ورحل عملاق (4-9)

وشيخُنا (بو ناصر) من محبّي السفر والسياحة والرغبة في مقابلة رجال العِلم والأدب ووجهاء المجتمع، وكان لا يفوت عليه أن يسجّل في بعض الأحيان ذكريات سياحته وأسفاره في شكل مطارحات شعرية مع من يلتقي بهم.والمطارحات الشعرية فنٌّ من فنون الشعر العربي المعروفة، ولا يختلف هذا الفن عن سائر فنون الشعر الأخرى من حيث أغراضه وموضوعاته ودواعيه.ومما يساعد على ذيوع هذا الفن بين الأصدقاء والأحباب اتساع وشمول مجال القافية ذات الروي الواحد على المحاكاة النمطية.وللمطارحات الشعرية بين الأصدقاء والأحباب تأثير طيّب ووقعها على النفس يفوق الوصف. ولشيخنا (بو ناصر) باع طويل في هذا المجال ويقول عنها: (أما الاخوانيات فقد عشقتُها وأنا صغيرٌ حتى وأنا في مراحل الدراسة سنة 1358هـ أي في الخمسينيات، والحقيقة أن لي فيها ولعاً ورغبةً شديدة مع أنني لا أقول أنني اعتنقتُها ولكنها خَرَجَتْ لبعض الإخوان بدون تكلف وبدون تصنّع – إن شاء الله). وسأقتصرُ على إيراد بعضٍ من هذه المطارحات مع رجلِ علمٍ وُلِدَ وَعَاشَ في (الأحساء)، وبعد تلقِّي العِلم الديني الشرعي بكلية شريعة الرياض آنذاك مارس القضاء، وانتهى به المطاف متولّياً رئاسة المحاكم بمسقط رأسه ردحاً من الزمن، ولا يزال صاحبنا على قيد الحياة أَلاَ وهو فضيلة الشيخ (عبدالعزيز بن يحيى اليحيى)، أطال الله في عمره. وموضوع هذه المطارحات زيارةٌ قام بها المربِّي (بو ناصر) مع رفقاء له لبلدة (هَجِر).وكانت الزيارة، كما سبق القول، للقاضي (اليحيى) تلبيةً لدعوةٍ تقدَّم بها لشيخنا (بو ناصر). هي زيارةٌ ولكنها، في حقيقة الأمر، سياحة سجّلها المربِّي الفاضل شعراً، وحظيت منه (الأحساء) بمديحٍ عاطرٍ ولكنه حقيقي ومن خبير. يقول (بو ناصر) عن هذه الزيارة:
عَرَفْتُ وَمَنْ عَرَفْتُ فَلَيْسَ وَحْياً …. وَلَكِنْ ذَا لَعَمْرُ اللهِ لُقْيَاإلَى (عَبْدِالْعَزِيزِ) الشَّهْمِ سِرْنَا …. عَلَى شَوْقٍ إلَى الشَّيخِ (ابنِ يحْيى)نلبِّي دعوةً كرُمتْ عَلَيْنَا …. إلى (الأحساءِ) واحاتٍ وأفْيَ
وكانت أداة النقل في الرحلة هي سيارة أمريكية من نوع (جِمْسِي) G.M.C وهي سيارة لا تعرف التعب أو الإعياء، وكان أميرُ الرَّكب أديباً من أسرة (الحقيل) الكريمة هو الشيخ (عثمان بن حمد الحقيل)، يقول أستاذنا (بو ناصر):
على (جِمْسٍ) من (الأمريكِ) آتٍ …. فلا يعروهُ في مسعَاهُ إعْيَاأميرُ الرَّكبِ في المَمْشى (حُقيْلٌ) …. من الآدابِ نلْقَى مِنْهُ رَيّ
وتوجّه الرّكب في مرح وسرور إلى (الأحساء) منبع الخير، وذات النخيل الباسقات الطلع، وقد نادى شيخُنا رفيق دربه (الحقيل) في رحلة السير بقوله:
إلى (الأحْسَاءِ) نمرحُ في نشاطٍ …..رعَى اللهُ (الحَسَا) المحبوب رعيافأولُ منبعٍ للخيرِ كانت ….. وما زالت بها تنمو وتحيانخيلٌ باسقاتٌ ذات ظل ….. لذاكَ يا أخي (عثمانَ) هيَّ
وقد أثنى شيخنا (بو ناصر) على المضيِّف فضيلة الشيخ (عبدالعزيز اليحيى) ثناءً عاطراً، وهو ثناء، في حقيقة الأمر، يستحقه القاضي (اليحيى):
نحيّي شيخَنا القاضي (ابنَ يحيى) …. ونشربُ من بديعِ الشعرِ ريّاأديبٌ شاعرٌ قاضٍ لبيبٌ …. له كلُّ المزايا قد تهيّ
أكرم فضيلة القاضي (اليحيى) ضيوفه إكراماً تجاوز فيه شروطاً ألزمه الضيوف بها لدرجة أن المربِّي الفاضل لم ير بُداً من توجيه عتاب رقيق لمضيفه مفاده أن من شأن الإسراف والمبالغة في الإكرام تنفير الصاحب الخل الصفِيِّ. ولعل لهذا العتاب ما يبرره. لنرى كيف وصف شيخنا (بو ناصر) مائدة الطعام المعدّة:
يقدّم للضيوف لحوم ضانٍ ….. يهيئها لهم طبخاً وشيّاعلى تلك الصحون مكوّرات ….. لأيّة وافدٍ حيّا وبيّا(ليَايَا) الضّان مثل القطن بِيضٌ ….. تقولُ لآكلٍ هيّا إليّاعلى (عبدالعزيز) لنا شروطٌ ….. ولم يكُ للشروط لها وفيّالماذا شيخُنا بمُداه أدنى ….. وأصبحت الخرافُ له ضحيّاليطّرح الذبائحَ والحواشي …… ولا يُدني لنا منها طريّاولكنّا رأينا كلَّ صحنٍِ …… يصِرْنَ فوق ذروتها طليّافما الإسراف يدنينا إليكم …… ونحن كإخوةٍ عشنا سويّاألا إن التكلّفَ في طعامٍ …… ينفّر صاحباً خِلاً صفيّ
وبعد زيارة فضيلة قاضي (الأحساء) في منزله لبّى المربِّي الفاضل مع رفاقه دعوةً كريمةً من الأستاذ (سعد بن حمد المنقور) أحد وجهاء (الأحساء).وكذلك دعوة أخرى من رجل كريم أسمه (غنام) وهو قاطن في (هجر)، ولكنه من بلدة (عنيزة). عن هذه الدعوات تحدث شيخنا عن الأثر الذي تركته في نفسه مع إزجاء عاطر المديح لأسرة (المنقور) ولأصلها اليعربي:
وكنّا بَعدُ عند أخٍ كريمٍ ….. وكان من الوفاء أخاً زكيّانود من (ابن منقور) اعتذاراً….. ولكن الكريمَ بدا عصيّالدى (سعد بن منقور) زعيمٌ ….. له شرفٌ سما فوقَ الثريّا(بنو المنقور) من سروات (نجدٍ) ….. لقد نالوا بها شرفاً عليّاسُراة (بني تميمٍ) في عُلاها ….. بدنيانا لقد نالوا رُقيّاهُمو في كلِّ أرضٍ حيث حلّوا ….. بربْعِ (سُديرنا) روضاً جنيّاتعجّب صاحبي من جُودِ (سعدٍ) ….. وأبصرَ دارَهم ربْعاً بَهيّافقلتُ وأنت يا (غنَّامُ) عِشتمْ ….. بقلبِ (عُنيزةَ) كرَماً سخيّاوجدناكمْ ولا زِلتمْ كِراماً ….. وكلٌّ منكمُو هَلاّ وحَيّ
وكرر شيخنا (بو ناصر) ثناءه على بلدة (هَجِر)، وعلى أهلها، وعلى علمائها وأدبائها الذين غمروه ورفاقه بترحابهم وكرم ضيافتهم وهم، في حقيقة الأمر، أهلٌ لذلك لما يتمتعون به من علمٍ وأدبٍ:
أقول لرفقتي والقولُ حقٌ ….. رأينا في (الحَسَا) بَشَراً أبيّاشيوخٌ في القضاءِ وفي النّوادي ….. فلستَ ترى بِهُمْ إلا سَنيّاذوي أدبٍ وهم وجهاءُ دنيَا ….. ودينٍ في المروءة والحميّاغمرتونا بفضلٍ من سَجَايا ….. وما كُنّا لها يوماً نَسِيّا
ومن ثم أثنى، بصفةٍ خاصةٍ، على فضيلة القاضي (اليحيى) وأبنائه لما لهم من فضل في توجيه الدعوة:
فبوركَ شيخنا القاضي بسعيٍ ….. أتاحَ لنا هنا يوماً هنيّاوبوركَ في بَنيه شيوخِ علمٍ ….. فكلٌّ بالحِجَى أضحَى فتيّا
وعاد شيخنا مرةً أخرى مثنياً على أهل (الأحساء) وبالأخص من شَرُف بلقياهم في منازلهم دون أن يسميهم بقوله:
وفي (هَجر) سلائلُ من كرامٍ ….. كأنّهمو غداةَ الجودِ طيّادعُونا في بيوتهمو فكانوا….. بنيْلهموا إذا اتّخذوه زيّاولو أنّا أطعنا لو بَقينا ….. لكُنّا في نواديهم سنيّا
وللتعبير عن مدى سروره وارتياحه من الزيارة لم ير (بو ناصر) بُداً من توجيه شكره الجزيل، مرةً أخرى، لصاحب المبادرة في دعوته بقوله:
ختاماً يا (ابنَ يحيى) في حِماكُم ….. حمدناكم صباحاً أو عشيّاولكنّا نُغادرُكم وكلٌّ …. بشكركمُ الجزيل بدا حفيّاوما ننسى من (القاضي) تحايا ….. كعَرفِ الرّوض قوّاماً نديّا
ومع المديح الضافي لمحافظة (الأحساء) عاد شيخنا أدراجه متذكراً (الرياض) العاصمة التي غادرها لأيامٍ معدودة قائلاً:
ولا تنسوا بعاصمةٍ إخاءً ….. (رياضكم) بكم أضحى غنيّافنحن اليومَ منكم في ودادٍ ….. مدى الأيامِ ظلّ بكم نقيّاوعاصمةُ البلادِ لنا جميعاً ….. لنا درعٌ نَصُدُّ به الكَميّا
ومن ثم عاد شيخنا، مرةً ثالثةً، ليؤكد محبته وتعاطفه مع نجباء ببلدة (هَجِر) كما لو كان (بو ناصر) – يرحمه الله – موجّهاً بقية أبيات القصيدة لابنه الأخ الأستاذ الدكتور (ناصر) بالذات بأن لا ينسى بلدة (هَجِر):
هنا نُجباءُ في (هَجر) تباروا ….. تعالوا فاعرفوهم يا (بُنَيّا)تروْا فيها عناصرَ طيّباتٍ ….. وقوماً في (الحَسا) شعباً رضيّاسلام ُاللهِ ما غنّى حَمامٌ ….. بسامقِ نَخلكمْ صوتاً شَجيّا


ورحل عملاق (4-9) عثمان بن ناصر الصالح
الناشر: جريدة الجزيرة

– العدد: 12267

تاريخ النشر: 30/04/2006م

الرابط للمصدر

ورحل عملاق (3-9)

وخلال مراحل دراستي خارج بلادي وبعدها كنتُ أتابع النشاط التربوي والأدبي لهذا المربي الجليل الذي تخرَّج على يديه قادة، كما سبق القول، ساهموا، ولا يزالون يساهمون، في قيادة مسيرة بلادنا الخيرة كل في موقعه من حيث المسؤولية سواء منهم من هو أمير لمنطقة، أو وزير على رأس مرفق، أو أديب مثقف، أو صحفي موهوب، أو رجل أعمال.وللأستاذ (الصالح) صولات وجولات في مجال التربية والتعليم من طبيعة رائدة، وحتى بعد أن تخلّى هذا المربي الجليل عن قيادة (معهد الأنجال) بالرياض لا يزال قلمه الفياض يُثْرِي التربية والتعليم في بلادنا بالفكر التربوي الأبوي المفعم بالتجربة والحكمة.وحتى بعد أن ترك هذا المعلم الساحة التربوية فإنه لم يزل معها بقلبه ودمه وفكره وأحاسيسه حيث لم تشدّه عنها وسائل البحث عن المال والغنى أو الرغبة في التواري عن الأنظار طلباً للراحة والدعة. لقد كان (بو ناصر) بعد تركه للساحة التربوية أكثر حماساً وتعلقاً بها من ذي قبل؛ إذ ساهم قلمُه الفياض في مجال الأدب والتوجيه التربوي حيث أثبت هذا القلم، وبجدارة أن صاحبه شاعر مجيد، ومرب واعٍ، وذو اطلاع واسع في عالم الفكر والثقافة.وكنتُ، على سبيل المثال، أتابع ما ينشره هذا الْمُعَلّمُ في مجلة (المنهل) الغراء تحت عنوان (ملاحظات غير عابرة)، وهي ملاحظاتٌ قيمةٌ أو هي بمثابة الموسوعة حيث تجد فيها ما لَذّ وطاب من القول الجيد الحسن. فيها الطرافة في الاختيار والعرض، وفيها القصة المعبرة، وأبيات الشعر الجميلة من مَقُولِ الشيخ (عثمان) أو منقوله، كما تجد بها ما اختاره من طيب القول المأثور شعراً ونثراً وذلك بالإضافة إلى التعليق المفيد والكلمة الصادقة المعبرة. وكم أتمنى على أبناء شيخنا أن يجمعوا تلك الملاحظات بين دفتي كتاب لتستفيد منها الأجيال الصاعدة التي أحبّ وربّى آباءها.وفي إحدى (ملاحظاته غير العابرة)، وما أكثرها تحدّث الشيخ (عثمان) في عام 1408هـ عن لغتنا الجميلة أو لغتنا الخالدة حيث قال (من بين أمور أخرى) ما نصه: (كلتا الجملتين يصلح لأن نعبرَ بهما عن لغتنا الجميلة الخالدة التي لا يَخْلِق ثوبها، ولا تزول أهميتها، ولا يتحول جمالها ما مر الزمان، وتعاقب الْمَلَوان. لكن نحن الذين مع الأسف (والقول للمربي الجليل) تخاذلنا في دراستها.. وطغى عليها غيرها مع أنها الثوب لكل العلوم… واللباس الذي لم يزل قشيباً… إن العلوم التي تزاحمها، والمواد التي يتلقاها الطالب في مدرسته وفصله ليست هي السبب في هزالها في الأفكار ولكن الذي جعل الطالب يتقاعس عنها… ولا يقبل عليها ذلك أن المعلم لم يكن مؤهلاً فيها ولا متعمقاً في مفرداتها… والإدارة المدرسية التي هيأتها لم تكن واعية لها، ولا متذوقة لطعمها… جَعَلَ التعليم فيها آلياً سواء في مفرداتها أو نصوصها أو قواعدها.حتى أصبح ما يدرسه الطالب في الخامسة في (الابتدائي) لا يعاوده في (السادسة). وما يدرسه الطالب في المتوسط لا يكون مما يتذكره ويراجعه في الثانوي… لأن المدرس نفسه يحفظ أبواباً، ولا يتجاوزها إلى ما سبق….وفي ملاحظات غير عابرة أخرى أورد قصيدة أخوية رقيقة من مَقُولِهِ. وهي قصيدةٌ تنمُّ عن شاعرية خصبة. وقد وجّه هذه القصيدة للأستاذ عبدالله بن حمد الحقيل وذلك بمناسبة تعيينه أميناً عاماً لدارة الملك عبدالعزيز رحمه الله عام 1406هـ وهي قصيدة من بحور الوافر اقتطفتُ منها الأبيات التالية:
(أبَا حَمَدٍ) عَمِيدُ الْمُخْلصينَا …. وَيَا شَيْخاً (بِسِيرتَه) رَزِينا(بِدَارَةَ) قَائِدٌ فذّ عظيمٌ …. صَعَدْتَ لها فَصُرْتَ لَهَا أمِينَانُهَنّيِكُم بَفوْزٍ في مجالٍ …. شَرِيفٍ مَا تَزَالُ بِهِ قَمِيْناوَكُنْتَ مُرَبِّيًا وَمُدِيرَ عِلْمٍ …. وَرَبَّيْتَ الشَّبيبةَ أَجمعِينَاوَفي درْبِ الثّقافةِ سِرْتَ شَوْطاً …. وفي التَّدْرِيسِ قَدْ زاولتَ حِينَالِذَا أهَّلْتَ نَفْسكَ دُونَ شكٍ …. لِتُصْبِحَ رَائِدَ الرُّوَّادِ فين
وكنتُ، ولا أزال، أتابعُ وبشغف كذلك ما ينشره هذا المربي في مجلاتنا وصحفنا (كالمجلة العربية) و(الجزيرة) و(اليوم) و(الرياض) من تعليقات قيمة ذات طابع أدبي واجتماعي وتربوي ومنها على سبيل المثال تعليقاته حول (الطفل وكيف نربيه) التي نشرها في جريدة الجزيرة الغراء بتاريخ 14 و18 جمادى الآخرة 1411هـ. وهي تعليقات تَنُمُّ عن بصيرة نافذة رغبَ أن يُرينا شيخنا فيها الداء والدواء والسلبيات والإيجابيات في مجال تربية الطفل. لقد استهل تعليقاته متحدثاً عن أهمية الطفل والطفولة، وعمّا سيكون للأُمة في المستقبل من تقدم وسمو إذا كان الطفل معتنى به خُلقيًا وتربويًا وعلميًا وصحيًا، وفي هذا الخصوص يشير الشيخ (عثمان) إلى أن الطفل بقوله إنه (وديعة مهمة عند الأب والأم.. فإذا لم يعتنيا بهذه الوديعة والأمانة، ويحافظا عليها ستصبح الأمانة نقمة.. والوديعة خسارة ومن ثم يؤولان إلى عبء على الأسرة في شخصية هذا الطفل المضاع). كذلك يمضي الشيخ (عثمان) ليتحدَّث عمَّا ستتحول إليه هذه الوديعة إذا أصبحت خسارة حيث ستمسي (لبنة منهارة في المجتمع ونكبة سوداء في جبين البلد… إن الطفل الذي لا يجد أمًّا تربيه ولا أبًا يحميه يصبح كما قال الشاعر:
لَيْس الْيَتيمُ من انتَهى أَبَواهُ … مِنْ ذُلِّ الحياةِ وخلَّفَاهُ ذَلِيلاَإِنَّ الْيتِيمَ هُوَ الذي تَلُقَى لَهُ …. أُمًّا تَخَلَّتْ أَوْ أَبًا مَشْغُولا
إن تعليقات الشيخ عثمان (حول الطفل كيف نُربِّيه لنجعل منه رجلاً صالحاً وامرأة صالحة) هي تعليقاتٌ شيقةًٌ وممتعةٌ وجديرةٌ بالاهتمام، وتَنُمُّ عن فكرٍ نَيِّرٍ وقوةِ إدراكٍ وفطنةٍ


