وفي العهد الاسلامي، كما كان الوضع في العهد الجاهلي، كان للتجربة الشعرية باعتبارها أداة استراتيجة عملاقة الدور الحيوي في حياة الأمة العربية وقتي السلم والحرب.ويكفي للتدليل على فعالية هذه الاستراتيجية ما ورد بصحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: “استاذن حسان النبي صلى الله عليه وسلم في هجاء المشركين، قال كيف بنسبي فقال حسان “لأسلنك منهم كما تسل الشعرة من العجين”. وما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت:- كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يضع لحسان منبرا في المسجد يقوم عليه قائما يفاخر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم – أو ينافح- ، ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم “إن الله يؤيد حسان بروح القدس ما نافح – أو ما فاخر” عن رسول الله لى الله عليه وسلم. وكذلك ما أخرجه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال:- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ” أصدق كلمة قالها شاعر “كلمة لبيد “ألا كل شيء ما خلا الله باطل”. وفي رواية قال “أشعر كلمة تكلمت بها العرب” كلمة لبيد “الا كل شيء ما خلا الله باطل”.وباستقراء التجربة الشعرية شكلا وموضوعا نجد أن مصادرها قد انحصرت عبر عصورها الأدبية بما فيها عصرنا في (1) وقائع الزمان بما تشتمل عليه من أفراح وأحزان و(2) تجارب الشعراء الشخصية و(3) أصول العقيدة الإسلامية و(|4) روافد التراث العربي و(5) تأثيرات البيئة و(6) الإنفتاح على ثقافات الأمم الحية عبر العصور.وقواعد الثابت في التجربة الشعرية هي القافية والمعنى واللفظ. وقواعد المتغير في التجربة نفسها هي التجديد والتكيف. وما بين هذه القواعد وتلك توجد أجواء لا يمكن أن تعيش التجربة الشعرية بدونها، ومن أهمها الموسيقى والخيال والدفء والمبالغة والإيحاءات والبلاغة والإثارة.والوزن، باعتباره أحد قواعد الثابت، عبارة عن كلمات ذات حركات وسكنات متتابعة على وضع معروف يمكن بواسطتها تحديد كل بحر من بحور الشعر المعتبرة. وينتظم الوزن علم مستقل بذاته هو علم العروض. وواضع هذا العلم الخليل بن أحمد الفراهيدي. وعرف محبروا الشعر العربي أصول هذا العلم عن طريق الممارسة الشعرية وذلك قبل أن يكتشف الفراهيدي هذه الأصول عن طريق الإستقراء وذلك بالنظر لما فطر عليه العرب من قوة السليقة والبديهة والموهبة والإستعداد الفطري وصفاء القريحة وملاءمة البيئة العربية للخيال وقدرة اللغة العربية على العطاء الفني باعتبارها لغة شاعرة. يقول ابن رشيق “والمطبوع مستغن بطبعه عن معرفة الأوزان وأسمائها وعللها لنبو ذوقة عن المواحف والمستكره”.(1) والقافية قاعدة أخرى من قواعد الثابت وهي عبارة عن دوي واحد ذي جرس متكرر في نهايات كل بيت. وسميت القافية بهذا الإسم لأنها، كما يقول ابن رشيق، تقفو إثر كل بيت.(2) وأجمع محبروا ونقاد ومتذوقوا الشعر العربي على تعريف الشعر بأنه هو “الكلام الموزون المقفى”. ويقول عبدالله الطيب إن هذا التعريف ارتضاه الذوق العربي. ويرد على من قد يقول بأنه تعريف تحكمي بأنه ليس كذلك “ولكنه مذهب وأسلوب تفرد به ذوق العرب، وقد استوحوه من بيئتهم وسجية لغتهم ذلك أنهم كانوا أول أمرهم قوما بدوا لا يحسنون من الصناعات كبير شيء، وكانت لغتهم في صناعاتهم فأقبلوا عليها كل الإقبال، وافتتنوا في صوغها أشد الإفتننان، وجعلوا شعرها ذروة تجتمع عندها غايات ما يستطيعون من المملكة والإتقان والأبداع”.(3) واللفظ والمعنى عليهما المدار في تقويم صحة أو فساد التجربة الشعرية. وبمقدار ما يكون اللفظ جزلا سهلا جميلا والمعنى لطيفا صحيحا يكون بناء القصيدة مستقيما متقنا محكما. وبمقدار ما يحصل من اختلال بين اللفظ والمعنى كما لو كان اللفظ مستهجنا مبتذلا والمعنى قويا رائعا أو العكس يكون بناء القصيدة مفككا ركيكا مضطرب التكوين ومفرغا من الروح وذلك حتى — وهنا بيت القصيد — لو قام هذا البناء على قواعد الثابت الأخرى وهي الوزن والقافية. وللبعض، مع هذا آراء متباينة في خصوص اللفظ والمعنى حيث يوجد من آثر اللفظ على المعنى أو العكس.