الناشر: جريدة الجزيرة الثقافية
– العدد: 109
تاريخ النشر: 06/06/2005م
الرابط: http://www.al-jazirah.com.sa/culture/06062005/fadaat9.htm
والكتَّاب فئتان: فئةٌ تكتبُ، وما تكتبهُ غثاءٌ كغثاءِ السيل، أو كالزَّبدِ الذي يذهبُ جفاءً،
ويَتمنَّى محبو القراءة لو توقَّفت هذه الفئة عن الكتابة لأنّها نفسها عبء على عالم الكلمة، وما تكتبهُ سرعانَ ما يذوبُ كذوبَان الجليد إذا تعرَّض لتأثير الحرارة المجرَّدة. وفئةٌ أخرى تكتبُ، وإذا كتبتْ تجدُها تأخذ بناصيةِ الكلمة، وزمامِ الحرف، وتشدُّ إليها محبِّي القراءة ومتذوِّقي معانِي الحرف. وكاتبنا الذي أتحدَّث عنه من الفئة الثانية. كاتبٌ عرفتهُ منذ أن شببتُ عن الطوق وحتى يومنا هذا. ويتميَّز هذا الكاتب أنّه: ذو حيوية شبابية، وفكر نيِّر، ودراية واسعة، وصاحب قلم سيال، صافي الذهن، لَمَّاح، ذو عطاء متدفِّق. إذا كَتَبَ كَتَبَ وكفى … وإذا كَتَبَ فهُو يعرفُ كيف يكتب، ولمن يكتب، ولماذا يكتب؟ ومتى يكتب. تجدُ ما يفيد فيما يكتبه، بل ويُروي غليل الصادي. تجدُ فيما يكتبه مصداقيةً متناهيةً لأنّه كان، وعلى الدوام، صادقاً مع نفسه قَبْلَ أن ينقلَ للغير فكرَه. وبسبب هذه المصداقيّة كسب ثقة قرَّائه منذ أن عرفوه، حيث وجدوا فيما يكتبه دفء الكلمة التي تنساب إلى الوجدان قَبْلَ العقل. الكاتب أديبٌ تتفاعل في نفسه، بل وفي وجدانه، حرفة الأدب منذ أن شَبَّ عن الطوق. الكاتب قارئٌ ومطَّلعٌ. كَتَبَ في التراجم والسِّيَر، أمَّا في الأدب والسياسة والاجتماع والاقتصاد والثقافة فله فيها باع طويل. أطلقتُ عليه في كتابي (كانت أشبه بالجامعة) لقبَ أديب الأحساء الكبير لأنّه يستحقُ هذا اللقب. لم أجد كاتِباً سخَّر يراعه لخدمَة مسقط رأسه مثلَه. تفانَى في حبِّ (الأحساء) لدرجة لا توصف أو تفوق الوصف. إنّها كلمة حقٍّ أقولها لوجه الحقِّ. كان لا يتوانَى في الحديث عن إيجابيات وسلبيات أحوال (الأحساء) الاجتماعية والثقافية والتعليمية والعمرانية وغيرها. وكان يشطحُ بقلمه أحياناً ولكن في سبيل الحقِّ إذ لم تكن تأخذه في الحقِّ لومة لائم .. تناول بقلمه السيال أحوال رجالات (الأحساء) من أدباءٍ ومثقفينَ وطلبةَ علمٍ. زوَّد هذا الكاتب المكتبة الثقافية (في معاهد العلم والجامعات وفي السوق) بالعديد من الكتب القيِّمة في شتَّى الفنون. ومن كتُبه التي لا أزال أتردَّد على قراءتها كتاب: أحاديث بلدتي القديمة. إنّ مضامينَ هذه الأحاديث جزءٌ من حياتِي وكيانِي كما لو كنتُ أنا الذي سجَّلتها لأنّها تتناول وقفاتٍ في حياتِي أيّام الشباب والصِّبا. كلما قرأتُ هذه الأحاديث أجدُها تعيدُنِي إلى أيّام الشباب والصِّبا. تمكَّن هذا الكاتب، وبجدارة وبمهارة فائقة، أن يعرضَ أحاديث المدينة القديمة في أسلوبٍ سهلٍ، وبقلمٍ رشيقٍ، وكلماتٍ لا تنقصها البساطة والوضوح. كان الكاتب يعرضُ أحوالَ المعيشة في أحياءِ مُدُنٍ مثل (الهفوف) و(المبرز) وغيرها من بلدان (الأحساء) كما عهدتها أيّام