ورحل عملاق (3-9) عثمان بن ناصر الصالح
الناشر: جريدة الجزيرة

– العدد: 12266

تاريخ النشر: 29/04/2006م

الرابط للمصدر

ورحل عملاق (2-9)

وتعود معرفتي بالأستاذ (عثمان الصالح) إلى الأيام التي كنت فيها طالبًا (بمدرسة الرياض الثانوية) الوحيدة، وهي المدرسة التي كانت تحتل بيت (ابن جبر)، بحي (شلِّقة)، غرب (شارع الوزير) الشهير بالرياض آنذاك. وكان مدير المدرسة الثانوية الوحيدة – آنذاك – الأستاذ (أحمد الجبير). في تلك الأيام الخوالي كنتُ رئيسًا لمجلس (طلبة المدرسة)، وعضوًا فعالاً في (نادي المدرسة الأدبي والمسرحي)، وكان الأستاذ المربي (عثمان الصالح) متعاطفًا مع المدرسة للغاية، ويتردد عليها كثيرًا، كما كان يحرص على حضور (ناديها) الأدبي المتواضع الذي كنت أخطبُ فيه وبالأخص الحفل الذي أقامته المدرسة لاختتام نشاطها السنوي لعام 1377هـ. وكان ذلك الحفل متواضعًا في مظهره لضعف الموارد المتاحة له، ولكنه كان ساميًا في معناه وجوهره. وخلال برنامج ذلك الحفل كان الشيخ (عثمان) وكأنه بين طلبته (بمعهد الأنجال) مشجعًا ومتعاطفًا وعلى وجهه علامات البشر والسرور. ولا أبالغ إذا ذكرتُ الآن أنني كنتُ أتخيَّله آنذاك بقلبين: قلب (بمعهد الأنجال) وقلب آخر (بالمدرسة الثانوية) الوحيدة بالرياض.وظلَّ هذا المعلِّم في الساحة التربوية كالعاشق المتيم مُحِبًا للتربية وللعلم وللمتعلمين. وكان هذا الرجل بالمرصاد للطلبة المتفوقين سواء منهم من كان (بمعهد الأنجال) أو من هو (بالمدرسة الثانوية بالرياض) حتى بعد تخرجهم (وأنا منهم)، حيث كان يراسلهم حيثما كانوا مشجعًا لهم على مواصلة الدراسة وبذل الجهد في سبل تحصيل العلم.وعلى سبيل المثال كنت قد نشرتُ في جريدة (اليوم) سلسلة مقالات عن مدرستي (مدرسة الأحساء الابتدائية) الوحيدة المؤَسَّسة عام 1356هـ، وهي مقالات يضمها الآن كتاب بعنوان (كانت أشبه بالجامعة: قصة التعليم في مقاطعة الأحساء في عهد الملك عبدالعزيز: دراسة في علم التاريخ الاجتماعي). لقد كان مبعثُ السرور عندي مفاجأة الأستاذ المربي الفاضل (بوناصر) حينما أتحف قراء جريدة (اليوم) بمقالة علّق فيها على سلسلة مقالات (كانت أشبه بالجامعة) وفيها من الذكريات والفوائد والنصائح؛ ما دفعني إلى نشر المقالات بين دفتي كتاب فيما بعد. ورد بمقالة الأستاذ المربي:(عرفتُ معالي الأستاذ الدكتور (محمد بن عبداللطيف آل ملحم) في مدرسة (اليمامة) (بالرياض) في مناسبتين: الأولى – حفلة أقيمت للخطباء المرتجلين بين جميع المدارس بالمنطقة وإن لم تخني الذاكرة فهي أوسع من منطقة واحدة, وفاز فيها بالتقدير والأولية، ولقد خطب برهةً من الوقت كان مبرزًا، لم يلحن ولم يتلعثم.. وكان موضع الإعجاب والإكبار. والثانية – أقيمت في (اليمامة) نفسها مسابقة الأوائل.. وكان الأول من بين المتسابقين. أُقَدِّمُ هذه الكلمة عن ذكرياتي في تلك الفترة البناءة. و(اليمامة) أولى المدارس الثانوية نشاطًا وتقدمًا واتساعًا وشمولاً، ولا أنسى الأدوار التي قامت بها (اليمامة)، وقد تعاقب عليها رجال كبار أمثال الأستاذ (عبدالله الحمد الحقيل)، والأستاذ الدكتور (حمد السلوم)، والأستاذ (عبدالرحمن العجاجي) ولا يعرف آنذاك إلاَّ بالثاقب، والثاقب اللقب، والعجاجي الأصل، وكلاهما جميل وحسن، فالأولُ مشتقٌ من الضياء الذي يثقب الكلام بالضياء والنور، والعجاجي نسبٌ أصيلٌ وهو نقعُ الخيل إذا أغارت إشارة إلى قول الله عزّ وجلّ (فأثرن به نقعًا، فوسطن به جمعًا) انتهى التعليق..* فأعجبه خطها فسأل عن الكاتب، وعلم أنه شخصي، فكتب إليَّ، واستدعاني لأكون مدرسًا، ووعدنِي بأنه سيعمل ما يريحني سكنًا وعملاً، وكدتُ أوافقُ لولا أن لي والدة لا تريد مغادرة (المجمعة) بأي حال لأنها كفيفة البصر، ولكنه أَلَحَّ وبالغ، ولكن لم يتم لِي نقل، ولا زِلْتُ أذكرُ وأجتَرُّ كتبه يرحمه الله، وحرصه على ما يجعل عمله متكاملاً). انتهى التعليق.وبودي الإشارة إلى (مداخلة) لا تخلو من الطرافة بين (علامة الجزيرة) الأستاذ (حمد الجاسر) والأستاذ (عثمان الصالح)، وهي (مداخلة) نَشَرَهَا شيخُنا (بوناصر) بتاريخ 23 من المحرم عام 1413هـ في جريدة (اليوم) تحت عنوان (حمد الجاسر.. وكلمات من أجل التاريخ)، ونظرًا لما لهذه (المداخلة) من أهمية تاريخية فسأذكرُها – كما رواها شيخُنا (الصالح) – فيما يلي:(اتصل بي أستاذنا ومؤرخنا وشيخنا (حمد الجاسر) معلقًا وملاحظًا على ما كتبتُه في جريدة (اليوم) بتاريخ 17 من ذي الحجة عام 1413هـ حول تعليقي على سلسلة البحوث التي كتبها معالي الأستاذ الدكتور (محمد آل ملحم) حول مدرسة (الأحساء) التي وَصَفَهَا بأنَّها أشبه بالجامعة في أحاديث ممتعة بلغت حوالي العشرين حديثًا، والتي مَرَّ فيها بذكر الأستاذ (النحاس) أول مدير للمدرسة الابتدائية آنذاك، الذي له مجهود مشكور.. وشيخنا وأستاذنا الشيخ (حمد الجاسر) لملاحظاته قيمتها التاريخية والاجتماعية، ولها وزنها فقد أعطاه الله ذاكرة قوية، ووعيًا وإدراكًا لتاريخ البلاد عامة، وإنه لكنْز من كنوز التاريخ في بلادنا الغالية في ظل رائدها – خادم الحرمين الشريفين – وإليك الملاحظات التي تكرم شيخنا (بها):1- أنَّ العام الذي كان (النحاس) (فيه) في الشرقية (الأحساء)، والعام الذي مَرَّ عليه رواتب مدرسة (المجمعة) المؤسسة (هو) عام 1357هـ وليس عام 1347هـ..2- قال أستاذنا مفصلاً، ومنبهًا: إن النحاس جاء إلى (جدة) من (مصر) في عام 1346هـ، وانتقل إلى (الوجه) ثم (ينبع) (وكان شيخنا الجاسر هناك) ولم يكن في (الأحساء) إلاَّ بعد عام 1354هـ، أو عام 1355هـ؛ لذلك يرى شيخنا – رعاه الله – أن العام الذي كان فيه النحاس في (الأحساء) هو عام 1357هـ وليس عام 1347هـ.وكان لي تعليق على هذه المداخلة الشيقة بين الشيخين (الجاسر) و(الصالح) تَتَكَوَّنُ من ملاحظتين: الأولى أن بهذه المداخلة (درسا) يجب أن لا يَمُرَّ دون التنويه عنه، وهو (درسٌ) مفيدٌ، ويدخل هذا الدرس – من وجهة نظري – تحت باب (تواضع العلماء) كما تُحدِّثُنا عن ذلك كتب التراث.والثانية أن أستاذنا الشيخ (عثمان الصالح) قد تقبَّل تصحيحات (علامة الجزيرة) بصدرٍ رحبٍ وسعادةٍ بالغةٍ، بل وبادر أستاذنا (الصالح) – وفي شوقٍ منقطع النظير – إلى نشر التصحيحات، وهل هناك تواضع أكثر من هذا؟!.


ورحل عملاق (2-9) عثمان بن ناصر الصالح
الناشر: جريدة الجزيرة

– العدد: 12263

تاريخ النشر: 26/04/2006م

الرابط للمصدر

ورحل عملاق 1-9

ورحل عملاق ذو سيرة حسنة عطرة إلى مثواه المؤقت.كانت سيرته ملء السمع والبصر لما اشتهر به من خلالٍ ومناقب أجمع على مصداقيتها جيله المعاصر، الجيل الذي أحبّه، ويعجز لو حاول إنصافه بتأبين طيبٍ، أو بحفل تكريمٍ، أو بقصيدة رثاءٍ عصماء أن يُوفِّي له حقه.كان علماً بارزاً، نسيج وحده، في طيبته، ودماثة خلقه، وطيب معشره.تمكّن، وبجدارة، أن يرسم لنفسه خطاً تفرَّد به في ميدان التربية والتعليم.تخرَّج على يديه قادة، ورجال أدب، ورجال سياسة.كان متسامحاً متواضعاً، يحب الخير، ويحث على طلب العلم في سلوكه التربوي والتعليمي.كان يجلله الوقار، وكانت له هيبةٌ وطلعةٌ بهيةٌ، إلا أنه متواضع، تأسرك بشاشته، وطيب حديثه، وسموق أخلاقه.هو هامةٌ شامخةٌ بلا غرور وبلا كبرياء، وبلا عنجهية، وهو طلعة بهية يكللها التواضع وحسن الخلق والحلم والاحتساب والاستقامة النادرة.هو أبٌ روحي. والد كبير. ومربٍ جليل. وأستاذ جيل. عاطفة الأبوة سمة بالغة فيه ليس على أولاده، فلذات كبده فحسب، ولكن على آخرين (وأنا منهم) وجدُوا أنَّهم بعد التَّعرف عليه يُعاملونَ، من قبله، كمعاملة أبنائه سواء بسواء.كان يتحفَّي بالصديق إذا قابله، ويسأله عن أحواله وأحوال أسرته إذا كان على معرفةٍ سابقةٍ بأفرادها.كان في الطليعة بين رجال التربية والتعليم في عهده وفي مقدمة الرواد منهم. وتمكّن بثاقب بصره، وبما تميّز به من حزمٍ وعزمٍ وحلمٍ أن يضع بصمات متميزة في مسيرة تعليم جيل من القادة. جيلٌ تقلّد، وأثناء حياته، زمام القيادة والريادة بعد أن شارك في تأهيله دينياً وثقافياً وخلقياً. وكان ذلك مصدر ارتياح عنده، بل وفخر واعتزاز.كان لقبه الذي عُرِفَ به لقب (المربي الفاضل). لقبٌ يسبق اسمه. استحقَّه بجدارة. اسمٌ محفورٌ في ذاكرة تلامذته ومريديه اعترافاً منهم بفضله في تربيتهم وتعليمهم.كان في تكوينه التعليمي نسيج وحده شغوفاً بالقراءة، ومحباً للتحصيل والتأهيل الذاتي ليكون متمكناً في التدريس وباعتبار أن التدريس أمانة مقدسة عنده، وتدرَّج في ممارسة العملية التربوية من أسفل السلم صعوداً كما يقال، فعركته الحياة وخاض غمارها في مجاله التربوي فكان، بحقٍ، في مقدمة صنَّاع جيلٍ من القادة معطياً بلا منٍّ، لم يبخل بعلمه، وواصل عطاءه بعد التخلي عن التدريس موجهاً بلسانه وقلمه حتى الرمق الأخير من حياته.لم يكن خريج مؤسسة تعليمية نمطية. بل هو خريج مدرسة الحياة وأمثاله في عهده قلة. لهذا السبب وذاك كان معهده الذي تعلم فيه مصاحبة رجال العلم، ومرافقة الكتاب صديقاً حميماً له حتى تمكَّن أن تكون لديه قدرات علمية في الآداب والتراث قوامُها ثروةٌ معرفيةٌ. له مشاركات أدبية في ألوانٍ شتى من أطياف المعرفة. كان فارس الكلمة وصديق الحرف.رجلٌ حديثه عذب. إذا تحدث كان كما لو كان ينهل من نبعٍ ثرٍّ. عَفُّ اللسان، ذو عواطفٍ جياشةٍ صادقةٍ. له مشاركات في أحوال المجتمع العامة، وله حضور متميز في المناسبات العامة.كانت له صداقات واسعة في أوساط مجتمعه معتبراً أن هذه الصداقات بحقٍ، ثروته الحقيقية.عُهِدَ إليه بقيادة مؤسسة تربوية (معهد الأنجال) وهو في ريعان شبابه وذلك في يومٍ كان للأمية السيادة الكاملة، وفي يوم كان التعليم الحديث تحفّه المخاطر لأنه مجرد تعليم حديث فأثبت هذا العملاق قدرةً فائقة في القيادة كان قوامها عاطفة أبوة، وملاطفة مرنة ولكنها حازمة، وإخلاص مطلق، وعطاءٌ ثرٌّ، وعشقٌ صادق للعمل، ناهيك عن تمكنه في معهده من غرس الفضائل والقيم الخلقية والتمسك بآداب الإسلام وتعاليمه.انه الأستاذ الشيخ (عثمان بن ناصر الصالح) المربي الكبير والأديب الأريب الذي كان العلم المتألق في ميدان التربية والتعليم في مدينة الرياض في الستينيات والسبعينيات والثمانينيات من القرن الهجري الماضي.حينما علمتُ بنبأ نجاحي في كلية الحقوق – جامعة القاهرة وحصولي على الأولية في (السنة الأولى) بالكلية على أكثر من ألفي طالب، وهي الأولية التي كانت ملء السمع والبصر في صحافتنا ومنها جريدة (المدينة المنورة) بتاريخ 8-11-1378هـ الموافق 15- 5-1959م وصلتني رسائل تهنئة من بينها رسالة بتاريخ 26-11-1378هـ الموافق 2-6-1959م من الأستاذ الأب المربي (عثمان الصالح) جاء فيها بعد التحية: (علمتُ من جريدة المدينة المنورة أنَّك كنت الأول في الاختبار من بين ألفي طالب في الحقوق، وكنت بهذا مسروراً إذ إن رجلاً من أبناء هذه البلاد شق طريقه، وأثبت وجوده، فسر في هذا الطريق والله معك، ونرجو أن نرى في إخوانك أبناء البلاد – المملكة العربية السعودية – ما رأيناه فيك). كانت هذه الرسالة لمسة تهنئة وتشجيع من مربٍ فاضل يدرك أهمية العلم. بعثت لأستاذنا (الصالح) برسالة شكرتُه فيها على عواطفه النبيلة، كما ذكرتُ له فيها (من بين أمور أخرى) أنني سوف أحاول الالتحاق بالصيف في شركة (أرامكو) ضمن برنامجها الصيفي المعد للطلاب الجامعيين آنذاك. وصلتني رسالة من الشيخ (الصالح) مؤرخة في 11-10- 1379هـ الموافق 7-4-1960م جاء فيها بعد التحية: (أقدركَ وأشكركَ على خطابك الرقيق الذي ينمُ عن الوفاء وعن الأخوة الصادقة التي هي ما يعتزُ به أخوك ويغالي فيه.. إنكَ مثالٌ طيبٌ للإخوان المواطنين الذين نحن نُسرُّ بوفائهم ونبلهم. إنني ما نسيت ولن أنسى لك هذا الوفاء. كان لكتابك صداه في نفسي، وكان لشعورك الكريم تأثيره البالغ، وكان لذكراك الباقية دوافعها التي كانت بين فينة وأخرى تدفعني إلى الكتابة لولا أنني أعرفُ مسؤوليتك ومشغوليتك لبناء مستقبلك في دراستك في الغربة لترجعَ إلى وطنك مكللاً بالغار، حاملاً مشعلاً وضَّاءً من العلم والتربية لتفيد مواطنيك، وتكون لبنةً من لبنات المجتمع الثابتة، ودعامةً من دعائم الوطن الراسخة، فحيَّاك الله، ورفع قدركَ، وسرَّنا برؤياك سالماً مسلَّماً. إن شرحك اللطيف شرح الصدر، وأتاح لي فرصة جليلة للتمتع بمطالعة الخطاب عدة مرات.. أمَّا مضاعفة الدراسة بالجامعة فهذا أيضاً من دواعي سرورنا لتكون فائدة أبنائنا أكثر. ونود أن هذه الزيادة تقدمت لأنها في الواقع أيضاً جوهرية، وما هي بالزيادة البسيطة. أما إنشاء المكتبة فهذا نقص سابق كَمُلَ اليوم، وسد فراغاً هائلاً سيكون حظاً كبيراً لمن يشعر بالمصلحة ويعرف الفائدة. أمَّا (أرامكو) والتوظُّف فيها دعاية تقصد منها جلب المثقفين إليها، ولكنني أرى أن هذه فرصة طيبة لمشاركة المثقفين عمال البلاد، والوقوف على مشاكلهم.. إنَّها فرصة وأي فرصة.. وأرجو أن تكون من بين أولئك الطلبة الذين سيعملون فيها للاطلاع أولاً، والمصلحة ثانياً. أشكرك على تهنئتك الخالصة، راجياً لكم عيداً سعيداً وصحةً وعافيةً. هذا وأرجو لك التوفيق والسعادة. انتهت الرسالة).هذا مجرد نموذج للعطف والرعاية الأبوية التي يحاول أن يمنحها هذا المربي الفاضل لأحد أبنائه الطلبة. ويا لها من رعاي