(4) والقدر المتيقن في مجال التجربة الشعرية هو أن للفظ الجميل الرصين المتين والمعنى القوي الصحيح الهادف الأثر الحاسم في تماسك بنية القصيدة، وفي إبراز وحدتها المعنوية، وفي جعلها، في كل الأحوال وحسب الغرض الذي وضعت له، قادرة على إثارة المشاعر وتحريك الطباع وهز النفوس وتبليغ الرسالة.قواعد الثابت في التجربة الشعرية معالم بارزة في بنية القصيدة العربية. وكان ولا يزال للمناج الشعرية المحبرة وفقا لتلك القواعد الأصداء الخالدة في وجدان وروح الإنسان العربي عبر العصور. وهذه النماذج قد أثبتت قدرة التجربة الشعرية على استيعاب كل طموحات أي شاعر عربي مطبوع مهما كانت قدراته الشعرية كالمتنبي وشوقي. ولقد كان من شأن الإلتزام بقواعد الثابت إعتبار التجربة الشعرية ذات خصوصيات معينة دفعت ابن خلدون ليقول عنها في مقدمته “وأعلم أن من الشعر من بين الكلام كان شريفا عند العرب ولذلك جعلوه ديوان علومهم وحكمهم وكانت ملكته مستحكمة فيهم شأن الملكات الأخرى” وأنه أي الشعر في لسان العرب “غريب النزعة عزيز المنحى”(5) والثابت في التجربة الشعرية العربية هو علم قائم بذاته وقادر على الصمود ضد: تيارات الأعاصير الوقتية، ورياح المذاهب والتخيلات التي تظهر على السطح ثم تختفي، وتأثيرات توالي الملوين وذلك منذ أن وضع الخليل بن أحمد قواعد هذا العلم الذي بسببه اكتسبت التجربة الشعرية العربية أصالتها. وهي أصالة يجب الحرص على توضيح معالمها وآفاقها في إطار من الموضوعية التامة.والثابت في التجربة العرية العربية هو شريان حياة هذا الشعر على مر العصور وتوالي الملوين. بل وبسبب هذا الثابت الذي كان قادرا على التكيف مع كل المستجدات على المستويات الشخصية والموضوعية والتاريخية تمكن الشعر العربي أن يصمد في شموخ وتألق. وأكثر من ذلك كان الثابت قادرا كذلك على استيعاب كل أغراض الشعر. وهي أغراض تلاءمت مع أفاق القدرات الشاعرية للشاعر العربي المطبوع. وبل وكانت كافية لتحقيق آماله وطموحاته.والمتغير في التجربة الشعرية العربية بما يحتويه من مقومات هو المعيار الذي بمقتضاه يمكن التفريق بين شاعر فحل آخر . ولكن هناك في مجال العمل الشعري الذي طرقاه فوارق بينهما لا تحصى. وتندرج هذه الفوارق في “المتغير” الذي صال وجال فيه كلاهما ولكن على مستويات ذات فروق متفاوتة. وهو متغير لعب فارق العصر وتقلباته أثره الواضح فيه. وهنا بيت القصيد حينما نتحدث عن دور المتغير في العملية أو التجربة الشعرية. وهو دور تلعب فيه كذلك قدرات الشاعر وأصالة خواطره وأحاسيسه في مجال استخدام اللغة، ومدى إنفتاحه على ثقافات الأمم الأخرى دون أن يغرق فيها أو تستوعبه، وكذلك فيما يحس به من ألم ولذة في مجال الخاطرة الشعرية التي كرس وقته وجهده وقت تحبيرها من أجل إبرازها في وضع خارجي متألق يسمح لمحبي الإبجاع الشعري تذوقها، ناهيك عن رواته ونقاده.ان المتغير في التجربة الشعرية العربية شأن عظيم من الصعب الإحاطة به أو تقصي شموليته. وهذا هو موطن الاعجاز في إبداعه.المتغير في التجربة الشعرية العربية عالم لاحدود له. وهو عالم ثر ومعطاء.وفي مجال الثابت والتغير في التجربة الشعرية العربية يقول الشاعر محمد بن عبدالله بن حمد آلملحم:
انما الشعر لو علمتم شعور ….. جاء فينا فصنفوه صنوفانظموه عقود در فحلوا ….. للعذارى نحورها والكفوفاوجلوه للناس روضا أريضا …… منه يجنون ما أرادوا قطوفاهو خير مما تقولون عنه …… مرة “مرسلا” و”حرا” شريفافلماذا ضرب من النثر يدعى ….. بقريض ان سطروه صفوفاهو نوع من الكلام هجين ….. وحروف قد ألفت تأليفاليس شعرا وليس نثرا ولكن …… ظل في هامش الكلام حروفا
——-هوامش :——-(1) ابن رشيق: العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده، الجزء الأول/ ص/134، ط/4، تحقيق محمد محي الدين عبدالحميد، دار الجيل للنشر والتوزيع، بيروت، لبنان/1972م.(2) المرجع السابق، ص/154.(3) عبدالله الطيب، المرشد الى فهم أشعار العرب وصناعتها، الجزء الثالث، ص/808، ط/1، بيروت، لبنان، بواسطة الدار السودانية بالخرطوم.(4) راجع الهامش رقم (1) سابقا، ص/124-128هـ.(5) مقدمة ابن خلدون، الفصل السادس والاربعين، ص/569-570، مطبعة مصطفى محمد حامد، المكتبة التجارية بشارع محمد علي بمصر.
الناشر: جريدة اليوم
– العدد:7004
تاريخ النشر: 18/08/1992م