كانت أشبه بالجامعة(1) 

تلقيت دعوة كريمة من سعادة الأستاذ الدكتور “عبدالرحمن بن ابراهيم المديرس” مدير التعليم بمحافظة الأحساء جاء فيها:ـ أنه ابتهاجاً باختيار “الرياض” عاصمة للثقافة العربية لعام 2000م، وانطلاقاً من دور التعليم في دعم الحركة الثقافية والأدبية في المحافظة، ولما عرف عن “معاليكم” من اهتمام بتتبعِ وبحثِ للأحداث التعليمية والتاريخية وخاصة المتعلقة بمحافظة الأحساء، لذا يسرنا دعوتكم لألقاء محاضرة ثقافية عن التعليم في محافظة الأحساء من خلال استعراض ما جاء في كتابكم القيم (كانت أشبه بالجامعة ). من الصعوبة، أيها الأخ العزيز، بمكان تغطية موضوع الدعوة في محاضرة وذلك أن الوقت محدود ولايتسع لاستعراض شامل لمحتويات كتاب تتجاوز صفحاته أكثر من خمسمائة صفحة، وهو كتاب يتضمن بين دفتية قصة ملحمة متكاملة الوشائج والأجزاء عن فترة تاريخية حرجة.. ومع هذا فسوف أحاول تلبية هذه الدعوة في إيجاز. بادئ ذي بدء أود القول أن كتابي “كانت أشبه بالجامعة” مجرد محاولة متواضعة لإنصاف حركة التعليم الحديث في “الأحساء” التي أُهملت كلية من قبل المؤرخين لحركة التعليم الحديث في “المملكة العربية السعودية”. وعلى أبناء الجيل المعاصر من “محافظة الأحساء” وقد تهيأت لهم الوسائل التعليمية أن يعيدوا كتابة ما أهمله التاريخ.وحيث يصعب علي استعراض ما جاء في كتابي في وقت قصير فسوف أكتفي بإرهاصات أولية وفقاً لما يلي:ـيمكن النظر إلى تاريخ التعليم في “الأحساء” وفق المراحل التالية:ـ مرحلة ما قبل استرداد الملك “عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود” “للأحساء” حيث كان التعليم مقتصراً على الجانب الديني ونشر الثقافة التركية. ومرحلة ما بعد استرداد الملك “عبدالعزيز” يرحمه الله “للأحساء” حيث استمر التعليم الديني فيها مع تقلص نشر الثقافة التركية. وكان التعليم الديني فيما قبل وبعد استرداد “الأحساء” في عام 1331هـ في عهدة أسر قليلة أطلق عليها من باب المبالغة “الأسر العلمية”. وظل التعليم الديني منحصراً في نسبة قليلة جداً من السكان. أما الغالبية العظمى منهم فالأمية هي السائدة بينهم. وبعد استرداد “الأحساء” بإثني عشر عاماً بدأت مرحلة بوادر التعليم الحديث في “الأحساء” حينما أنشأ رائد التعليم الحديث الأول “حمد بن محمد النعيم” أول مدرسة للتعليم الحديث” تحت مسمى “مدرسة النجاح”، وآزرت أسرة “آل قصيبي” هذه المدرسة، وحظيت هذه المدرسة كذلك بمؤازرة معنوية حينما زارها الملك “عبدالعزيز” يرحمه الله في عام 1348هـ. وفي هذه المرحلة ظل المسئولون عن التعليم الديني في منآى عن التعليم الحديث. وفي عام 1350هـ قدم إلى “الأحساء” بتوجيه من الحكومة رائدان للتعليم الحديث هما “راغب القباني” و”عبدالجليل الأزهري” فأنشئَا “مدرسة للتعليم الحديث” في شارع الخباز المعروف في مدينة الهفوف القديمة. وأصيبت المدرسة بانتكاسة من طبيعة مأساوية بفعل بعض أهالي “الأحساء”. وفي عام 1356هـ قدم إلى “الأحساء” “رابع” رائد للتعليم الحديث وهو “محمد علي النحاس”. وهذا الرائد وإن كان من حيث الترتيب “الرابع” إلا أنه بكل المقاييس رمز التعليم الحديث على الإطلاق في “الأحساء” نظراً لما تمتع به من حصافة وكياسة في إرساء قواعد المهمة المكلف بها. وحتى في هذه المرحلة ظل المسئولون عن التعليم الديني بعيدين عن شئون التعليم الحديث. ولما توطدت أركان التعليم الحديث حمل الراية من بعد “النحاس” كل من “عبدالله بن عبدالعزيز الخيال، وعبدالعزيز بن منصور التركي، وعبدالمحسن بن حمد المنقور، ومن بعده الأستاذ عبدالله بن محمد بونهية”، ومن ثم من تلاه من مديرين.