وظلت “القصيدة الدُّريدية” من روائع الشعر العربي عبرعصوره لتأثيرها الحيوي المتجدد ومصداقية الأحاسيس التي عبَّرت عنها، وكذلك قدرتها على استيعاب أحوال الحياة والأشخاص والأشياء المحيطة بها .هناك من شرح مفرداتها.وهناك من حبَّر على نمطها.وهناك من خَمَّسها.وهناك من عارضها.وهناك من وشَّحها.وهناك من حقَّقها.وهناك من أعربها.بل وهناك من ترجمها إلى لغات أجنبية.تضمَّنت القصيدة تاريخاً، وبلاغةً، وأخلاقاً، وحكماً، وأمثالاً، وشئوناً دينيةً. وعلى سبيل المثال ذكر “ابن دريد” أسماء شخصيات عربية كان لهم شأن كبير في تاريخ العرب أمثال “امرئ القيس”، و”أبي الجبر” و”ابن الأشج”، و”جذيمة الأبرش”، و”يزيد بن المهلب بن أبي صفرة”، و”الزباء”، و”عمرو بن عدي اللَّخمي”، و”سيف بن ذي يزن الحِميري” وغيرهم. وهو إذ يذكرهم كان يشير في اقتضاب شديد إلى أهم ما تميزوا به أو ما قاموا به من أعمال.عن “امرئ القيس” يقول “ابن دريد”:ـ
إِنَّ “امْرُأُ الْقَيْسِ” جَرَى إِلَى مَدىً …… فَاعْتَاقَهُ حِمَامُهُ دُونَ الْمَدَى
ويعكس هذا البيت ما عُرِفَ به “الملك الضليل” من محاولة الحصول على الملك أو ملاقاة الردى، لا غيرهما. يقول “أمرؤ القيس” لصاحبه عن نفسه:ـ
بَكَى صَاحِبِي لَمَّا رَأَى الدَّرْبَ دَونَهُ ….. وَأَيْقَـنَ أَنَّـا لاَحِقِيْنَ بِقَيْصَـرَافَقُلْتُ لَهُ لاَ تَبْكِ عَيْنُكَ إِنَّمَـــا ….. نُحَاوِلُ مُلْكَاً أَوْ نَمُوتَ فَنُعْـذَرَا
وتروِي كتب التراث قصة “امرئ القيس”. وفيها شموخ وعظمة. وخلاصتها أن “حُجْراً” طرد ابنه “أمرئ القيس” لأنه كان يتعاطى الشعر، ويتشبب بالنساء، ويجالس صعاليك العرب. وكان “حُجْرُ” ملكاً على “بني أسد” يسومهم سوء العذاب فقتلوه، وبلغ “أمرئ القيس” خبر قتل أبيه في وقت كان يعاقر الخمرة مع نديمه. انزعج “أمرؤ القيس” من الخبر، فنطق بعبارة خلَّدها التاريخ، وكان فحواها:ـ ضيَّعني [أبي] صغيراً، وحمَّلني دعه كبيرا. لا صحو اليوم، ولا سكر غدا. “اليوم خمر، وغداً أمر”. وانطلق ليدرك ثأر أبيه حتى مات.ويقول “ابن دريد” عن “ابن الأشج”:ـ
وَ”ابْنُ الأَشَجِّّ” الْقَيْلُ سَاقَ نَفْسَهُ ….. إِلَى الرَّدى حِذَار إِشْمات الْعِدَى
و”الأشج” أحد الحكام العرب في العهد الأموي، حاول ملكاً ولكنه فشل، وبعد فشله ساق نفسه إلى الردى أي انتحر!لم يذكر “ابن دريد” أفعال هذا الحاكم، أو انتصاراته، أو خروجه على طاعة ولي الأمر. أشار “ابن دريد” إلى نهايته فقط، ألاَ وهي انتحاره، وذاكراً أن سبب الانتحار وهو “حِذار إشمات العدى”. وخلاصة قصة “ابن الأشج” [واسمه “عبدالرحمن بن الأشعث] أن “الحجاج بن يوسف” والي العراق قد عينه حاكماً على “سجستان” وما حولها في وسط “آسيا”، فحقَّق انتصارات على إثر نشوتها شق عصا الطاعة، فنصَّب نفسه حاكماً مستقلاَ، وقطـع صلته بكل من “والي العراق” والخليفة “عبدالملك بن مروان” في دمشق. حاربه “الحجاج” بأمر من “الخليفة”، وانتصر “الحجاج” عليه. وحاول “ابن الأشج” الاستغاثة بأحد الحكام “بالهند” فلم يُجب إلى طلبه، وَأُسِرَ، ومن ثم انتهى الأمر به أن قرر إنهاء حياته بنفسه إذ اعتلى سطح قصر وهو أسير فالقى نفسه منه فمات على الفور.أما عن “جُذيمة الأبرش” فيقول “ابن دريد”:ـ
وَاخْتَرَمَ “الْوَضَّاحَ” مِنْ دُونِ التِي ….. أَمَّلَهَا سَيْفُ الْحِمَامِ الْمُنْتَضَى