الناشر: جريدة الجزيرة

– العدد: 12262

تاريخ النشر: 25/04/2006م

الرابط للمصدر

ورحل رمز

ودعت مدرسة الاحساء الابتدائية التاريخية التي كانت (اشبه بالجامعة) احد رموزها او احد بنائها الكبار الذي توفاه الله في الثاني من شهر ربيع الاول عام 1427هـ، ودعت المدرسة، في حقيقة الامر، رجلا شارك مع كوكبة من رفاقه واساتذته في وضع البذور التربوية الاساسية ببلاد (هجر).عرفت هذا الرجل الرمز عن قرب لانني من احد طلبته في (مدرسة الاحساء الابتدائية). كان هذا الرجل ذا طلعة بهية وقامة شامخة، وكان طلق اللسان، ومحدثا لبقا يأسر مستمعيه اذا تكلم بل ويشدهم اليه، كان وقورا، مهابا، بشوشا، وكان ذا بصر لماح، كنت الاحظ ذلك فيه رغم صغر سني طالبا في المدرسة التي تخرج فيها. اما طلبة المدرسة، وانا منهم، فكانوا يحترمونه، بل يهابونه وينفذون توجيهاته، كان يبتسم لهم في حالة الرضا، وكان يتجهم بوجهه امامهم عند اللزوم. كان قويا ولكنه لا يعرف القسوة، وكان متواضعا ولكن دون ضعف. يستعمل العصا للتأديب عند اللزوم، كان طموحا ومدركا لما يريد ان يحققه، كان حليما عند الغضب، كان انيقا في لباسه، وكان يستعمل احيانا معطفا اخضر فوق ثوبه، وتميز به آنذاك بين سائر المدرسين.احب الاحساء واهلها حبا جما منذ ان غادر حوطة سدير مسقط رأسه شابا في مقتبل عمره، وكيف لا؟ وقد عاش فيها ورضع العلم على ترابها.النبل والشهامةتجمعت في شخصه صفات النبل والشهامة والكرم، انه الاب المعلم عبدالمحسن بن حمد المنقور.دخل مدرسة الاحساء الابتدائية المؤسسة في عام 1356هـ في عام 1358هـ وتخرج فيها في عام 1362، لم يبرح الاحساء بعد تخرجه، واحب ان يبقى بها ليؤدي ضريبة الوفاء لمدرسة تلقى العلم بها لانها كانت تحتاج اليه والى بعض من رفاقه الذين تخرجوا فيها ومنهم: محمد بن عبدالعزيز الجيبان. احب ان يتفرغ وعن قناعة تامة، لانبل مهمة، واشرف غاية، واحسن مهنة الا وهي تعليم طلبة في عمر الزهور رآهم يتدافعون بمناكبهم للدخول في مدرسة تخرج فيها هو نفسه. وكان بعد تخرجه في مدرسته، وكذا زملاء له تخرجوا بعده بسنتين منهم عبدالله بن محمد بونهية وعبدالله بن عبدالرحمن الباز بمثابة عملات نادرة وقتها. حصل بعد تخرجه مباشرة على وظيفتين (كاتب) بمعتمدية المعارف و(وكيل مدرس) في المدرسة التي تخرج فيها، وكنت انا وقتها طالبا في السنوات الاولى بها، وتدرج في سلك التدريس من وكيل مدرس الى معاون لمدير المدرسة في عام 1368هـ وبعد سنة تقريبا عين مديرا للمدرسة وكان ذلك في رجب من عام 1369 بينما كنت في السنة الخامسة بالمدرسة، وبتعينيه مديرا كان (رابع) رجل تعليم يتولى قيادة مدرسته بعد ثلاثة رجال كبار سبقوه تاركين انفسهم بصمات في مسيرة العملية التعليمية والتربوية الحديثة في الاحساء وكانوا على التوالي محمد علي النحاس وعبدالله عبدالعزيز الخيال وعبدالعزيز منصور التركي وكان وكيل المدرسة في عهد المنقور عبدالله بن محمد بونهية.خيرة المدرسينوكانت هيئة التدريس تتكون من خيرة المدرسين آنذاك. منهم من درس استاذنا المنقور حينما كان طالبا، ومنهم من ظل في المدرسة يدرس بعد تخرجه فيها، ومن استمروا يواصلون التدريس تحت ادارة المنقور ومن هؤلاء المدرسين عبدالله بن عبدالرحمن الملا وحمد الجاسر وعبدالرحمن القاضي وعبداللطيف بودي وعبدالله بن عبدالرحمن المبارك وعثمان المعارك وعبدالله بن محمد بونهية وعبدالله بن عبدالرحمن الباز وعبداللطيف بن عبدالعزيز المبارك وعبدالله بن علي المبارك ومحمد بن عبدالعزيز الجيبان وحمد العمر ومحمد بن عبدالهادي العبدالهادي وابراهيم الحسيني وعبدالله بن عبدالرحمن بونهية وناصر بن محمد بونهية وراشد الحسين ومحمد بن عبدالرحمن الطويل النعيم.وتخرجت في المدرسة نفسها في عام 1370هـ، ودخلت السنة الاولى في المدرسة الثانوية ـ نظام قديم ـ في عام 1371هـ وكان مقرها الطابق العلوي بمدرسة الاحساء الابتدائية.وظل المنقور مديرا للمدرسة الابتدائية بعد تخرجي فيها. وعلمت وقتها انه سافر الى لبنان لمرض الم به لتلقي العلاج هناك. وبعد عودته الى ربوع الوطن اي في عام 1373هـ عين مديرا للمدرسة الثانوية وانا طالب في السنة الثالثة بها (شهادة الكفاءة).لعل في العرض المبسط السابق ما يشفع لي ان اتحدث عن هذا المعلم والاداري حديث الواثق من نفسه وهو حديث شذي عبق لايزال يتردد صداه في ذاكرتي بعد حين واخر.كان المنقور مدرسا ومن ثم كان مديرا.مهام كثيرة القيت على عاتقه في مدرسة كانت وقتها تكتظ بالطلبة الذين سجلوا فيها من كل حدب وصوب من الاحساء ومن خارجها.يعتبر المنقور بسبب جهوده التي بذلها في نشر التعليم في الاحساء من ابنائها البررة. احب الاحساء كما لو كانت مسقط رأسه واحب اهلها وعاش بينهم وهو في ريعان شبابه وكأنه واحد منهم. لن ينسى اهل الاحساء فضله، ناهيك عن ابنائهم الذين تلقوا العلم على يديه، هؤلاء الابناء كانوا (وانا منهم) يكنون له اخلص اطياف الود. وكان المنقور بين الابناء وابائهم موضع تقدير اينما حل وانتقل. ولكن لماذا هذا الود؟ انه رد فعل جميل من جيلين في (الاحساء) مثمنين ما قدمه المنقور في نشر التعليم فيها. رد جميل على الاقل من جيل سبقني وجيل معاصر لي ممن عاش في بلاده هجر. جيلان يتذكران كيف كانت احوال بلدتهم من الناحية العلمية والتعليمية بصفة عامة. احوال كانت الامية ضاربة اطنابها فيها، وكان الذين يعرفون القراءة والكتابة فيها قلة، وكانوا محصورين الا ما ندر في ائمة المساجد ومشايخ الوعظ والارشاد. وكان اهلها يمارسون الزراعة ويباشرون التجارة المحدودة، ويمتهنون الحرف اليدوية. وفي احوال كهذه كيف يمكن ان يثمن اهل هذه البلاد ما قام به عمالقة (مدرسة ابتدائية) من بينهم المنقور من اعمال جليلة في ميدان التربية والتعليم.قفزات رائعةشهدت المدرسة في عهد ادارة الاستاذ المنقور وفي عهد رفاق له قفزات رائعة سواء من حيث التنظيم او التجهيز المتواضع او تعويد الطلاب على الدرس والتحصيل والتحصيل حسب الامكانيات المتاحة آنذاك، كما بذل جهودا جمة مع المسؤولين في سبيل تذليل كل الصعوبات التي واجهت المدرسة ومنها شح المال، وضيق ذات اليد، وكان يحدوه في عمله الاخلاص، والرغبة في نشر التعليم بين طلبة ذوي حيوية مبكرة تضج بها نفوسهم ناهيك عن الوفاء منه لمدرسة سبق ان رضع العلم فيها.كانت التبرعات الرمزية من دفاتر واقلام وقرطاسية تنهال على المدرسة من اباء طلاب المدرسة ومن ذوي اليسار في الاحساء المحبين للعلم والحاثين على نشره في بلدهم (هجر) التي كانت موطن حضارات منذ العهد الجاهلي.ولان المدرسة كانت في عهد المنقور وعهد رفاقه مشهد ملذات، وموطن ذكريات، ومنتدى سمار، ومسارح افكار، ومصدر اشعاع، وبالنظر لما شهدته المدرسة من فعاليات فقد استحقت ان تسمى (كانت اشبه بالجامعة) وان أؤلف كتابا وثائقيا عن فعالياتها يحمل الاسم المشار اليه.اين طلاب اليوم في محافظة الاحساء من طلاب الامس؟لماذا لا يتذكر طلاب اليوم مع ماهم فيه من رفاهية وتدليل وسعة في العيش، كيف كانت احوال ابائهم واجدادهم طلاب الامس. وهل صحيح ان الحاجة ام الاختراع؟ما سبق ذكره من اعمال جليلة قام بها استاذنا المنقور ورفاقه اذا لم توثق اي اذا لم تؤيدها وثائق قد لا تكفي لاعطاء تصور حقيقي كامل عما كان المنقور يمارسه من نشاط حيوي داخل مدرسته. لم تكن مدرسته في عهده مدرسة عادية، كانت (المدرسة الام) وتفرعت عنها مدارس بداخلها اي بداخل مبناها المتواضع في مظهره، الشامخ في معناه. وبتعبير اخر متكافئ، ترتب على الدور الذي لعبته المدرسة في الحياة التعليمية بالاحساء ان تمدد نشاطها ليشمل اوجه تعليم اخرى وجد المسؤولون عن التعليم في الاحساء بما فيهم مدير المدرسة ان حاجة اهالي الاحساء اليها ماسة. انشئت ثلاث مدارس ليلية فرعية بداخلها لتغطية اوجه التعليم التي كانت الاحساء في حاجة ماسة لها.كانت المدرسة الاولى (مدرسة مكافحة الامية) وتأسست هذه المدرسة في عام 1367هـ وانا طالب في السنة الثالثة (بالمدرسة الام) تحت اسم (مدرسة تعليم العوام) الا ان التسمية تعدلت في عام 1370هـ لتصبح (مدرسة مكافحة الامية) اتخذت المدرسة الجديدة من مبنى مدرسة الاحساء الابتدائية مقرا لها، وانخرط كبار السن ومن لا يستطيعون الالتحاق بالمدرسة الابتدائية بالنهار ـ لانشغالهم بأمور المعيشة ـ بهذه المدرسة وتعتبر مدرسة مكافحة الامية اول مدرسة حكومية تؤسس على مستوى المملكة العربية السعودية فيما عدا منطقة الحجاز، التي كانت بها مدارس اهلية لمحو الامية، واحدثت في ميزانية المدرسة الام وظيفتا مدرس وخادم للمدرسة الليلية لتعليم العوام. وشرعت (مدرسة العوام) تستقبل طلابها.وكانت المدرسة الليلية (الثانية) مدرسة تعليم اللغة الانجليزية، واتخذت هذه المدرسة من مبنى مدرسة الاحساء الابتدائية مقرا لها كذلك، وشهدت هذه المدرسة الليلية اقبالا لم تتوقعه مدرسة الاحساء الابتدائية. ولكن كم كان مقدار مكافآت الهيئة الادارية بهذه المدرسة آنذاك. ورد في احدى الوثائق برقم 1935 وتاريخ 15 من رجب من عام 1370هـ ان مكافأة المشرف الاستاذ عبدالمحسن المنقور على مدرسة تعليم اللغة الانجليزية خمسون ريالا ومكافأة مدرس اللغة الانجليزية عبدالسلام ابو العينين من المملكة المصرية مائة ريال ومكافأة خادم المدرسة علي عبدالرحمن السلطان ثلاثون ريالا ونظرا للجهد الذي كان المنقور يبذله فقد زيدت مكافأته بموجب مراسلات مع مديرية المعارف بمكة المكرمة بموجب وثيقة رقم 2137 وتاريخ 27 من شعبان من عام 1370هـ جاء فيها صدور الامر الوزاري الى (مالية الاحساء) برقم 70/7/3/2/3/27656 بانشاء (مدرسة لتعليم اللغة الانجليزية) ومكافأة المدير السنوية فيها 600 ريال بينما لا تزال المدرسة الليلة لتعليم اللغة الانجليزية بالاحساء تدار بواسطة مشرف ومكافأته الشهرية 50 ريالا.وتأسست كذلك مدرسة ثالثة تحت اسم (مدرسة المعلمين) واتخذت هذه المدرسة من مبنى المدرسة الابتدائية مقرا لها، وكان الغرض منها اعداد وتدريب المعلمين بالمدرسة الابتدائية على طرق التربية والتدريس، وكان المراقب بهذه المدرسة ـ التي سميت فيما بعد بـ (معهد المعلمين) ـ محمد بن عبدالرحمن بن عبداللطيف الطويل النعيم يرحمه الله.ترتب على المدرسة الام وما تفرع عنها من مدارس تخرج الكثير من الطلبة بحيث كانت الفرصة مواتية لمعتمدية المعارف العامة بالاحساء بان تؤسس مدارس ابتدائية في بعض احياء وفرقان مدينة الهفوف مثل حي الكوت وحي الرفعة وحي الرقيقة وكذلك قرى الاحساء مثل العيون والجشة والشقيق والطرف والمراح وان تزرع الكثير من خريجي مدرسة الاحساء الابتدائية في هذه المدارس اما بصفتهم مدرسين او مديرين وكان من هؤلاء المدرسين التالية اسماؤهم: حمد عبدالرحمن العمر وخالد بوعنقة وعبدالله عبدالرحمن الشعيبي ومحمد عبدالرحمن السلطان وعبدالله الدرويش وعبدالوهاب عبداللطيف ابوسعد وعبدالمحسن المحسن وابراهيم السماعيل وعبدالرحمن بودي.مدارس أخرىوارتبط بالمدرسة الام مدارس خارج مقاطعة الاحساء وهي مدارس (نجد) و(القصيم) منذ اواخر الخمسينيات وحتى بدايات السبعينيات من القرن الهجري الماضي اي حتى عهد المنقور وهي المدارس التي كانت في كل من حائل وبريدة وعنيزة والمجمعة وشقراء والرياض ماعدا مدرسة (الامراء) وكانت مصروفات هذه المدارس ومرتبات مدرسيها ترسل من ادارة مدرسة الاحساء الابتدائية عن طريق البريد العربي.ففي وثيقة رقم 6285 وتاريخ 11 من جمادى الاولى عام 1370 طلب من صاحب السمو الملكي النائب العام لجلالة الملك المعظم الامير فيصل بن عبدالعزيز ان يأذن بتركيب تلفون بدار مدير مدرسة الهفوف الاستاذ المنقور بمناسبة اسناد استلام رواتب مدارس نجد اليه.وفي وثيقة ثانية طلب فيها صرف اجرة نقل مرتبات مدارس نجد. ومما جاء في الوثيقة رقم 2513 وتاريخ 23 من رمضان عام 1370هـ الموجهة من معتمد المعارف بالاحساء الى مدير المعارف العام بمكة المكرمة: (حينما تسلمنا رواتب مدارس نجد للاربعة الشهور حولناها الى فضيلة معتمد المعارف بنجد ـ وكان وقتها آنذاك الشيخ حمد الجاسر ـ بطريق الاجرة وابعث مع هذا مذكرة مدير مدرسة الهفوف رقم 70/9/23/298 ومشفوعها السند الممثل لمبلغ 320 ريالا وذلك اجرة نقل مائة وثمانية وستين الف ريال، ارجو الكتابة لمن يلزم بصرف المبلغ المذكور لمدير مدرسة الهفوف لقاء ما صرفه على ترحيل رواتب مدارس نجد، مع العلم بان السند مصدق من لجنة المشتريات والمبيعات بالاحساء بالاعتدال، ولسعادتكم وافر الاحترام).وفي وثيقة خطية ثالثة مؤرخة في 19 من جمادى الاخرة عام1370هـ من معتمد المعارف بالاحساء الاستاذ عبدالعزيز بن منصور التركي موجهة الى مدير مدرسة الهفوف الاستاذ عبدالمحسن المنقور مما جاء فيها: ارجو ان تكون بخير وسعادة ثم ارجو ان يكون كل شيء على ما يرام وقد سبق ان ابرقت لك مستعجلا اياك في ارسال التحويل برواتب نجد. فعسى ان تكون فعلت.ولقد اسهم الاستاذ المنقور باعتباره مديرا للمدرسة ومدرسا بها في كل الجهود التي بذلت لنشر التعليم في احياء مدينتي الهفوف والمبرز وسائر قرى الاحساء قاطبة واعتادت مدرسة الاحساء الابتدائية في عهد المنقور على اقامة مهرجانات او احتفالات عند اختتام عامها الدراسي وكانت تفتخر بتخريج طلبة فيها حاملين شهادات دالة على حوزهم للعلم والادب وكان يحضر هذه المهرجانات اعيان الاحساء واباء الطلاب وكانت هذه المهرجانات بالنسبة للاحساء حدثا عظيما. وتحدث احد طلاب المدرسة في قصيدة طويلة عن مدرسته وهو الشاعر محمد بن عبدالله بن حمد ال ملحم ومن أبيات هذه القصيدة المعبرة عن خواطر الشاعر عن مدرسته:
الا ان ايام ابتدائية خلت….. وقد اسرعت ايامها بذهوبلها في حنايانا حنين نكنه….. فليس صداها مؤذنا بغيوبتذكرت فيها اخوتي وحديثنا ….. لبعض باسلوب الصفاء رطيبعليك سلام الله عهدا نحبه ….. نحن الى ازمانه بنحيبسقيناه ماء الود والحب والوفا ….. فانتج عطرا فاق كل طيوب

