ورحل عملاق (3-9)

وخلال مراحل دراستي خارج بلادي وبعدها كنتُ أتابع النشاط التربوي والأدبي لهذا المربي الجليل الذي تخرَّج على يديه قادة، كما سبق القول، ساهموا، ولا يزالون يساهمون، في قيادة مسيرة بلادنا الخيرة كل في موقعه من حيث المسؤولية سواء منهم من هو أمير لمنطقة، أو وزير على رأس مرفق، أو أديب مثقف، أو صحفي موهوب، أو رجل أعمال.وللأستاذ (الصالح) صولات وجولات في مجال التربية والتعليم من طبيعة رائدة، وحتى بعد أن تخلّى هذا المربي الجليل عن قيادة (معهد الأنجال) بالرياض لا يزال قلمه الفياض يُثْرِي التربية والتعليم في بلادنا بالفكر التربوي الأبوي المفعم بالتجربة والحكمة.وحتى بعد أن ترك هذا المعلم الساحة التربوية فإنه لم يزل معها بقلبه ودمه وفكره وأحاسيسه حيث لم تشدّه عنها وسائل البحث عن المال والغنى أو الرغبة في التواري عن الأنظار طلباً للراحة والدعة. لقد كان (بو ناصر) بعد تركه للساحة التربوية أكثر حماساً وتعلقاً بها من ذي قبل؛ إذ ساهم قلمُه الفياض في مجال الأدب والتوجيه التربوي حيث أثبت هذا القلم، وبجدارة أن صاحبه شاعر مجيد، ومرب واعٍ، وذو اطلاع واسع في عالم الفكر والثقافة.وكنتُ، على سبيل المثال، أتابع ما ينشره هذا الْمُعَلّمُ في مجلة (المنهل) الغراء تحت عنوان (ملاحظات غير عابرة)، وهي ملاحظاتٌ قيمةٌ أو هي بمثابة الموسوعة حيث تجد فيها ما لَذّ وطاب من القول الجيد الحسن. فيها الطرافة في الاختيار والعرض، وفيها القصة المعبرة، وأبيات الشعر الجميلة من مَقُولِ الشيخ (عثمان) أو منقوله، كما تجد بها ما اختاره من طيب القول المأثور شعراً ونثراً وذلك بالإضافة إلى التعليق المفيد والكلمة الصادقة المعبرة. وكم أتمنى على أبناء شيخنا أن يجمعوا تلك الملاحظات بين دفتي كتاب لتستفيد منها الأجيال الصاعدة التي أحبّ وربّى آباءها.وفي إحدى (ملاحظاته غير العابرة)، وما أكثرها تحدّث الشيخ (عثمان) في عام 1408هـ عن لغتنا الجميلة أو لغتنا الخالدة حيث قال (من بين أمور أخرى) ما نصه: (كلتا الجملتين يصلح لأن نعبرَ بهما عن لغتنا الجميلة الخالدة التي لا يَخْلِق ثوبها، ولا تزول أهميتها، ولا يتحول جمالها ما مر الزمان، وتعاقب الْمَلَوان. لكن نحن الذين مع الأسف (والقول للمربي الجليل) تخاذلنا في دراستها.. وطغى عليها غيرها مع أنها الثوب لكل العلوم… واللباس الذي لم يزل قشيباً… إن العلوم التي تزاحمها، والمواد التي يتلقاها الطالب في مدرسته وفصله ليست هي السبب في هزالها في الأفكار ولكن الذي جعل الطالب يتقاعس عنها… ولا يقبل عليها ذلك أن المعلم لم يكن مؤهلاً فيها ولا متعمقاً في مفرداتها… والإدارة المدرسية التي هيأتها لم تكن واعية لها، ولا متذوقة لطعمها… جَعَلَ التعليم فيها آلياً سواء في مفرداتها أو نصوصها أو قواعدها.