ما أسلفت بيانه حقائق تاريخية كلية تحتاج إلى دراسة وتقويم وتأصيل من قبل أبناء الجيل المعاصر في “محافظة الأحساء”. عاصرتُ شخصياً حركة التعليم الحديث في “الأحساء” وهي تتدرج إلى أوج مجدها. وحينما أسرحُ بخيالي عبر نصف قرن تقريباً أجد أن “الحياة” كطرفة عين أو كدقات قلب مهما طالت بها الأيام والسنون.من عاش مائة عام يتساوى تماماً مع من عاش لحظات مع فارق وحيد هو أن “الأول” يتميز عن “الثاني” أنه عاش زمنه، وكلما تقدَّم به الزمن تكوَّن له مخزون في عقله من الذكريات والعبر والتجارب. في إطار هذه الحقيقة أود التنويه أن ذكريات الطفولة والشباب تجول دائماً بخاطري، وتشدني إلى أرض “هجر” “مسقط رأسي” رغم أن الله سبحانه وتعالي هيَّأ لي في مسيرة حياتي ما لم أكن أحلم به. تحقق لي كل ما كنت أتمناه رغم أنني ولدت وشببت عن الطوق في بيت ـ من الناحية المادية ـ فقيراً. أنا مخضرم لأنني أنتمي إلى جيلين: الجيل الماضي والجيل المعاصر. ولي في هذين الجيلين ذكريات عطرة، والذكريات كما يقول شوقي:ـ صدى السنين الحاكي. كانت الأمية متفشية في الجيل الماضي وهو الجيل الذي عاصرته طفلاً وشاباً، وفي الجيل المعاصر تُحْتَضُرُ الأمية، وهذه من نعم الله سبحانه وتعالى. والفضل فيها، بعد الله، يعود لأصحاب الجلالة الملوك: عبدالعزيز وسعود وفيصل وخالد وفهد. كان الذي يكتب بالقلم في الجيل الماضي يسمى [بالكرَّاني]. و[الكرَّاني] كلمة دخيلة على لغة الضاد ولكنها كانت تعادل آنذاك ما يتفاخر به أبناء الجيل المعاصر من ألقاب علمية رفيعة مثل الدكتور أوالعلامة أو المهندس أو الفنان أو [الكمبيوترست].. كان الجيل الماضي ينام بعد صلاة العشاء الأخير في سطوح المنازل في أجواء ناعمة ذات نسيم عليل. أما الجيل المعاصر فيكاد يهجر النوم مستبدلاً عنه بنوم آخر مُسْتَغْرَقاً بما تحتوي عليه فضائيات عالمنا المعاصر من بث أكثرهُ غثٌ.كان الجيل الماضي ممن يسكن بعض أفراده في أطراف “مدينة الهفوف القديمة” تدغدغ آذانه في الهزيع الأخير مــن الليل [إلى جانب أصوات الديكة والأذان الأول والأخير لصلاة الفجر] صوت صبي السانية يتغنى في الحقل بأبيات:ـ
يا زارع المشموم فوق السطوحي ….. لا تزرعه يا شيخ عذبت روحيكل على سطحه يــدور البرادي ….. وانا علـى المحال يسحن فؤاديوكل في سطحـه في حضنه بنيه ….. وانا على المحال يصرصر علـي
أما الجيل المعاصر فلا يعرف السواني إلاَّ في كتب المعاجم وقد استُعيضَ عنها في سكون الليل بأصوات رافعات الماء ذات المحركات الذاتية الدفع المزعجة.كان الجيل الماضي يستخدم “الزرابيل” المصنوعة محلياً وقت الشتاء. أما الجيل المعاصر فلا يعرف “الزرابيل” لأنه استعاض عنها بأحسن ما تنتجه إيطاليا وغيرها من أحذية مصنعة مريحة. كان الجيل الماضي يصنع ما يحتاج إليه، ويأكل ما ينتج بيديه. وتنكَّر الجيل المعاصر لما يصنعه وينتجه الجيل الماضي. أصبح يحب الراحة والدعة ويستخدم ويأكل، وفي تفاخر، ما ينتجه الغير. ولم يتذكَّرْ أن “فقيد البيان” خريج “مدرسة الأحساء الابتدايية” الشاعر الملهم: محمد بن عبدالله بن حمد آل ملحم يقول في قصيدة له:ـ
