ورحل عملاق (8-9)

ومارس الأستاذ (عثمان الصالح) العملية التربوية والتعليمية لمدة ثلث قرن في كل من (المجمعة) و(الرياض). فما هي الدروس التي استفادها خلال هذه الفترة المديدة؟ وما هي التجارب التي مرَّ بها عند ممارسته للعملية المشار إليها لاسيما وأنه كان قريباً من ولاة الأمر والكثير من أبنائهم في عهدته؟ هل كان قاسياً أم لَيِّنَ الجانب؟ وهل كان يحسب للكثير من الأمور ألف حساب؟ هل كان يستشرف الزمن من بُعْد؟ أم كانت حدود نظره عند قدميه؟ وما هي وجهة نظره في الوسائل التعليمية بين الأمس واليوم وبالأخص منها استعمال العصا والطبشور والحاسب الآلي؟ وأنا ممن استُعْمِلَتِ العصا ضدَّهُ في (مدرسة الأحساء الابتدائية) العملاقة حينما كنتُ فيها طالباً؟ طُرِح على (بوناصر) بعضٌ من هذه الأسئلة بعد أن تخلَّى عن العملية التعليمية في جريدة (الجزيرة) بتاريخ 28-3- 1424هـ فكان جوابه من واقع تجربته: (التعليم بين الأمس واليوم له مغزاه وله مدلوله ذلك أن له أسسه، وأعتقد أننا لو عُدنا إليه اليوم لوجدنا فارقاً بين الماضي والحاضر، ذلك أن التعليم القديم له رهبة، وله تأثير، وله بقاء في النفس، ذلك أن المادة التي يأخذها الطالب عنصر كامل، والتربية تجمع بين نوعين: النوع التربوي الذي يتلقاه الطالب في المدرسة، والنوع التربوي الذي يتلقاه في البيت، وكلا النوعين ممتاز ومؤثر. أمَّا العصا أو وسيلة الإيضاح ورماد الطباشير أو شاشة الحاسب الآلي فلا شك أن الطباشيرة أدَّت في ذلك الحين دوراً كاملاً، وكانت أداة طيعة وموفقة تلتقي مع العصا الذي نعيشه في ذلك الحين، أما الحاسب الآلي فشيء جديد وشيء لا أستطيع أن أجيب عنه لعدم معرفتي به ولكن أعتقد أنه يحسن استعماله، ويحسن أن يكون في مدارسنا، وفي إدارتنا، وفي كل أمر من أمورنا. أما العصا وما شابهها فلم تكن كما يقول الناس يضربونه على أم رأسه، أم يفتكون به أو يكون طريح الفراش من ألم الضرب وتأثيره المبرح. فالعصا تخيف وترهب ولكنها لا تستعمل إلاَّ في الحالات النادرة التي يجب أن تستعمل فيها حتى اليوم. وأعتقد أن العصا تركها بتاتاً، وعدم استعمالها في الحالات الضرورية لا داعي له ولو أنه عصر شاشات الحاسب الآلي. ولو عدت إلى التعليم مرة ثانية لاستعملت الماضي بصلابته وقوته، واستعملت الجديد بحدته وطراوته. وهذا التعليم الذي نستعمله اليوم لا شك أنه جميل ومحبوب ويجاري روح العصر. ولكن المادة يأخذ (التلميذ) وصفها ولكنه لا يحفظها، ومن هنا يتخرج التلميذ وهو يعرف المعنى ولكنه لا يستطيع أن يأتِي بالنص كاملاً).وباعتباره مربياً أو لأنه تشرَّب العملية التربوية حتى الثمالة كما يقال فهو لم يترك العمر الذي قضاه في حقل التربية والتعليم دون أن يقيد أوابده وشوارده في بعض المقالات التي نشرها أو في بعض المقابلات الصحفية التي أجراها، ذلك أن العملية التربوية والتعليمية في قلبه ودمه. فهو كثيراً ما تحدَّث عن بدايات العملية التربوية والتعليمية مما هو مكنون في ذاكرته. ولي مقالة بعنوان (أضواء على تربيتنا) ناشدتُ فيها من يهمه الأمر بالعناية بتربية الطفل وكذلك تعليم أمه كنتُ قد نشرتُها منذ نصف قرن في (دليل نشاط مدرسة ثانوية الأحساء لعام 1375هـ، فوجدت صدىً لهذه المقالة في آراء وبحوث تربوية لشيخنا (بوناصر) عن تربية الطفل وتعليم الأم كان قد نشرها في مقالتين في جريدة (الجزيرة) في عام 1411هـ، وهي بحوثٌ أملتها عليه حالة التجربة التي عايشها وعاصرها في كل من المجمعة والرياض. وكان من رأيه أن العناية بالطفل أساس التربية، والبوصيري يقول:
وَالنَّفْسُ كَالطِّفْلِ إِنْ تُهْمِلْهُ شَبَّ علَى ….. حُبِّ الرِّضَاعِ وَإِنْ تَفْطِمْهُ يَنَفَطِمِ