وعن بعض مدرسي المدرسة الذين ذكر الشاعر محمد بن عبدالله ال ملحم اسماءهم بما فيهم الاستاذ عبدالمحسن المنقور قال بالقصيدة نفسها:
فحسبك بـ (القاضي) قرانا يجيده ….. وبالسيد السابي بلحن جذوبوبالشيخ (عبدالله ال مبارك) ….. و(عبداللطيف) الصنو خير قريب(ابو نهية) الخطاط ثم ابن عمه ….. اذا ما تلا اجرى دموع قلوبو(بودي) و(الجيبان) فاضا معارفا …… على كل فن في الفنون عجيبولا تنس (عثمان المعارك) شيخنا …… وانعم به من عالم واديبمعلمنا درس الحساب وانني …… لاكره ما القى لقاء حسيبوذا (حمد) في بيته الفذ غرة …… (بأل عمر) يدعون فاق بطيبكأني ارى (التركي) قام مديرنا …… بالقا خطاب في الجموع مهيبوانظر (للمنقور) قام بجنبه …… عليه ثياب اشرقت كحليبويحمل في الكف العصا متوكئا …… عليها اعتمادا شأن كل خطيبيسمونه ايامنا (بمتعاون) …… فأكرم به من حاذق واريب

لم يقتصر استاذ المنقور بعد تخرجه في المدرسة ومواصلة التعليم فيها على حصر نشاطه في التدرس فيها. بل شارك مع رفاق له في المدرسة هم: عبدالله بن عبدالرحمن الملا وعبدالله بن عبدالرحمن الباز وابراهيم الحسيني وعبدالله بن محمد بونهية في تأسيس مكتبة هي (مكتبة التعاون الثقافي) الشهيرة لبيع الكتب الادبية والمجلات لطلاب المدرسة واهالي الاحساء ممن كانوا يعملون في بعض المرافق الحكومية مثل المالية والمحكمة والشرطة. وتخلى المشاركون في تكوين المكتبة عنها حيث صار مالكها الوحيد الشيخ عبدالله بن عبدالرحمن الملا.سفير المدرسةولم يحصر المنقور نشاطه التربوي والتعليمي داخل اروقة المدرسة فحسب، بل كان بمثابة سفير للمدرسة لدى اهالي الاحساء وبتعبير اخر، كان المنقور على صلات قوية واسعة بالكثير من الاسر في الاحساء من موقعه باعتباره مديرا للمدرسة، كما كان البعض ممن فيهم الكفاءة من اعيان الاحساء يشاركون في العملية التعليمية نفسها كاعضاء في مجلس معارف الاحساء مثلا، او متعاونين بتقديم خدمات تعليمية للمدرسة نفسها، وكان منهم ابراهيم بن محمد بن جندان وخليفة بن عبدالله ال ملحم اللذان كان لهما دور في دعم العملية التعليمية كما عملا على توطيد علاقتهما ليس بمدير المدرسة فحسب وانما بمعتمد المعارف الاستاذ عبدالعزيز بن منصور التركي كذلك.وبالنظر الى مشاركة الشيخ خليفة بن عبدالله ال ملحم في لجنة الامتحان الشفوي للمدرسة الابتدائية فقد اخذت علاقته بالاستاذ المنقور تزداد توطدا مع مرور الايام وتحولت العلاقة بينهما الى صداقة حميمة حتى بعد ان ترك المنقور العملية التعليمية في الاحساء وغادرها الى مواقع اخرى. وكان المنقور يعرف عن خلال ومناقب الشيخ خليفة الكثير. لذلك حينما توفاه الله في عام 1417هـ شارك المنقور اسرة ال ملحم احزانهم بل وواساهم في مصابهم. وجاء في كلمته التأبينية بعنوان (ان المهمات فيها يعرف الرجل) ثناء على الشيخ خليفة، وثناؤه هذا ان دل على شيء فانما يدل على خلق جم ووفاء لصداقة حميمة. ومما جاء في هذا التأبين: (لقد ترددت كثيرا عن الكتابة عن رجل لا ككل الرجال لثقتي في ان كثيرين سيتحدثون عن هذا الرجل، الرجل الكبير بكل ما تعنيه الكلمة، الرجل الذي ملأ مكانته في مجتمعه، وقدم الكثير لبلده، الرجل الاخ للكبير والاب للصغير، الرجل الذي يملك الشجاعة عند اللزوم، والمروءة في وقتها، والعطف الاخوي بكل معاني الانسانية: انه خليفة عبدالله الملحم الغني بشهرته عن التعريف، الرجل الذي تعرفه المواقف الرسمية، وتعرفه المنابر عند اللزوم ويعرفه المجتمع عند الحاجة، الرجل الذي لا كبير عنده الا الله ثم ولي الامر، ولا صغير عنده قط فهو ينظر الى الجميع نظرة المساواة في الحقوق والواجبات: (خليفة بن عبدالله الملحم) الذي عرفته صادقا فيما يقول، مؤمنا بما يعمل، تسلم المناصب الكبيرة في المنطقة الشرقية في الجبيل وفي الاحساء فلم يتعال بمنصبه ولم تأخذه مكانته بين قومه بالغرور. لقد كان الرجل الذي ملؤه الشهامة والنخوة والكرم والمروءة، فهو الحاضر دائما لنجدة ملهوف وتقديم القرى لكل محتاج وكل قادم لمنطقة الاحساء).وبالنظر لما بذله استاذنا المنقور مع رفاقه من جهود في سبيل نشر التعليم بالمدرسة الابتدائية فقد كوفىء بتعيينه مديرا لمدرسة الاحساء الثانوية في عام 1373هـ وكانت المدرسة الثانوية قد تأسست في عام 1367هـ وكانت تحتل منذ انشائها الطابق الثاني من مبنى المدرسة واشرف عليها معتمد المعارف بالاحساء الاستاذ عبدالعزيز التركي وانتدب لها مدرس مصري اسمه محمد مختار الزقزوقي. وتعثرت المدرسة في بدايات تأسيسها الا انها منذ عام 1371هـ وهو العام الذي دخلت فيه المدرسة قد تحسنت احوالها. وكان يديرها وقت تسجيلي فيها وكيلا هو الشيخ محمد الجنيدل وبعده ـ اي بعد الشيخ الجنيدل ـ تولى ادارة المدرسة بالوكالة كذلك عثمان بن احمد خريج كلية شريعة بمكة المكرمة يرحمه الله. وكان اول مدرس وطني يعين بالمدرسة هو عبدالله بن عبدالرحمن الباز كما كان اول مراقب وطني يعين بالمدرسة هو عبدالرحمن بن ابراهيم الحقيل وكان اول سكرتير بادارة المدرسة محمد بن عبدالرحمن الطويل النعيم وكما سبق القول كوفىء الاستاذ المنقور بتعيينه مديرا للمدرسة الاحساء الثانوية في عام 1373هـ وكنت وقتها طالبا في السنة الثالثة في المدرسة (نظام قديم) اي شهادة الكفاءة نظام جديد.شعلة من النشاطوكما كان الوضع في المدرسة الابتدائية في عهد الاستاذ المنقور بالنسبة لحفلات ناديها الادبي كانت تقام في عهده حينما كان مديرا للمدرسة الثانوية الندوات الادبية والمناظرات بل واكثر من ذلك كان المنقور في حقيقة الامر شعلة من النشاط الدؤوب. وفي عهده كانت هيئة التدريس تتكون من مدرسين اوائل من الكفاءات الممتازة من مصر منهم محمد عكاشة وابراهيم داوود حساب وعبدالمنعم حسين ومحمد عبدالرحمن الساهي ومحمد احمد خفاجي وابراهيم عمر بيعي وعصام معوض وابراهيم فتحي البرماوي وعبدالرؤوف نعمة وابراهيم عمر ربيعي واحمد محمد حنة، وخالد الكرداني وحامد حامد عبدالقادر وعبدالمنعم محمد الطوخي ومحمد حسن غنيم وصالح محمد الجزار ومحمود فهمي رعية. ويكفي ان المنقور قد تمكن من تسجيل فعاليات الفترة التي كان فيها مديرا في كتاب وثائقي عن نشاط المدرسة في عام 1375هـ. قال استاذنا المنقور في تصدير هذا الكتاب: (هذا هو كتاب “الوان من النشاط” بالمدرسة الثانوية لقد ترددت كثيرا في اخراج هذا الكتاب الى حيز الوجود، فهو في نظري مجهود متواضع ومحاولة اولى، وايضاح لخطوات بدائية في تاريخ النشاط بالمدرسة الثانوية. ولقد بقيت مواده عندي اكثر من اربعة اشهر تلقيت بعدها عدة رسائل من زملاء وطلاب يسألوني فيها عن مصير هذا الكتاب، وعن الخطوات التي تمت حيال طبعه. ازاء ذلك رأيت ان لابد لي من الاقدام على طبعه وفاء بوعدي لطلابي الاعزاء، وتمهيدا للطريق الطويل امام الناشئة في كل مكان. كما انني اؤمن بان بداية كل شيء من ضعف. انني اقدمه وكلي امل ان يقرأه العلماء والادباء والاساتذة فيتفضلوا بابداء آرائهم السديدة، وتوجيهاتهم الرشيدة، ونصائحهم القيمة، لتكون لابنائهم نبراسا يهتدون به، ونورا يضيء لهم الطريق، وقوة تنفعهم الى بلوغ غاياتهم النبيلة، وتحقيق الهدف الاسمى، اقدمه للطلاب الاعزاء ـ شباب اليوم ورجال الغد ـ ليكون الدرجة الاولى في سلم التقدم والرقى، واللبنة الاولى لبناء صرح النشاط العلمي الادبي في جميع ميادينه، اقدمه وانا فخور بآراء الشباب معجب بصراحته معتز باقدامه وشجاعته).اما عن فلسفة التعليم التي بناها استاذنا المنقور في ادارة المدرسة الثانوية فقد شرحها في الكتاب كما يلي: قارئي العزيز.. سوف نرى في هذا الكتاب ان المدرسة لم تعد تقتصر على تلقين المواد في حدودها الضيقة، ولم تعد تقف عند المناهج المحددة، بل حاولت المدرسة ان تتمشى مع التربية الحديثة وتحقق ما تنشده الوزارة من تعميم النشاط، وتوسيع مدارك الطلاب وانماء تفكيرهم، وتغذية عقولهم بالنافع من العلوم والاعمال، وتدريبهم على الحياة العملية.ولاهمية هذا الكتاب الصادر في عام 1375هـ فقد اهديته في عام 1412هـ للمربي الفاضل الاستاذ عثمان بن ناصر الصالح يرحمه الله للاطلاع عليه فنال اعجابه، وقرأه اكثر من مرة وعلق عليه وبعث لي بتعليقاته وكانت تعليقاته قيمة. ولقد نشرتها ضمن حلقات (ورحل عملاق: عثمان بن ناصر الصالح) في جريدة الجزيرة في الاسبوع الماضي.وظل استاذنا المنقور منذ تخرجه من مدرسة الاحساء الابتدائية في عام 1362هـ وحتى عام 1376 يواصل مسيرته التعليمية في الاحساء وفي عام 1367هـ انتقل استاذنا الى موقع جديد حيث عين ملحقا تعليميا ببيروت. وكان لخبر نقل المنقور الى عمل جديد لدى اساتذة المدرسة وطلابها صدى متباين الاثر والتأثير عندهم. ووصف (دليل نشاط المدرسة الثانوية لعام 1375هـ) ذلك الصدى كما يلي: (عندما طرق مسامع اساتذة المدرسة الثانوية بالاحساء خبر نقل مدير المدرسة عبدالمحسن الحمد المنقور الى ادارة البعثات السعودية بسوريا ولبنان احس الاساتذة عندئذ بشعور متباين الاثر فهم يحبون الاستاذ ويقدرون فضله ولا يتصورون ان يفارق المدرسة التي تدين له بالرقي والنهضة ولكنهم في الوقت نفسه يعلمون ما لنقله من اثر في رفع اسم وطنه خارج الحدود فهو شخصية آسرة تعمل جهدها لتحقيق ما يصبو اليه الوطن من رفعة وعظمة. كان الاساتذة اذا يشعرون بألم فراقه ولكنهم كانوا يشعرون بالبهجة لنجاحه المتوقع في مهمته الثقافية في سوريا ولبنان. اما فيما يتعلق بمشاعر الطلبة وكذلك اهالي الاحساء فقد ورد بالدليل ما يلي: (ولم يكن الاساتذة وحدهم الذين يشعرون بهذا الاحساس، ولكنهم كانوا في الواقع يعبرون عن شعور الطلبة بل عن شعور ابناء الاحساء قاطبة لعرفانهم بفضله وتقديرهم لأياديه البيضاء على العلم والتعليم بهذه المنطقة. وورد بالدليل كذلك ومن اخص صفات الاستاذ عبدالمحسن التواضع الجم شأن العاملين المخلصين، ولذلك ما ان توجه الاساتذة الى سيادته يطلبون ان يقيموا له حفل تكريم ووداع حتى بادر بالاعتذار في تواضعه المعهود مكتفيا بما تتبادله القلوب من حب ومودة). وبالفعل اقيمت له حفلة تكريم ووداع في اليوم الثالث من شهر جمادى الاخرة عام 1376هـ.وفي الدليل الذي اصدرته المدرسة عن نشاطها لعام 1376 ورد تحت عنوان (ثانوية الهفوف بين عامين) ما يلي: (في العام الماضي لوحظ تقدم كبير عن ذي قبل في المدرسة وصار العمل يجري على قدم وساق فلقد اسست الجماعات المتنوعة واثمرت بما هو نافع ومفيد للطلبة وكان يدفع هذا النشاط ويوجهه شاب فتى هو الاستاذ عبدالمحسن المنقور الذي رفع اسم المدرسة الثانوية عاليا وعمل بكل قواه في تحقيق ما فيه اعداد الجيل الجديد وتغذية النشء بما يعده لكي يحمل اعباء امته ويسعد وطنه، ولكن الاقدار شاءت ونقل الاستاذ عبدالمحسن الى مدير للبعثات السعودية في الجمهوريتين السورية واللبنانية. والحقيقة انه آلمنا بذلك كثيرا وحز في نفوسنا غير ان هذا الحزن قد انطوى على سرور خفي لعلمنا بان الاستاذ الفاضل سيرفع اسم وطنه حيث يكون وانه سيواصل جهوده المشكورة في سبيل العلم والثقافة).توظيف التجربةاحب استاذنا المنقور عمله الجديد في بيروت بل لقد صادف هوى في نفسه لانه لم يباعد بينه وبين ما كان يمارسه من عمل سابق. كلا العملين من معين واحد ولهذا تمكن، وبجدارة، ان يوظف تجربته وخبرته في العملية التربوية والتعليمية في مدرستي الاحساء الابتدائية والثانوية في عمله الجديد فحقق في بيروت من النجاح ما شهد له به ممن عاصروه هناك. اما عن كرمه وفزعته لاصحاب الحاجات فتحدث عنها الكثير، وسأكتفي هنا بروايتين ممن شاهد وعايش فعاليات استاذنا ـ يرحمه الله ـ الذي كان بمثابة خلية نحل في الملحقية الثقافية ببيروت.يقول في هذا الخصوص استاذي محمد بن عبدالهادي العبدالهادي واحد طلبة المنقور في مدرسة الاحساء الابتدائية في كلمة تأبين بعنوان (المنقور.. الرمز) كنت التقي به يوميا تقريبا عندما اكون متواجدا في لبنان في مهمات عمل للمدارس التي بنتها ارامكو في المنطقة او خلال تدريبي في الجامعة الامريكية ببيروت او سائحا ولا اغالي اذا قلت انني لا اجد مقعدا في مكتبه المكتظ بالزائرين واصحاب الحاجات احيانا. لقد كان ـ رحمه الله ـ لا يملك شيئا من وقته لنفسه، فهو اما مستقبلا او مودعا او مضيفا او مشغولا بقضاء حاجات المحتاجين الذين لا يجد بعضهم غضاضة في الاستعانة به ـ بعد الله ـ في امور يمكن قضاءها دون معونة سعادته، اضافة الى مهمات عمله الرسمي، فلقد كان مرهقا وبشكل يدعو للشفقة. واجدني صادقا ـ ان شاء الله ـ اذا قلت ان شخصيته اكثر بريقا لدى السعوديين واللبنانيين من بعض السفراء العرب هناك.