ومعنى الحضارةِ يكمن في ….. نتاج المواطن لو تفهمون
كان معلم اللغة العربية بالمدرسة الابتدائية في الجيل الماضي مثل الشيخ “عبدالرحمن بن محمد القاضي العدساني” أو الأستاذ “عبداللطيف بن عبدالله بودي” يدرِّس اللغة العربية وبين يديه كتاب “شرح ابن عقيل” في النحو وغيره من أمهات كتب اللغة. ويصعب عليَّ التأكد عمَّا إذا كان معلم اللغة العربية في “المدرسة الابتدائية” في الجيل المعاصر قد قرأ الكتاب المشار إليه، أو على الأقل قد سمع عنه، أو اقتناه في مكتبته ببيته.وكان همُّ معلمِ المدرسة الابتدائية في الجيل الماضي قراءة الكتاب إذا وُفَّر له. أما معلم الجيل المعاصر فلدية من وسائل التسلية ما يصرفه عن القراءة والمطالعة.كانت وسائل التعليم لمعلم المدرسة الابتدائية في الجيل الماضي غير متاحة ورغم هذا فكان مستعداً لبذل ما يملك للحصول عليها. أما المعلم في الجيل المعاصر فكل شئ مهيأ له. ومن الصعوبة القول أنه يحاول الاستفادة من ذلك إلا ما ندر.!!الحديث يطول، والوقت لا يتسع لو تركتُ خيالي يسيح في عالم ذكريات الجيلين: جيل مضى، وجيل نعيشه، وسيترك مكانه لجيل آتٍ.حينما أكون في “مسقط رأسي” “الأحساء”، ولدي متسع من الوقت، أُمضي بعضاً منه ليلاً متجولاً في المرابع القديمة والأماكن الحالمة التي كنت أعهدها بعد ما شببت عن الطوق، منها ما كان موجوداً داخل “مدينة الهفوف القديمة”، ومنها ما هو خارجها في قرى “هجر” التي كانت تحتضن الحقول اليانعة والعيون الثرة الغنية بالماء الصافي الزلال الذي يقول الله سبحانه وتعالى فيه “وجعلنا من الماء كل شئ حي”.مخزون الذكريات يعرِّفني على تاريخ مضى لتلك المرابع والأماكن. وأجد في جولاتي أن المرابع والأماكن التي عهدتها بالأمس قد تغيرت معالمها اليوم، وأصبحت الآن أثراً بعد عين.
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا ….. أنيس ولم يسمر بمكة سامــر
تغيرت هذه المرابع والأماكن كمجسمات ملموسة من حال إلى حال. بعض الحقول أصبحت مبانى، وبعض المبانى تحولت إلى أطلال، والعيون المتدفقة أصبحت قاعاً صفصفاً، والخندق العريض العميق حول “حي الكوت” تحوَّل إلى أسواق عامرة. كل هذا حدث ويحدث أمام ناظري في زمن قياسي لا يتجاوز أربعة عقود من الزمن أو نصف قرن. كل هذه التحولات أمام ناظري باعتباري إنساناً مخضرماً عاصر جيلين. والسؤال الذي دائماً ما أطرحه على نفسي محاولاً الحصول من نفسي لنفسي عن إجابة شافية شاملة له هو ما يلي:ـ أيهما أفضل، من حيث راحة البال، أحوال الجيل الماضي أم أحوال الجيل الحاضر؟ هذا السؤال الذي أطرحه ليس بالجديد. هو سؤال على كل لسان. وتحتار في الإجابة عليه العقول والأذهان. ولا يتسع الوقت لتقديم الإجابة الشافية عليه.كل ما تحدثتُ عنه من تصورات وتأملات كانت ولاتزال لها انعكاسات على ما استهدفته حينما قررت تأليف كتاب “كانت أشبه بالجامعة”. وكان تأليف الكتاب مجرد فكرة عالقة في ذهني منذ ذلك الوقت. وشرحتُ في الكتاب أسباب تبلور تلك الفكرة التي كانت تراود ذهني. ومن الملائم للتذكير أن من أهمهما زيارة الأستاذ “عبدالله عريف” رئيس تحرير جريدة “البلاد السعودية” للأحساء، وما ترتب على هذه الزيارة من شحذ همتي للشروع في وضع تصور للكتاب.


كانت أشبه بالجامعة(1)
الناشر: جريدة اليوم

– العدد: 10044

تاريخ النشر: 14/12/2000م

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.