الصِّبا. وجدتُ، ولا أزال أجدُ، كلما عاودتُ قراءة هذه الأحاديث أنّ الحياة عندي تتجدَّد. وكأنّ هذه الحياة التي تناولَتها هذه الأحاديث قد صُبَّت في قوالب فنِّية بريشة فنان. وفي هذه القوالب إمتاع أيّ إمتاع، ومؤانسة أيّة مؤانسة، بل وفيها وفيها وفيها إشباع ذهنيٌّ كامن. كيف لا! إنّها أحاديث بين دفّتي كتاب عن أحوالٍ عاصرتها وعايشتها. وشوقي للرجوع لهذا الكتاب في تزايد لأنّ أسلوب الكاتب في عرض أفكاره في هذا الكتاب أسلوبٌ آسرٌ وحابسٌ وممتعٌ. واختياري لهذا الكتاب جاء عن طريق الصدفة إذ للكاتب كتبٌ قيِّمةٌ أخرى، وما عرضْتُه هو نموذجٌ واحدٌ من كتبه، والكاتب يدركُ، بثاقب بصره، أنّ الكتابة فنٌّ وتذوُّق وموهبة. وهكذا مع ذلك الإدراك عند كاتبنا تمكَّن أن يحقق نجاحاً يحسده عليه قرَّاؤُه. كاتبنا مالكٌ لناصية الكلمة الصَّادقة وما تحتوي عليه من رموز. والسؤال الذي يطرح نفسه هو كيف تمكَّن هذا الكاتب أن يفرضَ نفسه في عالم الكلمة متألِّقاً متميِّزاً خلال عقود من الزمن؟ الجوابُ سهلٌ، ويسرُّني أن أرويه لأترابي وكذا للأجيال القادمة. إنّها رحلة القلم، رحلة الكلمة، رحلة تزويد النفس بما لا تعلم، ومن ثم تزويد الغير بما تعلم. هذا هو شأن كاتبنا. وَجَدَ كاتبنا في الصحافة المكتوبة هدفه المنشود في حياته. وكانت هذه الرحلة مليئة بالصِّعاب والعوائق والمشاق والمتاعب. كانت الصحافة جزءاً من لحمه ودمه ومجرى حياته. وكما يقال (كلٌ يغنِّي على ليلاه)، وكانت الصحافة ليلَى كاتبنا. كانت جريدة الخليج العربي هي ليلَى كاتبنا. بصماتُ كاتبنا في الصحافة معروفةٌ وواضحةٌ منذ أن كانت الصحافة صحافة أفراد، وواصل كاتبنا مرافقة الصحافة حتى بعد أن كانت صحافة مؤسسات. كانت الصحافة عند كاتبنا هواية، وكان مع هوايته كأنّه يتمثَّل ويردِّد بيتَ (ابن الوردي): وافتكر في منتهى حسن الذي أنت تهواه تجد أمراً جَلَلْ. أحَبَّ الصحافة إلى درجة العشق. والعشقُ إذا تمكَّن زواله محالٌ! لازم الصحافة والتصق بها: كهِوَايَة، وكهَويَّة، وكحرفة أي كمصدر رزق. الصحافةُ، في عُرْفِه، هِوايةٌ وهَويةٌ وحِرفةٌ. هي بالنسبة له دم الحياة! ولعلَّ من اللافت للنَّظر في مشواره الصحفي (بالنسبة لي على الأقل) أنَّه كان يتكيَّف مع كلِّ المستجدات والمتغيّرات التي طرأت في عالم الصحافة منذ أن كانت صحافة أفراد ومن ثم صحافة مؤسسات. وهناك الكثير من يُغَيِّرُ أحوالَه من وضعٍ إلى وضعٍ سواء في سبيل الحصول على لقمة العيش، أو من أجل تحقيق هدف معيَّن، أو من أجل التغيير لمجرَّد التغيير حتى لا تكون الحياة عنده وبالنسبة له شبه آسنة راكدة مملَّة. وكاتبنا ليس من هؤلاء. كانت حياته تسيرُ على نمطٍ معيَّنٍ رتيبٍ منذ أن كان سكرتير مجلة (هَجِرِ) اليتيمة الصادرة في عام 1376هـ بالمعهد العلمي بمدينة (الهفوف). عشقٌ دائمٌ لهوايةٍ واحدةٍ يرى كاتبنا أنّ حياته فيها في تجدُّدٍ مستمرٍ. ولله في خلقه شؤون. أعرفُ الكثيرَ من أترابه (وهم من