اما الدكتور علي عبدالعزيز العبدالقادر احد طلبة استاذنا المنقور بمدرسة الاحساء الابتدائية فيقول عن نشاط المنقور في بيروت في كلمة تأبين بعنوان (عبدالمحسن المنقور رجل النبل والكرم): (عين الفقيد ملحقا ثفافيا في سفارة المملكة في بيروت، وابتعثت للدراسة في مركز اليونسكو لتخطيط التربية وادارتها عام 1967م وحين ذهبت الى مكتبة في الملحقية لاسلم عليه واكمل الوثائق المطلوبة رحب بي ترحيبا اشعرني بمكانتي وقيمتي، واجلسني عن يمينه، وسألني عن مؤهلي، وكنت قد حصلت على البكالوريوس من جامعة الملك سعود بالرياض، وعن عملي، وكنت اعمل مديرا لثانوية الهفوف، وقد افرحه ان يصير احد طلابه مديرا لها. وتذكر المنقور تلك الايام التي كان فيها اول مدير للمدرسة. واصلت الدراسة بالمركز، وكنا نزوره بين فترة واخرى للاطلاع على مستوى اعضاء الوفد السعودي، كما كان يتفقد الطلبة السعوديين المبتعثين للجامعات اللبنانية ويرعى شؤونهم الدراسية والاجتماعية والثقافية وكان للجميع كالاخ والاب والموجه الحريص على رعايتهم وتوفير متطلباتهم. وفي نهاية الدورة طلب الي عبدالعزيز القوصي مدير المركز ان اذهب الى مكتب الملحق الثقافي لمقابلة الشيخ عبدالمحسن فوجلت خشية ان اكون قد قصرت في الدراسة. ورأيت في مكتبه الشيخ حمد الجاسر والسفير محمد الخيال وكان الموقف مهيبا. فقدمني اليهما، وكلاهما على علاقة بفضيلة الشيخ محمد العبدالقادر قاضي المبزر ورئيس مجلس المعارف بالاحساء ثم تحدث عن تقرير مدير مركز اليونسكو المتضمن معلومات عن اعضاء الوفد واخبرني بان المدير اوصى بابتعاثي للحصول على درجة الماجستير وانه اي الملحق يبارك لي ذلك، وسيوصي الوزارة بابتعاثي، وكان منزل الاستاذ عبدالمحسن المنقور مقر ضيافة وكرم للوافدين عليه ومقصدا للسفراء والوجهاء والزوار والمثقفين. فكان وجها مشرقا للمملكة العربية السعودية وقد فاق الدبلوماسيين والسفراء في علاقاته العامة وحكمته وحسن استقباله للناس.ذكرى لاتنسىوتمضي السنون وذكرى المدرس والمدير المنقور عالقة بذهني. التقيت به في امسية بمزرعة اخيه (سعد) بالاحساء الذي غمرني هو الاخر بكرمه. وفي تلك الامسية اجتررت مع استاذي عبدالمحسن ذكريات الماضي في ابتدائية وثانوية الاحساء. كما التقيت به مرة ثانية حينما كان عضوا فاعلا بنادي المنطقة الشرقية الادبي حيث افتتحت موسمه الثقافي لعام 1413هـ بمحاضرة بعنوان (ادبيات البترول) ولقد لقيت من الترحاب منه ما يفوق الوصف لقد غمرني بتواضعه وحسن معاملته ودماثة خلقه وليس ذلك بغريب عليه فهو صاحب الخلق الرفيع والادب الجم.لقاءات متباعدة في مشوار حياته معي ولكنها كانت ذات دفء وحرارة، وكان اخر مرة قابلت فيها استاذ المنقور في الاسبوع الثالث من شهر ربيع الاول عام 1425هـ في مدينة الخبر وكان مناسبة هذه المقابلة ان الرعيل الاول من خريجي (مدرسة الاحساء الابتدائية) قد قرروا عقد لقاء سنوي لهم يجددون فيه ذكرياتهم في مدرسة لا تزال ذكراها عالقة في اذهانهم ليس لانها اول مدرسة ابتدائية نمطية تؤسس في الاحساء ولكن لانها مدرسة كانت لها شهرة وخرجت رجالا كان لهم شأن في مسارات حياتهم بعد تخرجهم فيها. وعقدت اربعة لقاءات يهمني منها اللقاء الثاني الذي عقد في فندق كارلتون المعيبد بالخبر يوم الخميس 22 من ربيع الثاني 425هـ وهو اللقاء الثاني الذي كان على رأس الحاضرين فيه استاذنا المنقور وكانت لجنة التنسيق النائبة عن الداعين للقاء تتكون من عبدالعزيز محمد الجندان وحمد صالح الحواس ومحمد عبدالله بوعائشة وكان من ضمن من حضروا اللقاء الاساتذة الكبار الاوائل وهم عبدالله محمد بونهية وعبدالله عبدالرحمن الباز وعبدالله عبدالرحمن بونهية وابراهيم محمد الحسيني ومحمد عبدالهادي العبدالهادي وكان اللقاء رائعا وكان حفله بهيجا تخللته كلمات ترحيب واحاديث ذكريات وقصائد شعرية. والقيت في الحفل كلمة شكرت فيها القائمين على تنظيم الحفل، واشدت بالمدرسة التي خرجت هذه الاجيال، وتعتبر معلما من معالم الاحساء، كما تناولت التفاوت في العمر بين طلاب المدرسة موضحا انه عندما كنا في الصف السادس في المدرسة مثلا يسجل في المدرسة طالب في الصف الاول بالمدرسة فالزمالة بالمدرسة تجمعنا مع فارق العمر، وطالبت بان يكون اللقاء سنويا وعلى مدار يومين لتذكر الايام الخوالي في ربوع المدرسة، ويتخللها ندوات تربوية، والقى في الحفل الاستاذ الباز كلمة بالانابة عن الاساتذة شكر فيها المنظمين للقاء واكد على ضرورة تواصل مثل هذه اللقاءات التي تجمع اساتذة مدرسة الاحساء الاولى مع طلابها ويتم خلالها نقل الخبرات لتعليم افضل وتربية مثلى. ولقد غطت جريدة (اليوم) فعاليات اللقاء وفي نهايته سلمت دروع تذكارية للاساتذة وعلى رأسهم الاستاذ المنقور. وبالرغم من الحياة الحافلة بالعطاء التي عاشها المنقور سواء في الاحساء او بيروت وحتى بعد ان عاد من بيروت الا انه كان زاهدا في الشهرة متجنبا مداخلها ومخارجها مع ان ابوابها كانت مفتوحة له. اعني بذلك انه لم يسع الى ابواب الدعاية طمعا في الشهرة ومباهج البهرجة، ولم يبحث (كما فعل اخرون ـ انصاف الرجال) عمن يسلط الاضواء على ما قام به من اعمال جليلة تفاني في ادائها منذ ان شب عن الطوق مع انه في امكانه ان يطلب ذلك من طلبة تعلموا على يديه في ابتدائية وثانوية الاحساء، وطلبة اشرف على تعليمهم حينما كان ملحقا تعليميا ببيروت.عزوف استاذنا المنقور عن الشهرة حسمها بقوله: (الشهرة قاصمة الظهر، وهي تفرض نفسها على اشخاص معينين، ويدفعون ضريبتها، وانا لا احب الشهرة) ولذا لم يحاول اعطاء مقابلات الصحفية او البحث عنها حسب علمي الا ان ذلك لم يمنع الصحفي الموهوب محمد الوعيل من شد المنقور للصحافة فاجرى معه مقابلة مطولة في لقاء (ضيف الجزيرة) الشهير بجريدة (الجزيرة) تحدث فيها المنقور باقتضاب ـ اقول باقتضاب ـ عن بعض من ذكرياته وتجاربه. والمقابلة التي اجراها الوعيل في حقيقة الامر لا تشفي غلة الصادي بما يطفىء لهبه حيث كانت تحتوي على اشارات عابرة وسريعة من المنقور عن محطات نشاطه بعد ولادته في حوطة سدير وتعلمه في الاحساء ومزاولته للتعليم في الاحساء وعمله ببيروت ملحقا تعليميا ومن ثم وكيلا للحرس الوطني بالمنطقة الشرقية وبعد تقاعده من المنصب الاخير حيث شارك في سائر اوجه نشاطه منها عضويته بنادي المنطقة الشرقية الادبي واخيرا في جريدة (اليوم) عن طريق عضويته في مجلس ادارتها.قدسية المهنةوقراءة عابرة للمقابلة نجد فيها ما افاد به استاذنا المنقور من ان اسرته تميمية الاصل كما ذكر اسماء بعض زملائه، واسماء بعض طلبته وانا منهم. وتحدث استاذنا المنقور عن شعوره حينما عين مدرسا ذلك ان مهنته كمدرس قد فرضت عليه تبني سلوك نمط معين يتمشى وقدسية المهنة، وهو سلوك كم اتمنى ان يتامله من يمارس مهنة التدريس في ايامنا المعاصرة. يقول استاذنا المنقور: (بعد ان توظفت وجدت انني اعطيت ثوبا فضفاضا كبيرا علي، ووجدت انني يجب ان احافظ عليه، لهذا حرمت من كل وسائل الترفيه الاولى كالالعاب وما يتصل بها، وابتعدت عن جيلي الذي كان يجب ان اعيش معه، وارتبطت بجيل اكبر مني بكثير بسبب الوظيفة التي اعطيت اياها بدءا من مدرس الى ان اصبحت مساعد مدير مدرسة ثم مدير مدرسة، كل هذه وجدت انها تفرض علي اسلوبا معينا في الحياة والارتباط بجيل اكبر مني بكثير، حتى استفيد منه واتعايش معه، وآخذ من خبراته ما يعينني على اداء الواجب. اما الاحساء التي ترعرع وعاش، وتعلم فيها فيقول عنها: (الدولة وفرت ولله الحمد كل الحاجات التي يتمناها الانسان في الاحساء، ومن ثم ازدهرت مقومات الحياة وتطورت المشاريع الزراعية، وانشئت مصانع التمور، وضمان عائد مجز للزراع وهذا قرار بلاشك سليم لان اهالي الاحساء يعتمدون على الزراعة وعلى التمور بصفة خاصة كمصدر دخل جيد. واتمنى تنفيذ مشروع الحدائق العامة والمنتزهات لتوفير اماكن تلجأ اليها العوائل لقضاء وقت الفراغ وكمتنفس للمدينة. ولكن اتمنى في نفس الوقت المحافظة على الثروة الزراعية، وعلى الاثار التي تحكي تاريخنا العريق). وعبر عن تمنيات له مطالبا ان تتحقق في الاحساء قائلا: (رغم التطور الذي حدث في الاحساء الا انني اتمنى ان لا تهدم بعض البيوت الاثرية في تلك المدينة فهي جزء من تاريخها، واقدر للمسؤولين في وزارة المعارف واقول لهم ان في مدينة الاحساء اماكن تستحق العناية).العواطف الجياشةوفي المقابلة عبر استاذنا المنقور عن خواطر له كان منها: انه لا يشعر بغضاضة عندما يقول ان مؤهله الشهادة الابتدائية فقط، وانه يجب ان يكون التقدير لعطاء الانسان وليس لشهادته التي يحملها، وضرب مثلا بابن عمه عبدالعزيز بن محمد المنقور الذي قال عنه، وبحق، ان تجربته في العمل تشابه الى حد كبير تجربته حيث عاش في امريكا 17 عاما كملحق تعليمي، واعتبره نموذجا للسفير الناجح في خدمة بلده عندما كان ملحقا تعليميا في امريكا بشهادة طلابه ومعارفه، وان ما قاله استاذنا ـ يرحمه الله ـ في ابن عمه عبدالعزيز شهادة حق وانا من طلابه حينما كنت في امريكا، وتتمثل في عبدالعزيز اطال الله في عمره كل صفات الشهامة والنبل، ناهيك عن تفانيه في تذليل الكثير من الصعاب التي كانت تواجه طلابه واعلم الكثير منها انذاك ويواصل استاذنا عبدالمحسن حديثه من ان في المنطقة الشرقية من طلابه الان في جميع الدوائر الحكومية وكثيرون منهم مشهورون لهذا لم يشعر بانه غريب عندما رجع من بيروت الى المنطقة الشرقية وان اقرب الاعمال الى قلبه التعليم لانه ارتبط به 32 عاما، 15 عاما في التعليم في الاحساء و17 عاما ملحقا تعليميا في بيروت وانه عرف الشيخ حمد الجاسر عندما كان مساعدا لمدير مدرسة الاحساء الابتدائية وانه كان يقرأ له ويعتبره منعطفا فكريا ومثقفا ولا يمكن ان يتحول الى رجل اخر من حرفة الكتابة والاطلاع، وانه تعلم من الحياة اشياء كثيرة اولها تقبل الواقعية اي تقبل الحياة بواقعها والتصرف فيها بالواقع وان الشيء الذي خرج به من بيروت واعتز به مكتبة تحتوي على خمسة الاف كتاب.واشارك الصديق الاستاذ الدكتور راشد بن عبدالعزيز المبارك طالب الامس وزميلي في مدرسة ثانوية الاحساء حينما كان استاذنا المنقور مديرا لها عواطفه الجياشة الحزينة التي عبر عنها في كلمته القيمة وهي كلمة ترجمت ليس مشاعري فحسب وانما مشاعر الكثير من طلبته ومحبيه ومعارفه. قال الدكتور المبارك في كلمته: (عبدالمحسن المنقور. الشعاع الذي غاب: (في يوم امس فجعت المروءة في عطائها ووفائها بفقد فرد من القلة القليلة من العاشقين للوفاء والعطاء وهو الاستاذ عبدالمحسن المنقور والايمان بقضاء الله الذي لا يرد وقدره الذي لا يحد ولا يمنع ولا يدفع الاحساء بألم المصاب وبلاغة الجرح في فقد حبيب او الثكل في قريب. واكثر الاحداث ايلاما حدث نتوقع حدوثه، ولا نستطيع دفعه ونثق من حتمية وقوعه ولايد لنا في منعه والموت اشد هذه الاحداث واوجعها اذ هو الفراق الذي لا لقاء بعده، والرحيل الذي لا عودة منه الى هذه الدار، وتتسع دائرة الالم بقدر اتساع مكانة الفقيد في قلوب ذويه ونفوس عارفيه، وللفقيد في قلوب ذويه مكانة، وفي نفوس محبيه منزلة على ان الفقيد عاش معروفا مجهولا من باب:
ولقد عرفت وما عرفت حقيقة …. ولقد جهلت وما جهلت خمولا
ولقد زرت احد رموز مدرسة الاحساء الابتدائية التاريخية في منزله العامر في الرياض هو استاذي عبدالله بن عبدالرحمن الباز متعه الله بالصحة وطول العمر وكان الباز زميل استاذنا المنقور في الدراسة وفي التدريس وعزيته في رفيق دربه ولقد تحدث معه في امور من بينها ما تركه الفقيد (بوحمد) من اعمال جليلة في مجال التربية والتعليم. وكان من رأي الاستاذ الباز في زميل دربه انه كان متفانيا في خدمة التعليم وانه كان محبا للاحساء واهلها وانه كان كريما، كما كان وفيا مع اصدقائه ومحبيه.تغمد الله الفقيد (بوحمد) بواسع رحمته ونسأله ان يسكنه فسيح جناته وان يلهم ذويه ذكورا واناثا واخويه معالي الشيخ ناصر والصديق سعد ومحبيه ومعارفه الصبر والسلوان و(انا لله وانا اليه راجعون).


