهم. إنني ما نسيت ولن أنسى لك هذا الوفاء. كان لكتابك صداه في نفسي، وكان لشعورك الكريم تأثيره البالغ، وكان لذكراك الباقية دوافعها التي كانت بين فينة وأخرى تدفعني إلى الكتابة لولا أنني أعرفُ مسؤوليتك ومشغوليتك لبناء مستقبلك في دراستك في الغربة لترجعَ إلى وطنك مكللاً بالغار، حاملاً مشعلاً وضَّاءً من العلم والتربية لتفيد مواطنيك، وتكون لبنةً من لبنات المجتمع الثابتة، ودعامةً من دعائم الوطن الراسخة، فحيَّاك الله، ورفع قدركَ، وسرَّنا برؤياك سالماً مسلَّماً. إن شرحك اللطيف شرح الصدر، وأتاح لي فرصة جليلة للتمتع بمطالعة الخطاب عدة مرات.. أمَّا مضاعفة الدراسة بالجامعة فهذا أيضاً من دواعي سرورنا لتكون فائدة أبنائنا أكثر. ونود أن هذه الزيادة تقدمت لأنها في الواقع أيضاً جوهرية، وما هي بالزيادة البسيطة. أما إنشاء المكتبة فهذا نقص سابق كَمُلَ اليوم، وسد فراغاً هائلاً سيكون حظاً كبيراً لمن يشعر بالمصلحة ويعرف الفائدة. أمَّا (أرامكو) والتوظُّف فيها دعاية تقصد منها جلب المثقفين إليها، ولكنني أرى أن هذه فرصة طيبة لمشاركة المثقفين عمال البلاد، والوقوف على مشاكلهم.. إنَّها فرصة وأي فرصة.. وأرجو أن تكون من بين أولئك الطلبة الذين سيعملون فيها للاطلاع أولاً، والمصلحة ثانياً. أشكرك على تهنئتك الخالصة، راجياً لكم عيداً سعيداً وصحةً وعافيةً. هذا وأرجو لك التوفيق والسعادة. انتهت الرسالة).هذا مجرد نموذج للعطف والرعاية الأبوية التي يحاول أن يمنحها هذا المربي الفاضل لأحد أبنائه الطلبة. ويا لها من رعاي


الناشر: جريدة الجزيرة

– العدد: 12262

تاريخ النشر: 25/04/2006م

الرابط للمصدر