وبدون شرح أو تفسير أو سبر أغوار تراث العرب من الصعوبة بمكان تفهم المقصود من البيت من الشعر (أي بيت) لو قُرِأَ مجرد قراءة عابرة على استقلال. وهذا البيت من الأمثلة على ذلك.وكما تروِي لنا كتب التراث:ـ الوضاح هو “جُذيمة الأبرش”، وكان ملكاً على بلاد ما وراء النهرين (العراق)، وكان أبو “الزباء” ملكاً على نواحي من جزيرة العرب. وكان “جُذيمة” قد وَتَرَ “الزباء” بقتل أبيها. أضمرت “الزباء” أخذ الثأر في نفسها. وكانت ذات أدب وجمال، وخطبت “الزباءُ” “جُذيمةَ” لنفسها مغرية إياه باتصال ملكه بملكها. تردد “جُذيمة” في الجواب، واستشار من حوله فيما يفعل، فأجابوا بالموافقة إلاَّ “قصير بن سعد اللَّخمي” الذي كان له رأي مخالف. وكان “قصير” عاقلاً حكيماً وذا رأي سديد. فقال للملك:ـ لا تفعل، فإن الخِطبة خديعةٌ ومكر. وقال عن موافقة مستشاريه:ـ رأيٌ فاترٌ وغدرٌ حاضرٌ”. ولما لم يؤخذ برأيه قال:ـ “لا يطاع لقصيرٍ أمر”. وبرغم أن الملك “جُذيمة” لم يستمع لنصيحة “قصير” إلا أن “قصير” ظـل الناصح الأمين لسيده. وسار الملك إلى ديار “الزباء” في موكب فخم. استقبلته رُسُلُ “الزباء” فقال “لقصير” ما رأيك؟ قال: “خطبٌ يسيرٌ في خطبٍ كبير”. ولما رأى “قصير” ما رأى، قال “لِجُذيمة”:ـ أَيُّهَا الملك أَمَّا إذ عصيتني، فإذا رأيت جندها قد أقبلوا إليك، فإن أقبلوا وحيُّوك ثم ركبوا وتقدموا، فقد كذب ظني، وإن رأيتهم إذا حيوك طافوا بك، فإني مُعَرِّضٌ لك “العصا” [وهي فرس كانت “لِجُذيمة” لا تُسْبَقُ [ فاركبْها وانج. فلما أقبل جيشها طافوا به، فقرَّب إليه “قصير” “العصا”، فَشُغِلَ الملك عنها، فركبها “قصير” فنجا، فنظر “جُذيمةُ” “قصيرَ” على “العصا” قد حال دونه السراب، فقال:ـ “ما ضَلَّ من جرت به العصا”. وسار “جُذيمة” وقد أحاطت به الخيل حتى دخل على “الزباء”، فلما رأته قالت:ـ أَشَوَارُ (أي زينة) عروس تَرَى؟ فقال:ـ أم غدرٌ أرى. ثم دعت بالسف والنطع، وقالت:ـ إن دماء الملوك شِفاءٌ من الكلب. فأمرت بطشت من ذهب قد أعدته له وسقته الخمر حتى سكر، ولما أخذت منه الخمر مأخذها، أمرت بِرَاهِشَيْهِ [عرقان في باطن الذراعين] فقطِعا، وقدَّمت إليه الطشت، وكان قد قيل لها احتفظي بدمه، فإن أصاب الأرض قطرة من دمه طُلِبَ بدمه، فلما ضغطت يداه سقطتا، فَقَطَر من دمه شئ خارج الطشت. فقالت:ـ لا تضيعوا دم الملك. فقال جُذيمة:ـ دعوا دماً ضيعه أهله. وهلك “جُذيمة”. وعن “يزيد” يقول “ابن دريد”:ـ
فَقَدْ سَمَا قَبْلِي يَزيدُ طَالِباً ….. شَأْو الْعُلاَ فَمَا وَهَـى وَلاَ وَنَىفَاعْتَرَضَتْ دُونَ الذِي رَامَ وَقَدْ….. جَـدَّ بِـهِ الْجِدُّ اللَّهِيمُ الأَرَبىَ
و”يزيد” هذا هو “يزيد بن المهلب بن أبي صفرة”، سجنه الخليفة “عمر بن عبدالعزيز” لعدم رده مالاً في عهدته. هرب “يزيد” من سجن “عمر”، وحاول تأسيس “أمارة” له إلاَّ أن الخليفة “عمر” قد اتخذ ما يلزم لمواجهته بعد أن عظم أمره واشتدت شوكته في “البصرة” وما حولها. وكان أول عمل قام به الخليفة “يزيد بن عبدالملك” بعد وفاة الخليفة “عمر” مواصلة مقاومة ثورة “يزيد بن المهلب” حتى تمكن من التغلب عليه، وقد قُتِلَ في معركة حاسمة.
المقالة | من أوراقي المبعثرة : وتكفي قصيدة واحدة 1-5
الناشر: جريدة اليوم – العدد:10086
الناشر: جريدة اليوم – العدد:10093
تاريخ النشر: 01/02/2001م
* رئيس دارة الدكتور آل ملحم للتحكيم والاستششارات القانونية