ورحل رمز.. من رموز مدرسة الأحساء الابتدائية التاريخية عبدالمحسن بن حمد المنقور
الناشر: جريدة اليوم

– العدد : 12014

تاريخ النشر: 07/04/2006م

الرابط للمصدر 

ويبقى أبو ناصر في الذاكرة

لقد ألمّ بي حزن بالغ لدى علمي بنبأ وفاة صديق عهدتُه متعاطفا للغاية مع فتية كلية التجارة الثمانية – جامعة الرياض، وذلك منذ أربعة وثلاثين عاماً مضتْ.تميَّز هذا الفقيد أنه:طالب علممتواضعشجاعٌشهمٌمحبٌ للخيرذو ثقافةٍ عاليةٍ، ودرايةٍ واسعةٍ بواقع المجتمع،يعيش هموم مجتمعه: سلبياته وإيجابياته،مستمع لافت للنظر،يشجعُ طلاب العلم على المثابرة، ومواصلة التحصيل العلمي،يحبُّ الصمت،إذا تحدثت معه يحْسسك أنك أنت المعلم وهو الطالب،يتكلم إذا وجدَ أن هناك ضرورة للكلام،إذا صافحك فإنه يترك أثر المصافحة في ظهر يدك للحظات، بل وربما لدقائق!والفقيد من الرعيل الأول الذين توجَّهوا لعاصمة (المعز) لتلقي التعليم الجامعي.كنتُ أسمع عن الفقيد، وأنا طالب في (مدرسة الرياض الثانوية) في عام 1377هـ، وكانت المدرسة تحتل بيت (ابن جبر) بحي (شلقة) المجاور لشارع الوزير، أحد الشوارع الرئيسة في الرياض آنذاك.وكنتُ أسمعُ عن نشاط الفقيد، وأنا في مقاعد الدرس بكلية الحقوق – جامعة القاهرة بحكم عمله بوزارة المعارف، ومن ثمَّ في (جامعة الرياض)،كان الفقيد في وزارة المعارف متألقاً في جهوده وعطائه حينما كان (مديراً عاماً للتعليم الابتدائي)، ومن ثم (مديراً عاما للتعليم) بالوزارة،واحتل الفقيد في (جامعة الرياض) (جامعة الملك سعود حالياً) منصب الأمين العام بها.كان مكافحاً في مشواره التعليمي ومن ثم العلمي، ولا غرابة حيث عاش وترعرع في بيت علمٍ، وابن الوزِّ عوَّام.كان المنصب لا يهمه بقدر اهتمامه بطلب العلم والتشجيع على طلبه، وكان لطبيعة المناصب التعليمية التي تولاَّها الأثر الكبير في توجهاته.بعد تخرجي في كلية الحقوق – جامعة القاهرة في عام 1382هـ قررتُ الالتحاق بجامعة الملك سعود (معيداً)، فقابلت في (الملحقية التعليمية) بالقاهرة في صيف عام 1382هـ سعادة (وكيل جامعة الملك سعود) آنذاك (معالي الأستاذ الجليل الدكتور عبدالعزيز بن عبدالله الخويطر) الذي كان في مهمة التعاقد مع أساتذة مصريين للعمل بالجامعة، وعرضتُ عليه رغبتي في التدريس بالجامعة فوافق حالاً.وبعد سنة من بقائي بكلية التجارة (معيداً) سافرتُ إلى (أمريكا) للدراسة العالية بكلية حقوق جامعة ييل Yale الأمريكية على حساب الجامعة.ولأن الفقيد، كما سبق القول، يشجع طلاب العلم على المثابرة، ومواصلة التحصيل العلمي، رأى أن يبدأ بنفسه في هذا المجال، وليكون القدوة لغيره من محبيه.ترك منصبه (بجامعة الرياض) إلى (حين) ليواصل دراسته العالية في بريطانيا.حصل الفقيد على شهادة الدكتوراة في عام 1389هـ في الأدب العربي في جامعة لندن (مدرسة الدراسات الشرقية والإفريقية) في موضوع يتعلق بكتابات الجغرافيين العرب عن شمال الحجاز حتى القرن الرابع الهجري.وزرتُه أثناء دراسته في بريطانيا مرةً واحدةً في منزله في ضواحي (لندن) وكان الحديث معه (في كثير من الأمور العامة) شيقاً، وأثناء مغادرتي منزله حثني على مواصلة الدراسة.كان الفقيد في حديثه معي ذا بصرٍ وبصيرة!عاد الفقيد بعدها إلى أرض الوطن ليحتل منصبه السابق مع قيامه بالتدريس بكلية آداب الجامعة نفسها، ومن ثم انتقل إلى هيئة التدريس بها.أمَّا أنا فقد حصلتُ على درجة الدكتوراة في علم القانون من كلية حقوق جامعة ييل Yale الأمريكية بعد سنة من حصول الفقيد على الدكتوراة (أي كان حصولي على الدرجة العلمية في عام 1390هـ).وعدتُ (للرياض)، وقابلتُ (سعادة وكيل الجامعة) في مكتبه بإدارة الجامعة (بحي المَلَز)، وكنا بالمكتب ثلاثة: سعادة الوكيل والفقيد وأنا.فاجأني الفقيد بثناءٍ عاطرٍ عليَّ أمام (سعادة الوكيل) لدرجة أنني خجلت من ثنائه.التزمتُ الصمتَ، إذ لم أتمكن من الردِّ عليه، إلاِّ أن الفقيد قال وقتها مخاطباً (سعادة الوكيل) وبالحرف الواحد:الحمد لله: سَيَسُدُّ الأخ الدكتور (محمد آل ملحم) ثغرةً مهمةً في هيئة التدريس بكلية التجارة.لن أتحدث عما قمت به (في عام 1382هـ، ومن ثم بعد عام 1390هـ مع زملاء متعاونين معي للغاية من حملة الدكتوراة من أبناء الوطن) من أعمال وجهود بكلية التجارة وبالجامعة، هذا ليس هنا محله، وإنما محلُّه في كتابي (حياة في كلية التجارة) تحت الطبع.وبالجامعة اكتشفت أن الفقيد شعلةٌ متوقدةٌ في منصبه بالجامعة، وكذا لمَّا كان يدرِّس بكلية آداب الجامعة.كان الفقيد يتفانى، وفي حماس شديد، في التعرف على أعضاء هيئة التدريس بالجامعة، يحثهم على التحصيل، ناهيك عن توقعاته لبعضهم باحتلال مراكز مرموقة بالجامعة وخارجها.وتمكن الفقيد، وهو بالجامعة – وخاصة بكلية الآداب – أن يحيط نفسه بمجموعة من المثقفين من داخل الجامعة وخارجها، ناهيك عمَّن تخرج على يديه من طلبة أوفياء له.وحتى بعد أن ترك الفقيد الجامعة، وتقلَّد مهامّ أخرى من طبيعة تنموية وخيرية، ظل الأصدقاء – من حوله – يتكاثرون، ويتكاثرون!كان الفقيد ذا بريقٍ!وكان الفقيدُ ذا شفافيةٍ!على سبيل المثال: (وهذا موضوع مهم وحيوي لابد لي من تناوله، من الناحية التاريخية، في حياة الفقيد).حينما كنتُ في (كلية التجارة) (أستاذا مساعدا) كان معي من أعضاء هيئة التدريس من أبناء الوطن الذين انضموا للكلية من (حملة الدكتوراة) حسب تواريخ وصولهم للكلية منذ عام 1387هـ، وحتى عام 1391هـ ثمانية وأسماؤهم كما يلي:- يوسف نعمة الله.- محسون جلال – رحمه الله -.- أنا.- أسامة عبدالرحمن عثمان.- محمد الهوشان.- سليمان السليم.- غازي القصيبي.- ومنصور التركي.أمَّا قيادة الكلية فكانت العمادة وقتها للأستاذ (حسين بن محمد السيد) المصري الجنسية – آنذاك – والسعودي الجنسية فيما بعد – رحمه الله -.ومنذ عام 1382هـ حينما كنتُ معيداً بكلية التجارة وحتى التحاقي بالكلية بعد الدكتوراة – في عام 1390هـ كان العميد – لا يزال – الأستاذ (حسين بن محمد السيد)، وكان معه أساتذة آخرون من العرب الوافدين يدرِّسون بالكلية.كان معظم الأساتذة في (كلية التجارة) من إخواننا العرب.وكانت (كلية التجارة) وقتها ملء السمع والبصر في (مجتمع الرياض) إن لم تكن في سائر أنحاء المملكة.وبعد سنةٍ من التحاقي بالكلية (أي في عام 1391هـ) تقريباً فاجأنا معالي الشيخ الجليل – (حسن بن عبدالله آل الشيخ) – رحمه الله – وزير المعارف والمشرف الأعلى على (جامعة الرياض) – آنذاك – بتوجيهاتٍ مهمةٍ.وكان مقتضى تلك التوجيهات أن يتولَّى أعضاء هيئة التدريس من أبناء الوطن قيادة كليتي (الآداب والتجارة).ولاقت تلك التعليمات ارتياحاً منقطع النظير ليس لدى كافة أعضاء هيئة التدريس بالجامعة من أبناء الوطن فحسب، وإنما لدى الفقيد، إذ صادفت تلك التعليمات هوىً جامحاً في نفسه لأنه كان محباً للوطن وأبنائه.ووفقاً للتوجيهات ذات الرمز الوطني عُيِّنَ – فجأة- معالي الأخ الصديق الدكتور (غازي القصيبي) عميداً (لكلية التجارة).وفي صبيحة اليوم الذي تولَّى فيه الأخ الصديق (القصيبي) منصبه الجديد جاء الفقيد – بكل ما يملكُ من حزمٍ وأناةٍ وبعدِ نظرٍ، وبحكم موقعه بالجامعة – إلى (كلية التجارة) محاولاً لمَّ الشمل بالكلية – ما أمْكَنَ – بعد أن تصاعدت الخلافات بها إثر تعيين الدكتور غازي، ولكن فات الأوان، حيث إنَّ منْ يتولَّى (عمادة الكلية) حسب الأعراف الجامعية يعتبرُ (الأول) بين متساويين وهو ما لم يكن ، وكان العميد الجديد يجهل هذه الأعراف!ودعاني الفقيد ذات مرة إلى منزله الأول الكائن (بحي الملز) مع ثلة من أعضاء هيئة التدريس بالجامعة وآخرين وكنتُ وقتها (بكلية التجارة) لتناول طعام العشاء على شرف (صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبدالعزيز) وزير الدفاع والطيران والمفتش العام (آنذاك).وبعد تناول طعام العشاء أخذ الفقيد سمو الأمير، وبعض المدعوين وكنتُ من بينهم، على جولة في مكتبته التي كانت تضم عشرات الآلاف من الكتب في مختلف الفنون والآداب.وقد أهدى الفقيد لسمو الأمير كتاباً نادراً من الكتب التي كانت تحتوي عليها المكتبة.والشاهدُ في إيراد هذه المناسبة التي لا تزال عالقةً بمخيلتي هو أنني كنت من بين الذين ودَّعهم الفقيد بعد توديع سمو الأمير.وفي تواضعٍ جمِّ يصعب وصفه سايرني الفقيد حتى عتبة بابه، وأتذكَّر أنه قال لي عند عتبة الباب بالحرف الواحد:يا دكتور: آمل أن أراك، آمل التواصل، وكم أودُّ أن تكون معنا في بعض رحلات البرِّ التي اعتدنا على القيام بها مع إخوة من أساتذة الجامعة وخارجها.كلمات لا تزال محفورة في الذاكرة.كلمات صادرة من صميم قلب رجل محب لطلاب العلم يتفاعل مع طموحاتهم، بل ويشجعهم على العطاء.وكنتُ ألتقي بالفقيد في بعض المناسبات العامة كمناسبات الزواج وغيرها فأجدُهُ الرجل نفسه لم يتغير رغم تقدم السن:متواضعاً.ذا نفس أبية.صاحب رأي.يتفقدُ الأحوال.وبودي أن أشارك الأستاذ الأديب ذا العطاء المتميز (سعد البواردي) رثاءه المعبر المؤثر في الفقيد، وهو رثاءٌ شدَّ مشاعري!وليسمح لي أخي (سعد)، وبدون إذن سابق منه، نقل فقرات من هذا الرثاء معتبراً أنني كما لو كنتُ مسطِّراً هذه الفقرات:(افتقدناك منظِّر ثقافةٍ أصيلةٍ ترفض ثقافة السخافة.. لا ترضى عن أصالة الرسالة بديلاً).(افتقدناك متواضعاً رغم شموخك.. علو همتك.. وسمو قامتك).(جافيت الشهرة التي يلهثُ خلفها أنصاف الرجال.. لأنك الرجل.. والرجل ترفعٌ وتواضعٌ).(علمتَ فكان لك المريدون الكثر، وأنا واحد منهم، كنت لي خير مثل).(علمتنا دروس الأخلاق دون نفاق فحفظناها.. وما حفَّظناها..).(علمتنا وأنت المعلم أن العطاء في صمتٍ هو جوهر العمل وإكسيره.. محركه..).(علمتنا أن نخطو خطواتنا في تواضعٍ غير مبهورين.. ولا مختالين.. ولا متخاذلين).(كثيرة هي الاشياء الجميلة التي أودعتها حياتك الثرة، وودَّعتنا راحلةً معك..).وأقولُ في ختام رثائي:رحم الله الفقيد الأستاذ الدكتور (عبدالله بن ناصر بن محمد الوهيبي)، وأسكنه فسيح جناته، وألهم أهله وأبناءه وبناته وإخوانه الصبر والسلوان،(إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ)


ويبقى الفقيد (أبوناصر) في الذاكرة.(مقتطفات مختصرة من كتاب (حياة في كلية التجارة) تحت الطبع)ويبقى الفقيد (أبوناصر) في الذاكرة.(مقتطفات مختصرة من كتاب (حياة في كلية التجارة) تحت الطبع)
الناشر: جريدة الجزيرة

– العدد: 11815

تاريخ النشر: 02/02/2005م

الرابط للمصدر

ومتى أجد البديل!