حتى أصبح ما يدرسه الطالب في الخامسة في (الابتدائي) لا يعاوده في (السادسة). وما يدرسه الطالب في المتوسط لا يكون مما يتذكره ويراجعه في الثانوي… لأن المدرس نفسه يحفظ أبواباً، ولا يتجاوزها إلى ما سبق….وفي ملاحظات غير عابرة أخرى أورد قصيدة أخوية رقيقة من مَقُولِهِ. وهي قصيدةٌ تنمُّ عن شاعرية خصبة. وقد وجّه هذه القصيدة للأستاذ عبدالله بن حمد الحقيل وذلك بمناسبة تعيينه أميناً عاماً لدارة الملك عبدالعزيز رحمه الله عام 1406هـ وهي قصيدة من بحور الوافر اقتطفتُ منها الأبيات التالية:
(أبَا حَمَدٍ) عَمِيدُ الْمُخْلصينَا …. وَيَا شَيْخاً (بِسِيرتَه) رَزِينا(بِدَارَةَ) قَائِدٌ فذّ عظيمٌ …. صَعَدْتَ لها فَصُرْتَ لَهَا أمِينَانُهَنّيِكُم بَفوْزٍ في مجالٍ …. شَرِيفٍ مَا تَزَالُ بِهِ قَمِيْناوَكُنْتَ مُرَبِّيًا وَمُدِيرَ عِلْمٍ …. وَرَبَّيْتَ الشَّبيبةَ أَجمعِينَاوَفي درْبِ الثّقافةِ سِرْتَ شَوْطاً …. وفي التَّدْرِيسِ قَدْ زاولتَ حِينَالِذَا أهَّلْتَ نَفْسكَ دُونَ شكٍ …. لِتُصْبِحَ رَائِدَ الرُّوَّادِ فين
وكنتُ، ولا أزال، أتابعُ وبشغف كذلك ما ينشره هذا المربي في مجلاتنا وصحفنا (كالمجلة العربية) و(الجزيرة) و(اليوم) و(الرياض) من تعليقات قيمة ذات طابع أدبي واجتماعي وتربوي ومنها على سبيل المثال تعليقاته حول (الطفل وكيف نربيه) التي نشرها في جريدة الجزيرة الغراء بتاريخ 14 و18 جمادى الآخرة 1411هـ. وهي تعليقات تَنُمُّ عن بصيرة نافذة رغبَ أن يُرينا شيخنا فيها الداء والدواء والسلبيات والإيجابيات في مجال تربية الطفل. لقد استهل تعليقاته متحدثاً عن أهمية الطفل والطفولة، وعمّا سيكون للأُمة في المستقبل من تقدم وسمو إذا كان الطفل معتنى به خُلقيًا وتربويًا وعلميًا وصحيًا، وفي هذا الخصوص يشير الشيخ (عثمان) إلى أن الطفل بقوله إنه (وديعة مهمة عند الأب والأم.. فإذا لم يعتنيا بهذه الوديعة والأمانة، ويحافظا عليها ستصبح الأمانة نقمة.. والوديعة خسارة ومن ثم يؤولان إلى عبء على الأسرة في شخصية هذا الطفل المضاع). كذلك يمضي الشيخ (عثمان) ليتحدَّث عمَّا ستتحول إليه هذه الوديعة إذا أصبحت خسارة حيث ستمسي (لبنة منهارة في المجتمع ونكبة سوداء في جبين البلد… إن الطفل الذي لا يجد أمًّا تربيه ولا أبًا يحميه يصبح كما قال الشاعر:
لَيْس الْيَتيمُ من انتَهى أَبَواهُ … مِنْ ذُلِّ الحياةِ وخلَّفَاهُ ذَلِيلاَإِنَّ الْيتِيمَ هُوَ الذي تَلُقَى لَهُ …. أُمًّا تَخَلَّتْ أَوْ أَبًا مَشْغُولا
إن تعليقات الشيخ عثمان (حول الطفل كيف نُربِّيه لنجعل منه رجلاً صالحاً وامرأة صالحة) هي تعليقاتٌ شيقةًٌ وممتعةٌ وجديرةٌ بالاهتمام، وتَنُمُّ عن فكرٍ نَيِّرٍ وقوةِ إدراكٍ وفطنةٍ


ورحل عملاق (3-9) عثمان بن ناصر الصالح
الناشر: جريدة الجزيرة

– العدد: 12266

تاريخ النشر: 29/04/2006م

الرابط للمصدر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.