ومن واقع تجربته يقول الشيخ (عثمان) عن حالة الطفل وإن كان قد وجَّه كلامه إلى مربيه: (والطفل أكثر ما يكون تقليد! وعليك أيها المربي أُمّاً أو أباً أو مربياً أو معلماً.. أو مسؤولاً وموجهاً ألاَّ تلزم الطفل بالتقليد لئلا يكون الأمر صناعيا بحتا.. لهذا يجب أن يصدر التقليد من الطفل.. عن نفسٍ راغبةٍ مختارةٍ بعد التحبيب والترغيب له في ذلك الشيء المفيد.. والتقليد عكسي ووقتي وتمثيلي وقصدي واسمي، وكل واحدة من هؤلاء لها في نفس الطفل مكان، ولكن عليك أيها المربي أن تنفحه بتوجيهٍ للتقليد الأسمى الذي تُنمِّي به روحه، وتوصله إلى الكمال النفسي الذي هو أشرف أنواع التقليد للأخلاق الكريمة والمعانِي السليمة.. والطفل ينْزع إلى حب التملك وعدم مشاركة أحد له في سنواته الأولى، فلا تجمع بين يديه إلاَّ ما كان له قيمة كالأزهار والنقود وما أشبه ذلك. وشيء مهم جداً وهو التكوين والتخريب فإنهما غريزتان تبعثان في نفوس الأطفال سروراً وارتياحاً واضحاً، وبسببهما إظهار قوته جليةً واضحة، أو حب الاطلاع على ما سيصير أمر شيء بعد التكوين والتخريب.. وشيء من التشويق والتوجيه يستطيع الطفل أن يعود إلى البعد عن هذا بحسن التفهيم بلا قسوةٍ ولا إكراهٍ مع زرع الانتباه في نفسية الطفل شيئاً فشيئاً.. وأن يعنى المربي كل العناية بأمر الانتباه الاختياري لا القسري.. في غرس النشاط في الأطفال إلى الدروس في الصباح وعمل البواعث على ذلك، وعلى المربي أن يزرع في نفس الطفل الملاحظة والمضاهاة في النظر للأشياء والتسمية ليعلُق في الذهن كل ما هو جميل، ويبقى في فكره حياً مرسوماً لأن هذه الصفات إذا ثبتت في نفسه تَمَّتْ مداركه التي يعوزها الضبط والكمال.. ولهذا فغرس عادة البحث في الأطفال توصل إلى الحكم العام تدريجياً ويصير التطبيق سهلاً.. ويجب أن يفهم الأطفال أن هناك كثيراً من الأشياء التي لا يمكن إدراكها وهم في طور الحداثة، ويجب أن يعوَّدُوا (على) قبول بعض الحقائق من غير جدال.ما سبق بعضٌ من آراء ومقترحات المربي الفاضل في التربية وهي قليل من كثير مما تحدَّث عنه بلسانه في مدرسته ومعهده، وبقلمه للخاصة والعامة.ومما هو غير معروف عن شيخنا أنه حينما يكتب أو يتحدث عن أي موضوع من طبيعة تاريخية أو أدبية أو جغرافية تجده يروي من مخزون ذاكرته ما تستفيد منه. فعلى سبيل المثال لنرى ما رواه عن العقير. وقبل أن أرى ما قاله لعلَّه من المناسب التمهيد لذلك بنبذة عن العقير. يقع العقير على ضفاف الخليج العربي الغربية. وللعقير تاريخ يعرفه (ياقوت الحموي) و(الأزهري) و(الصاغاتي) والكثير من جغرافيي العرب ومؤرخيها منذ العهد الجاهلي وحتى عصورنا الحديثة. وبالعقير آثارٌ مطمورةٌ تشهد على عظمة ماضيه وإن كان لم يكشف النقاب عنها بعد. وبه ميناء كانت له أهمية بالغة على مر العصور لكل من نجد والأحساء. إذ هو ثغرهما منذ القدم، وعن طريقه كانت البضائع والخدمات تنتقل إليهما فيما بين البلدان العربية الواقعة بشرق جزيرة العرب وبلدان فارس والهند وسرنديب وسومطرة. وأورد علامة الجزيرة الشيخ (حمد الجاسر) من وصف (ابن الزجاج) في رسالة إلى ديوان الخلافة العباسية من أن العقير دهليز (الأحساء) ومصب الخيرات منه إليها، وكثرة الانتفاعات التي جل الاعتماد عليها). ومنذ استرداد جلالة الملك (عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود) الأحساء في عام 1331هـ وحتى أواخر الستينيات من القرن الهجري الماضي كان ميناء العقير هو الثغر الوحيد للمملكة على شواطئها الشرقية. وعاصر هذا الميناء أمجاداً إذ على ضفافه في العهد السعودي حط الرواد الباحثون عن البترول رحالهم فيه. واتخذ اسمه مسمى لاتفاقية سعودية – بريطانية شهيرة وُقِّعَتْ على ضفافه في بداية الأربعينيات من القرن الهجري الماضي. في هذا الخصوص – وهنا بيت القصيد – يروي الأستاذ المربي الشيخ (عثمان الصالح) أن للملك (عبدالعزيز) رحمه الله مقولة مشهورة عندما كان (بالعقير) هي: (الآن عرفت أن لي دولة وملكاً، وقد ملكت منفذاً بحرياً على العالم). ويضيف (بوناصر) أن ميناء العقير هو ميناء المنطقة الوسطى)


ورحل عملاق (8-9) عثمان بن ناصر الصالح
الناشر: جريدة الجزيرة

– العدد: 12271ت

اريخ النشر: 04/05/2006م

الرابط للمصدر 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.