ما أقرب الدنيا من الآخرة!!”الخدين” أقرب إلى القلب من القريب والصديق والرفيق.وأنت يا “أبا عبدالعزيز” الخل “الخدين”، “الخدين”.كلما أكون “بالأحساء” تعلم أسرتك أنني سأكون معك لأني أرتاح نفسياً أن تكون معي. وحينما تطأ قدمي “حي السلمانية” “بالأحساء” كنت أهاتف أسرتك الكريمة للسؤال عنك، وبمجرد سماع الأسرة الكريمة لصوتي تبادر بتحيتي قبل السؤال عَنْ مَنْ هُو على الهاتف.. تعلم الأسرة أنني أسأل عن “الحبيب”.يا أبا عبدالعزيز:ـ قبل وفاتك بثمان ساعات كنت معي ممتطياً سيارتي ذاهبين “لمهرجان هجر الثقافي الثاني”، وبالمهرجان كنت أيها “الفقيد” في الصدارة ــ لأنك تحب الصدارة ـ وبجانبك مدير شرطة محافظة الأحساء ” اللواء “عبدالله بن صالح السهيل” وسعادة الأستاذ “محمد القاسم” مدير مكتب سمو الأمير بدر محافظ الأحساء، والأخ الصديق الأديب “عبدالله الأحمد المغلوث”. وكنا نتبادل أطراف الحديث حول العرضة النجدية وغيرها وكنت “يا “أبا عبدالعزيز” متألقاً في الحديث كعادتك للغاية. وأتذكرُ وأنت تمتطي سيارتي للذهاب للمهرجان ومعنا بالسيارة الأستاذ الأديب “خالد بن عبدالله آل ملحم” مدير مكتب “وزارة الخدمة المدنية” بالأحساء، وابن أخي الأستاذ المدرس “عبدالله بن ناصر آل ملحم” أنكَ قلتَ لي أنَّكَ تحس بتعب، ولكنكَ قررتَ مرافقتنا. قاومتَ ما كنتَ تحسُّ به ممتطياً سيارتي، وبداخل السيارة حدَّثتني عن بعض الأمور، وذهبنا للمهرجان. ولما وصل سمو المحافظ للمهرجان بادرتَ كعادتك تحيي المحافظ. وبعد الحفل ودعتك أمام منزلك وكان ذلك حوالي الساعة العاشرة مساءاً رغم دعوتك لنا بدخول منزلك. وفي الصباح المبكر فوجئت بخبر وفاتك.وهكذا يا “أبا عبدالعزيز” كان قضاء الله وقدره.يا “أبا عبدالعزيز”:ـ بعد ثمان ساعات توفاك الله بعد مرافقتي لك. اعلم يا “أبا عبدالعزيز” أنني أحببتك وأنت تعلم أنني أحبك في الله حتى فارقت الحياة. أما وفاتك فلكل أجل كتاب. حينما أكون بالأحساء كنت أسعد بلقياك.ودعني أتحدث عن مآثرك.كنت تحب أسرتك “آل ملحم” مضحياً بالغالي والنفيس في سبيلها قبل العناية بأسرتك الصغيرة.كنت كريماً في خلقك.وكنت غنياً في نفسك ، والغنى غنى النفس، أما الكرم فمن طباعك، ومحبة كبار القوم من خصالك.يا “أبا عبدالعزيز”:ـ إذا كان للشهامة تاج فأنت تاجها.يا “أبا عبدالعزيز”:ـ وإذا كان للشهامة بيت فأنت رب البيت.يا “أبا عبدالعزيز”:ـ سأفتقد بعد فراقك ذلك الحديث من القلب إلى القلب الذي عودتني عليه.يا “أبا عبدالعزيز”:ـ أنا بعد فراقك في حالة ذهول. وأنا أعرف أن من أعز أصدقائك أخي “الحبيب” صديق الجميع الأستاذ “عبدالله بن ابراهيم الراشد”. ماذا أقول له لو هاتفني!! أنا أعلم أنه يحبك!يا “أبا عبدالعزيز” ستعلم أسرتك الكبيرة “آل ملحم” في سائر محافظات المنطقة الشرقية وفي الرياض وعيون الجواء وفي الكويت أنها فقدت أعز أبنائها.رحم الله الخل “الخدين” ابن العم الحميم “محمد بن عبدالعزيز الناصر آل ملحم”، وألهم أهله وأبناءه وبناته وحفدته الصبر والسلوان، وإنا لله وإنا إليه راجعون.


الناشر: جريدة اليوم

– العدد: 10002

تاريخ النشر: 02/11/2000

Myres Smith McDougal EulogyMyres

الناشر: Appreciations of an Extraordinary Man, p. 72-73. Yale law school, Yale Universityتاريخ النشر: 1999
In memory of my professor Myres Smith McDougal of Yale Law Schoolwho passed away on May 7, 1998 I wrote the following eulogy.*
Myres Smith McDougal ByMohamed Almulhim, ’65 LL.M., ’70 J.S.DMinister of State of the Kingdom of Saudi Arabia

As a world class institution,Yale Law School is the host to many first-class scholars and educators.However, Myres Smith McDougal, a pioneering, ground-breaking leader oflegal scholarship, had a major share in this institution’s renown beyond American borders. Without Myres Smith McDougal, this institution would not be the same. Mac is a popular name, and Myres Smith McDougal liked and loved very much that hiscolleagues and students should call him “Mac” whenever they desired to speak to him.As a human being, Mac was friendly, considerate, gentle, and appreciative.He had a great sense of humor and a good heart; he loved his students,foreign and national alike, and was extremely eager to help them with all the meansavailable to him. As an academician, Mac was a great, omni-competent teacher in his classroom.He dispersed knowledge tirelessly, and did not mind repeating his thoughts andexplanations in getting his ideas across, and more than occasionally using hishumor as a means of persuasion in holding his students’ attention.As an American, Mac was a deep scholar in the eyes of all non-Americans who knew him well.Mac, in fact, symbolized the true image of America in his dignified, courtly demeanor,in his openness, loyalty, honesty, and warm feelings. He was, to say the least,larger than life.When he joined the Yale Law School faculty and became the chairman of the Graduate program,Mac strived from the very beginning to make Yale Law School available to potentialapplicants world wide. He encouraged foreign students, regardless of their nationalities,race, religion, color, or loyalties, to attend Yale Law School. Most of such studentsafter studying went on to become leaders, judges, and law teachers in their respectivecountries, having been endowed with Yale values and excellence.Mac’s accomplishments are too numerous to outline here, but his legal imprint is mostvisible in the legacy of the cherished establishment known as: The new Haven School ofJurisprudence.” His inclusive-exclusive precise eight values namely, power, well-being,wealth, skill, respect, enlightenment, affection, and rectitude, have been engraved inthe memories of his devoted students.Based upon these values, Mac was the first among his associates to initiate,make and strongly advocate through his writings, the International Law of Human Dignity.Mac’s devoted students, including me, will never forget the question “What does the terminternational law of human dignity mean?” Mac defined the term al follows: “By aninternational law of human dignity, I mean the processes of authoritative decision ofa world public order in which values are shaped and shared more by persuasion than coercion,and which seeks to promote the greatest production and widest possible sharing, without discrimination irrelevant to merit, of all values among all human beings.”The notion of “international law of human dignity” had evolved and developed in Mac’s mind,legally and politically so to speak, as a result of the aftermath of the Second World War.However, Mac, after six decades was more than happy to witness in his lifetime that hisgenuine thoughts, taught within Yale Law School classrooms about the law of human dignity,had been already materialized through the total collapse of the Soviet Union.Even though Mac is no longer living among us to advise and teach, his legacy carries onnot only in his small island which is Yale Law School, but in all places around the worldwhere Mac’s ideals are being advocated and enhanced.On a personal level, I would like to show my sincere gratitude to my beloved teacher MyresSmith McDougal, for exposing me to deep scholarship and in widening my horizon to legalknowledge and proper methods of research.As devoted friends from Saudi Arabia, my wife Naeemah Alqadhi and I feel his lossand are grieved by his absence.

*Myres Smith McDougal, Appreciations of an Extraordinary Man, p. 72-73. Yale law school,Yale University, 1999.

فقيد الأحساءخليفه بن عبدالله بن عبدالمحسن آل ملحم 

كان “فقيد الأحساء” من رجالات “محافظة الأحساء” المرموقين.كان له دور بارز في “العملية التعليمية” الأساسية في “مقاطعة الأحساء”.وكان له دور حيوي في إدارة دفة الشئون البلدية في “الأحساء”.وكانت له صلات واسعة مع معظم الأسر بمدن “الأحساء” وقراها، وهي صلات توطدت مع مر السنين.وفوق ذلك كله كانت له، ومن قَبْلِهِ لوالده، صداقة خاصة مع أسرة “آل جلوي آل سعود” الكريمة في “الأحساء”، وبسبب هذه الصداقة كانت لا تفوته أية مناسبة رسمية “بأمارة الأحساء” إذ كان من ضمن مستقبلي زوار “الأحساء” ممن تستقبلهم الإمارة، كما كان لا يترك أية فرصة أو مناسبة تَمُرًّ وهو في “إمارة الأحساء” إلاَّ ويتحدث لما هو في صالح “الأحساء”، وكان يقول لمن يقابله من المسئولين الزائرين “للأحساء”: إننا لا نطلب منكم وأنتم في “الأحساء” إلاَّ ما تطلبه النخلة من مالكهـــا. إنها تقول له : “زرني ولا تعمرني”.وفقيد الأحساء هو “خليفه بن عبدالله بن عبدالمحسن آل ملحم”. ولد الشيخ “خليفة” في “الأحساء” عام 1343هــ، وتعلم القرآن الكريم عند الشيخ “عبدالله بن فهد أبوشبيب”، وأكمل ختم القرآن الكريم عند المطوع “ابن عديل”.ودخل “خليفة” “مدرسة النجاح” التي أسسها الشيخ “حمد بن محمد النعيم” في عام 1343هــ، وتعلم بها مبادئ الخط والكتابة والحساب.ومن ثم أرسله والده إلى “محمية البحرين” آنذاك حيث التحق “بمدرسة الهداية الخليفية”، وبقي في المدرسة ثلاث سنوات، وكان من زملائه بهذه المدرسة “خليفه بن عبدالرحمن القصيبي”، و”فهد بن محمد العجاجي”، و”ابراهيم كانو”، وأنجال “عبدالرحمن الزياني”.تدرَّب الشيخ “خليفة” “بمدرسة الهداية الخليفية” على إلقاء الخطب، وبعد تخرجه منها عاد إلى “الأحساء” حيث التحق “بمدرسة النجاح” لمؤسسها الشيخ “النعيم” مرة أخرى [بعد انتقالها إلى حي القرن بجنوب مدينة الهفوف القديمة] التي كانت آنذاك تمول من قبل أسرة “القصيبي”، وكان من بين زملائه بالمدرسة أخوه “عبدالمحسن” متعه الله بالصحة، و”سعد الحواس”، و”أحمد بن حمد القصيبي”، وكان مـن بين المدرسين بالمدرسة “الشيخ “عبدالله بن عبداللطيف العمير”.وحينما كان الشيخ “خليفه” طالبًا “بمدرسة النجاح” ألقى قصيدة “للسموءل” أمام جلالة الملك “عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود” يرحمه الله الذي كان في زيارة للمدرسة عام 1348هــ.ونال إلقاؤه للقصيدة الاستحسان من لدن جلالته. ومن أبيات هذه القصيدة:ــإِذَا الْمَرْءُ لَمْ يَدْنُسْ مِنَ اللُّؤْمِ عِرْضَهُ ….. فَكُلُّ رِدَاءٍ يَرْتَدِيهِ جَمِيلُوَإِنْ هُوَ لَمْ يَحْمِلْ عَلَى النَّفْسِ ضَيْمَهَا ….. فَلَيْسَ إِلَـى حُسْنِ الثَّنَاءِ سَبِيلُإِذَا سَيِّدٌ مِنَّا خَلاَ قَامَ سَيِّدٌ ….. قَؤُؤلٌ لِمَا قَالَ الْكِرَامُِ فَعُولُسَلِي إِنْ جَهِلْتِ النَّاسَ عّنَّا وَعَنْهُـمُ ….. فَلَيْسَ سَـوَاءٌ عَالِـمٌ وَجَهُـولُ
وكان الشيخ “خليفة” من الرعيل الأُوَلْ الذين التحقوا بوظائف حكومية إذ شغل وظيفة “أمين مستودع الرياض للأرزاق بمالية الأحساء”، وكانت مهمة هذا المستودع ترحيل الأرزاق والبضائع والبترول والغاز إلى “الرياض”. ومن ثم انتقل الشيخ “خليفة” بإدارة “مالية الأحساء” إلى “قسم المحاسبة” ومكث بها مدة من الزمن، ومن ثم انتقل إلى “الجبيل” في فرع ماليتها الذي افتتح آنذاك، وأصبح مديرًا لهذا الفرع بعد ذلك. وبعد حين تقلد إدارة “مالية القطيف” خلال الحرب العالمية الثانية، وبعدها انتقل إلى وظيفة “مندوب الرئيس العام لشئون الماليات والجمارك والتموين” بالدمام. ولأسباب عائلية من بينها وفاة زوجته الأولى [أم عبدالله] تأثرت صحته؛ وقرر الاستقرار بمسقط رأسه “الأحساء” حيث طلب منه سمو الأمير “سعود بن عبدالله بن جلوي آل سعود”، و”بإلحاح”، أن يتقلد رئاسة “بلدية الأحساء” فوافق، وكان ذلك في نهاية عام 1367هــ، وأجرى أثناء رئاسته للبلدية إصلاحات متواضعة في مدينة “الهفوف” وقراها وذلك في ضوء الإمكانيات المتاحة آنذاك.كذلك كان الشيخ “خليفة” عضواً في اللجنة التي شكلها سمو الأمير “سعود بن جلوي”، وهي اللجنة المكلفة بتقديم المساعدات والإعانات للطلاب الفقراء لكي يواصلوا دراستهم في كل من “مدرسة الأحساء الابتدائية”، و”مدرسة الأحساء الثانوية” التي تأسست في بداية عام 1376هــ، وأسهم الشيخ “خليفة” في تأسيس “بلدية الدمام” بعد انتقال مقر “إمارة الأحساء” إلى “الدمام في عام 1373هــ.وأسهم الشيخ “خليفة” اِسهامًا فعالاً في تأسيس “شركة كهرباء الأحساء”، ومن ثم عُيِّنَ مديراً لها لمدة خمسة عشر عامًا. والشيخ “خليفة” شاعر مقل، وله قصائد في الشعر النبطي، وهو متحدث لبق، فصيح اللسان، ذو ثقافة عامة، ولديه قدرة عجيبة على الإقناع.وكان من أصدقائه [إلى جانب أقاربه] كل من [مع الاحتفاظ بألقابهم] محمد بن إبراهيم بن جندان” و”عبدالعزيز بن منصور التركي”، و”سليمان بن محمد بالغنيم”، و”عبدالله بن فهد أبوشبيب”، و”محمد بن إبراهيم المبارك”، و”أحمد بن علي المبارك”، و”عبدالعزيز البراك”، و”عبدالله بن شهيل”، و”إبراهيم الحملي”، و”عبدالرحمن الماجد”، و”عبدالله بن عمر الناصر الفوزان”.وللفقيد عشرة أولاد وخمس بنات، وتزوج من أربع نساء ثلاثة منهن من أسرة “آل البوعينين” المشهورة “بالجبيل” نسباً وعراقة. ولا تزال واحدة منهن [أم عبدالرحمن] على قيد الحياة متعها الله بالصحة والعافية.وكان الشيخ “خليفة” عميد أسرة “آل ملحم” في “محافظة الأحساء” التي تنتمي إلى “العقفان،” أحد أفخاذ “الجغاوين”، و”الجغاوين” أحد قسمي “العبيات والقسم الآخر “العونه”، و”العبيات” من “واصل” من “بريه” من قبيلة “مطير”.وسئل الشيخ “خليفة” ذات مرة عن تصوراته حول تطور ونمو “المملكة العربية السعودية” فقال للسائل:ـ”إن الشباب لا يعرفون ما مرت به البلاد منذ إنشائها في عهد جلالة الملك “عبدالعزيز” يرحمه الله. لذلك يعتبر عمرها قصيرًا إذا ما قورن بنموها العظيم. ولو قارنتَ ما يجري عندنا بما يجري عند غيرنا الذين سبقونا بسنوات لوجدتَ أوضاعنا أفضل وذلك على الرغم من اتساع رقعة المملكة، وتعدد متطلبات مدنها وقراها وهجرها … ومن ثم استطرد الشيخ “خليفة” قائلاً:ـ انظر إلى التعليم مثلاً كيف قفز لدينا. قبل ثلاثين عامًا لم يكن لدينا سوى عدد قليل من المدارس الابتدائية, والآن المدارس منتشرة بمختلف المراحل التعليمية والتعليم العالي للبنين والبنات، والكل بعد التخرج يتسابقون في البناء والتشيد والتنمية، وأنا أودّ أن أرى مدن “الأحساء” من أزهى المدن، وهذا لا يتم بين ليلة وضحاها.رحم الله الشيخ “خليفة آل ملحم” وأسكنه فسيح جناته، وألهم أهله وأبناءه وبناته وحفدته الصبر والسلوان. “إنا لله وإنا إليه راجعون”.