أترابي) مِمَّنْ أحبوا تغيير نمط الحياة في سبيل الحصول على لقمة العيش أو تحقيق مطمحٍ مَّا. أمَّا كاتبنا فقد الْتَزَمَ نمط حياة معيَّنة وَجَدَ فيها مطمحه. وفي حقيقة الأمر أنّه حقَّق مجداً تَفَوَّقَ فيه على ما حقَّقه أترابُه من أمجادٍ في الحياة. خدمةُ الحرفِ شرفٌ. وكانت هذه الخدمةُ مربطَ الفرس عند كاتبنا. حارب ممتطياً فرس الحرف فانتصر في أكثر من معركة. ويكفي أنّ كاتبنا أثرى المكتبة بكتبٍ فيها متعةٌ ومنفعةٌ، وستبقى هذه الكتب أثناء حياته رامزةً على علوِّ همَّته، وشموخِ نفسه التّوَّاقة إلى مجدٍ يعلمُ هو نفسه أنّه مجدٌ سيبقى نافعاً للأجيال القادمة. في كتابي (كانت أشبه بالجامعة) تحدَّثتُ عن كاتبنا في فصلٍ مستقلٍ. ونقلتُ في كتابي ما تحدَّث به هو عن نفسه أي عن هوَايته وهوِّيته وحرفَته. قال كاتبنا في صفحة 468 من كتابي عن نفسه ما يلي: أمّا (الثالث) (يقصد كاتبنا نفسه) فقد (تشعْبط) في خيوط الهواء حيث كان يرى أنّه يستطيعُ إصلاح العالم، وأن يغيِّر من المفاهيم، فتعلَّق بالصحافة، وكان يظنُّ أنّه بهذه الوسيلة الإعلام يستطيعُ أن يكون له صوتٌ مؤثِّرٌ .. وَمَا دَرَى أنّ الصحافة كوسيلةٍ إعلاميةٍ قابلة للتطوُّر .. وقد تطوَّرت بجانبها وسائل إعلامية أخرى تجاوزتْها وتركتْها تحبو على الطريق، وسائلٌ تستطيع أن تصل إلى المتلقِّي في عقر داره .. تنقلُ إليه أحداث العالم البعيد على الهواء مباشرةً في حينها .. وهي وسائلٌ تدعمها الدول والحكومات، ويساندها التطوُّر العلمي والتكنولوجي المتجدِّد الهائل السريع التَّفاعل. … أمّا (الثالث) (يقصد الكاتب نفسه) فلم يزل في القاع مكتفياً بإشارة الناس إليه بقولهم: هذا الكاتب الصحفي (فلان) .. تماماً كما يشيرون إلى (العبيط) أو (المجنون) بقولهم: (العبيط أهوه) .. باللهجة المصرية الدارجة .. وكان يظنُّ في البداية أنّه سوف يرقى سلَّم الشهرة والمجد، وما درى أنّه يسلك مسلكاً صعباً، إن زلَّت به القدم، فلن تقوم لصاحبها قائمة، وصاحبنا (يعني كاتبنا نفسه) لم تزُل قدمه، ولم ينزلق بحمد الله .. بل كان صوتاً من أصوات الإصلاح لا يزال يتردَّد صداه في الآفاق على ممر السنين .. ولكنها الأيَّام تغيَّرت، والوسائل تطوَّرت، وظلَّ صاحبنا (يعني كاتبنا نفسه) يراوحُ في مكانه، ويجتَرُّ الذكريات لأيّام خوال لن تعيدها عقارب الساعة إلى الوراء لحظة واحدة. إنّ مشاعرَ المحبة التي أكنُّها لهذا الكاتب لا تقفُ عند كونِي أنّني مِمَّنْ يقرأ له، بل تتجاوز ذلك إلى اعتباره رمزاً من رموز الوطن في المجال الذي كرَّس وقتَه وجهدَه من أجله. حياةُ كاتبنا منتجةٌ حافلةٌ، وهو جدير بالتكريم. كاتبنا رقيقٌ الجانب، هادئُ الطَّبع، دمثُ الأخلاق. أطال الله في عمر كاتبنا أديب الأحساء الكبير الأستاذ (عبدالله بن أحمد الشباط) الذي لا يزال يتحفُنا من وقتٍ لآخرَ إمَّا بمقالةٍ مفيدة أو كتابٍ قيِّمٍ.
الناشر: جريدة الجزيرة الثقافية
– العدد: 109
تاريخ النشر: 06/06/2005م