الناشر: جريدة اليوم

– العدد:8569

تاريخ النشر: 30/11/1996م

 نجم لن يأفل 

أعرفُ هذا “النجمَ” منذ أن شببتُ عن الطوق لقرب منزله من منْزلي وذلك قبل أن يعرفَني، وبعد أن تعرَّف عليَّ استمرت هذه المعرفة قرابة الأربعين عاماً.عاش هذا “النجم” حياته كلها في “حي” أو “فريق آل ملحم” “بالنعاثل” أحد أحياء مدينة “الهفوف” القديمة حاضرة “محافظة الأحساء”.كنت أشاهدُه عند الأصيل أكثر من مرة [وأنا مع أترابي نلعبُ في “حيِّنا” قرب دكاكين وطبيلات النافع الشهيرة] مترجلاً و”مشلحه” الأسود على كتفه وكان معه مترجلاً كذلك زميل صباه ورفيق دربه الشيخ الأريب “خليفة بن عبدالله بن عبدالمحسن آل ملحم”.كان كلاهما في عنفوان شبابه، وكنت مع أترابي نتهيبُ حتى من رؤيتهما.وكان كل منهما شامخ القامة، وكنت أراهما حينما يؤوبان إلى مَنْزِلَيْهِمَا عند الأصيل من مزرعة “العطافية” التي تقع خارج أسوار مدينة “الهفوف” القديمة. وهي مزرعة يملكها هذا “النجم”؛ رأيتمها .. ولا زلت أتصورهما .. “ذكرى” و”صورة” لاَ تزالان إلى الآن عالقتين بمخيلتي! كان هذا “النجم” من وجهاء “الأحساء” الذين يشار إليهم بالبنان خلال عقود كثيرة.عن أخلاقه وعفة لسانه فحدث ولا حرج.وعن كرمه ورحابة صدره فحدث كذلك ولا حرج.كان من رجال الأعمال الأذكياء يديرُ شئونه التجارية والمالية وحده، وكان مثل ربان السفينة الحاذق يواجه ـ عبر السنين ـ رياح وعواصف عالم المال والتجارة والزراعة والعقار بمهارة وتؤدة وتبصر وحسن قيادة.كان هذا “النجم” مـن الرعيل العظيم مـن أبناء “الأحساء” البررة من أمثال:ـ “محمد بن إبراهيم الجندان، وحمد بن محمد النعيم، وعبدالعزيز بن منصور التركي، وخليفة بن عبدالله آل ملحم، ومحمد بن حمد النعيم، وإبراهيم الصالح المهنا، وسعد بن إبراهيم القصيبي، وعبداللطيف بن عبدالله المبارك، ومحمد بن عبدالعزيز العجاجي، وعبدالله بن عبدالرحمن الملا ” الذين لم يألوا جهدًا في دعم الحركة التعليمية الأساسية في عهد الملك “عبدالعزيز” يرحمه الله في “مقاطعة الأحساء”. وكان هذا “النجم” من المشجعين للحركة التعليمية “بالأحساء”، ويكفيه فخراً أن أبواب منزله كانت مفتوحة لاستقبال المدرسين الرواد من أبناء “الكنانة” الذين شَرَعُوا في التدريس في “مدرسة الأحساء الثانوية” منذ افتتاح أبوابها في عام 1367هـ.وكان منزله مفتوحًا أيضًا على مدى خمسين عامًا أو أكثر لأصدقائه ومحبيه ولِمَنْ يصل “الأحساء” من داخل المملكة العربية السعودية أو من خارجها سواء للزيارة العابرة، أم لقضاء عمل خاص، أم لتأدية مهمة حكومية، أم للتنَزه والاستجمام.وكان من توفيق الله سبحانه وتعالى له أن كان من شأن “مجلسه” المفتوح على مدى عقود من الزمان تعزيز مكانته الاجتماعية، وتبوُّؤُهُ الصدارة بين أعيان “الأحساء” ورجالاتها وسراتها وعلمائها. أما مجلسه فأصبح على مر الأيام والليالي بمثابة “المنتدى” الذي يؤمُّه الكثير من أبناء “الأحساء” وكان “مؤلف هذا الكتاب” منهم.وكان “قطب الرحى” في هذا المجلس وعلى مدى الأربعين عامًا رجلاً متواضعاًد من طلبة العلم صَاحَبَ هذا “النجم” بأمانة وإخلاص، وكان في علاقته بهذا “النجم” بمنزلة الرفيق، والخدين، والصديق، والسمسار.وطالبُ العلمِ هذا هو الشيخُ “عبدالله بن فهد أبوشبيب” الذي اعتاد تَصَدُّرَ مجلس هذا “النجم” في مغرب كل ليلة لقراءة ما تيسر من كتب الحديث والسيرة النبوية وسير الصحابة رضوان الله عليهم، وكانت سيرة “ابن هشام” أهم كتاب كان يقرؤه، وكان يقرؤه إنشادًا وبصوتٍ جميلٍ أخَّاذ، ولقد حضرتُ هذا المجلس أكثر من مرة من أجل الاستماع إلى صوت هذا “الشادي” وهو ينشدُ أحاديث الذكر وتاريخ السيرة النبوية.وشارك هذا “النجم” في الحركة التنموية في “الأحساء” ومن ذلك تأسيس “شركة كهرباء الأحساء” في عام 1368هــ، وكانت شركة مساهمة عامة. وكانت المشاركة في هـذه الشركة مـع كوكبة متفانية مـن الرجال منهم:ـ سمـو الأمير “عبدالمحسن بن جلوي، وإبراهيم الجفالي، وأحمد الجفالي، وعبدالله بن عدوان، وعبدالرحمن بن سليمان بالغنيم ، وعبدالمحسن الأحمد آل ملحم، وموسى الكليب ، وخليفة بن عبدالله آل ملحم” يرحمهم الله ..وكان الباعث لتفاني هذا “النجم” مع زملائه في تأسيس هذه الشركة الرغبة في استعادة الثقة من جديد لدى أهالي “الأحساء” في تأسيس الشركات، وهي الثقة التي فقدوها عندما تعثَّرت “شركة التعاون” المؤسسة في منتصف الستينيات من القرن الهجري الماضي فـي حــي “زقيجان” الواقع بشمال شرق مدينة الهفوف القديمة.وأتذكرُ أنني شاركتُ، حينما كنت طالبًا في “متوسطة مدرسة الأحساء الثانوية” في كتابـة الكثير مـن الرسائل التي كانت إدارة شركة الكهرباء برئاسة الشيخ “خليفة بن عبدالله آل ملحم” ترسلُها ـ آنذاك ـ إلى الإخوة:ـ إبراهيم الجفالي وأحمـد الجفالي في جدة بصفتهما من مؤسسي الشركة.وتعرَّفتُ على هذا “النجم” من خلال “نادي مدرسة الأحساء الابتدائية الأسبوعي” الذي كان يحضرُ حفلاته، وكذلك عندما ألقيتُ كلمة باسم شباب “الأحساء” في ميدان بالقرب من “قصر خزام” غرب مدينة “الهفوف” القديمة أمام صاحب الجلالة الملك “سعود بن عبدالعزيز آل سعود” يرحمه الله في أحد زياراته “للأحساء” حينما كان وليًا للعهد.ويذكرُ الأستاذ الأديب “عبدالله بن محمد بن خميس” أنه حينما قدم إلى “الأحساء” لافتتاح”المعهد العلمي” قبل منتصف السبعينيات من القرن الهجري الماضي حَلَّ ضيفًا في منْزل هذا “النجم”، وبمنْزله تعرَّف “بن خميس” على “أبوشبيب” وهي معرفة استمرت وتوطَّدت بينهما على مر السنين، وعلى إثر وفاته في عام 1403هـ [أي وفاة أبوشبيب] حبَّر “بن خميس” “تأبينًا” نشره في جريدة “الجزيرة” نَعَتَهُ فيه براوية “الأحساء” وبلبلها الغريد. (1) وحينما كنتُ أدرسُ بجامعة “القاهرة” في نهايات السبعينيات وبدايات الثمانينيات من القـرن الهجري الماضي، وكان معي ـ آنـذاك ـ الكثير من أبناء “الأحساء” الذين كانوا يتلقون العلم بالجامعة نفسها، كان هذا “النجم” يتردَّد على “قاهرة المعز” قاطنًا في شقة بحي “قاردن ستي”، وكان يؤُمُّ شقتة الكثيرُ من أصدقائه من “الأحساء” وغيرها الذين كانوا يتردَّدون على “القاهرة”، وكان هذا “النجمُ” بين الفينة والأخرى يزورُ البعضَ منا في سكنه في أحياء “الدقي” و”العجوزة” وغيرها مثل الأب الحنون يتفقدُ أحوالنا، وكان بصحبته الطالب “ناصر بن محمد بونهية” الذي كان يَدْرُسُ بكلية تجارة جامعة القاهرة.وتمكَّن هذا “النجم”، يرحمه الله، على مر السنين من تكوين أصدقاء له يذكرونه بالخير في “الأحساء” وقراها وفي مدن “الخبر” و”الدمام” وسائر مدن “المملكة العربية السعودية” وخارجها. وكان من أصدقاء العمر الذين لم يفارقوا مجلسه إلاَّ ما نـدر [وحسب علمي] كل مـن :ـ “خليفة بن عبدالله آل ملحم، وعبدالمحسن بن عبدالله آل ملحم، وعبدالله بن عمر الناصر الفوزان، وعبدالمحسن الأحمد آل ملحم، ومحمد بن زيد الشثري، وموسى الكليب”.وبرغم ما مـرَّ بأحياء ومدن المملكة العربية السعودية من تحولات جذرية بسبب الطفرة الاقتصادية التي ترتب عليها إنشاء أحياء جديدة في معظم مدن المملكة انتقل إليها أفرادٌ وأسرٌ بكاملها إلاَّ أن هذا “النجم” لا نظير له في خصوص محبته للمنْزل الذي قَطَنَ فيه طيلة حياته.أقولُ: برغم هذه التحولات الاقتصادية والاجتماعية إلاَّ أن هذا “النجم” لم يغير منزله مع أن في إمكانه ذلك، بل ظلّ قاطنًا فيه، وعاشقًا له، يرمِّمُه وثم يصونه حتى توفاه الله هذا مع العلم أن كل جيرانه قد انتقلوا إلى أحياء جديدة خارج مدينة “الهفوف” القديمة.ويحيط بمنْزله ثلاثة مساجد:ـ مسجد “السدرة” الذي كان يتردَّد عليه طيلة حياتـه وكان إمامه الشيخ “أبوشبيب”، ومسجد “أبوربيانة” بوسـط “حي” أو “فريـق آل ملحم” وكان إمامه الشيخ “إبراهيم العلي ملحـم”، ومن ثم أخاه “محمدًا”، وجامع الإمام “فيصل بن تركي آل سعود” الذي كان يؤدي فيه صلاة الجمعة، وأئمته في عهده أصحاب الفضيلة من أسرة “المبارك”:ـ “عبداللطيف، ومن ثم ابنه عبدالله، ومن ثم ابنه محمد”.ونظرًا لما لهذا الرجل من مكانة في “الأحساء” فإنني أقترح على أبنائه أن يحوِّلوا “المنزل” الذي أحبه والدهم إلى “منتدى فكري” يضم “متحف” و”حديقة عامة” و”مكتبة عامة” ومدرسة للحديث” و”دار أيتام” باسمه تخليدًا لذكراه. وحدَّثني من أثق به أن هذا “النجم” كان يفعل الخير في صمت، وبنى العديد من المساجد.وكان “مجلسه” المفتوح يتصف بالهدوء والمهابة والوقار وتمتلئ أرجاؤه بالأحاديث المفيدة النافعة.وكان يكره أن يُغْتَابَ أحدٌ في مجلسه، ولقد أخبرني من أثقُ بـه أن “شخصًا” ـ أعرفُـه “شخصيًا” وقد توفـاه الله منذ حين ـ قـد اغتاب أحد أقاربه في مجلس هذا “النجم”، فما كان منه [أي من هذا النجم] إلاَّ أن انبرى في الحال طالباً من هذا الشخص التزام الصمت، وَمن ثم خَاطَبَهُ قائلاً بما معناه:ـ “من يحضرُ مجلسنا عليه أن يقولَ خيرًا أو يسكت”.وما ذكرتُه ليس إلاَّ نموذجًا من أخلاق هذا “النجم” الحسنة.وشهد منْزله في الستينيات والسبعينيات من القرن الهجري الماضي جموعًا تكتظُ كل عام بداخله من مستحقي الزكاة التي كان يفرقها عليهم بالنيابة عنه الشيخ “أبوشبيب”، وكانت زكاة هذا “النجم” وزكوات كانت تصله ـ آنـذاك ـ مـن أهل الخير فـي “الأحساء”، و”نجـد”، و”الحجاز” مـن أجل توزيعها على فقراء “الأحساء”.ولقد نشر الأستاذ الأديب “سعد بن عبدالعزيز الرويشد” في جريدة “الجزيرة” “تأبينًا” مؤثرًا بعنوان “مات وجيه الأحساء”، وورد في “التأبين “كلمات” جامعة مانعة بليغة رأيت اقتباسها [ودون استئذانٍ مسبقٍ من كاتبها فليعذرني] ونصها كما يلي:ـ (2) “لقد جمع فقيدنا عليه رحمة الله بين الهدوء، ورجاحة العقل، والنزاهة، والحياء، ومكارم الأخلاق، وبعد النظر، يُحسنُ إلى الفقراء والمساكين بصدقات جَزْلَةٍ وَسِرِيَّةٍ، لطيف المعشر، خفيف الصوت، وئيد الخطو، حسن الهندام، عفيف اللسان، يَزِنُ الكلام قبل أن يتكلم به، ومن أخلاقه الحميدة كرمُهُ وإكرامُهُ للضيوف قلُّوا أو كثرُوا، يقدم لهم الموائد التي على المستوى الرفيع في الكم والكيف لو ذهبتُ أصفُها لاَتُّهِمْتُ بالمبالغة … “(2)وكان هذا” النجم يرحمه الله يتفقدُ أصدقاءه إذا طالت غيبتهم عنه.وكانت له صلات واسعة وصداقات وطيدة مع “شخصيات” من أسرة “آل ملحم” عاشوا معه منذ الصغر.وكنت أتردَّد على منزل هذا “النجم” حينما أكون “بالأحساء”، وحينما أنقطعُ عن زيارته ومن ثم أقابله من باب المصادفة، أو في أي مكان كان يبادرُ بمعاتبتي، وكان يفعل ذلك مع غيري من أصدقائه.وحينما أزوره بمنزله كان يسألني عن أحوالي، كما كان كثير السؤال عن ولاة الأمر من “آل سعود”، وأشهدُ أنه كان محباً لهم، وكان يكثرُ من الدعاء لهم بالتوفيق والسداد.وكنت أجدُه حينما أتحدثُ معه ملمًا بأحداث الساعة.وكان يتحدثُ عن الكثير من الأمور حديث الخبير. وكان يحدثُني عن أحوال “الأحساء” التي كان يحبُّها، وَلِمَ لاَ؟ وهي مسقط رأسه ومسقط رأس أبيه.كان يتمنَّى “للأحساء” الخير والتحديث.وكان “يرحمه الله” على صلة وثيقة بولاة الأمر في “الأحساء” إذ كان يزورهم في الأعياد والمناسبات العامة.وكان يستجيب كذلك لدعوات الأهالي لحضور مناسباتهم العامة، كما كان يواسي الكثير منهم في أحزانهم. ولهذا “النجم” أولاد وبنات، وكان من بينهم ابنه “عبدالرحمن” الذي توفاه الله قَبْلَهُ، وكنتُ معه على صلة ومعرفة.ولقد اتصف الأخ “عبدالرحمـن” ـ يرحمه الله ـ بصفات منها:ـ الشهامــة، والنبل، والوجاهة، والكرم.ولقد تأثَّر هذا “النجم” بفقد هذا الابن العصامي، وَحَزِنَ على فراقه كثيراً. رحم الله الشيخ “سليمان بن محمد بن عبدالله بالغنيم” رجل “الأحساء” الكبير و”نجمها” الذي لن يأفَل، وأسكنه فسيح جناته، وألهم أهله وأبناءه وبناته وَحَفَدَتَهُ الصبر والسلوان وإنا لله وإنا إليه راجعون.”
——————————-(1) راجع ابن خميس “مات ابوشبيب” بجريدة “الجزيرة”، العدد 3924 وتاريخ 8 رمضان 1403هـ
(2) راجع ابن رويشد، “مات وجيه الأحساء، غي جريدة “الجزيرة”، العدد رقم 8586 وتاريخ 13 من ذي القعدة/1416هـ. الموافق 1 أبريل عام 1996م.

الناشر: جريدة الجزيرة

– العدد:8599

تاريخ النشر: 14/04/1996م