وتكفي قصيدة واحدة …(4)

وكما سبق أن ذكرت في حلقة سابقة وجه ابن الوردي لاميته إلى ابنه دون أن يسميه فيها. وبقصيدة ابن الوردي حكم ومواعظ وسياسة وكياسة وآداب. وفيها أبيات يشكل كل منها ما يمكن أن يسمى بـ القصيدة ذات البيت الواحد. وأعني بذلك أن كل بيت ذو وحدة مستقلة لا يشوبه أي عيب، ولا يعتريه أي ضعف ومن هذه الأبيات قول ابن الوردي:كتب الموت على الخلق فكم …. فل من جمع وأفنى من دول
وقوله:ليس يخلو المرأ من ضد ولو …. حاول العزلة في رأس جبل
وقوله:إن نصف الناس أعداء لمن …. ولى الأحكام هذا إن عدل
وقوله:غب وزر غبا تزد حبا فمن ….. أكثر الترداد أضناه المللوقوله:خذ بنصل السيف واترك غمده …. واعتبر فضل الفتى دون الحلل
وقوله:لا يضر الفضل اقلال كما ….. لا يضر الشمس إطباق الطف
وقوله:حبك الأوطان عجز ظاهر ….. فاغترب تلق من الأهل البدلفبمكث الماء يبقى آسنا ….. وسرى البدر به البدر اكتمل
حظيت لآمية ابن الوردي بشهرة ربما تفوق الشهرة التي حصلت عليها لامية العرب للشنفري وقام البعض من الأدباء بشرحها على غرار شرح لامية العرب كما خمسها البعض الآخر والغريب في الأمر ما ادعاه خير الدين الزركلي حينما تعرض لسيرة ابن الوردي الذاتية من اللامية تنسب لابن الوردي حيث لم تكن بديوانه فأضيفت إلى المطبوع منه، وما ذكره محقق ديوان ابن الوردي نفسه من أن لامية ابن الوردي لم توجد في ديوانه وأنها تنسب إليه وبما أن ابن الوردي من كتاب فن المقامات، وبما أن من هذه المقامات المقامة الأنطاكية والمقامة المنبجية والمقامة الشهدية والمقامة الصوفية ففي المقامة الأخيرة ما يؤيد أن اللامية من تحبير ابن الوردي وإن لم ترد بديوانه المخطوط بدليل أن هذه المقامة قد تضمنت لامية أخرى على غرار لامية اعتزل ذكرى الأغاني والغزل ومن نفس بحرها وقافيتها وإن كانت أقل منها أبياتا وضمن ابن الوردي اللامية الثانية أبياتا من نفس اللامية الأولى. كما ضمن اللامية الثانية مواعظ وحكم لدرجة يكاد يظن أنها جزء من الأولى، وعلى الرغم من تشابه اللاميتين إلا أن الثانية لم تحظ بنفس الشهرة التي حظيت بها اللامية الأولى جاء في مطلع اللامية الثانية التي أثنى فيها الشاعر على التصوف والمتصوفين:ذهب الصدق وإخلاص العمل ….. ما بقيء إلا رياء وكسللو تقنعت أتى رزقي على ….. رغمه لكن خلقنا من عجل
ومن الأبيات التي أخذها ابن الوردي من اللامية الأولى ليضمنها اللامية الثانية البيت التالي:
ليس يخلو المرأ من ضد ولو ….. حاول العزلة في رأس جبل
ومن أبيات الحكم التي وردت باللامية الثانية البيت التالي:
لا أرى الدنيا وإن طابت لمن ….. ذاقها إلا كسم من عسل
ولابن الوردي ديوان شعر. ويتكون معظمه من مقطوعات شعرية تتخللها قصائد طويلة. وفي شعره الغث والسمين والجزيل والمبتذل وكثيرا ما اقتبس ابن الوردي من أشعار المعري والمتنبي وأبو تمام وغيرهم من الشعراء الفحول. يكثر في شعره من المحسنات البديعية كالتورية والطباق والجناس والسجع وفي شعره وصف للجمال حسا ومعنى وغزل وعشق. ومجموع شعره صورة لأنماط الشعر في عصره الذي يتميز بصفة عامة بنفس الصفات التي يتميز بها شعره. وهو شاعر مكثر وأشعاره لا تصل من حيث القيم ومن الناحية الفنية إلى مستوى اللامية التي اكتسب بسببها شهرة فائقة ومن قصائد ابن الوردي الطويلة مرثيته في الفقيه العلامة ابن تيمية الذي توفاه الله مسجونا بقلعة دمشق عام 728 هـ. ومن أبيات هذه المرثية:
عثا في عرضه قوم سلاط …. لهم من نثر جوهره التقاطتقي الدين أحمد خير حبر …. خروق المفصلات به تخاطتوفى وهو محبوس فريد …. وليس له إلى الدنيا انبساطقضى نحبا وليس له قرين …. ولا لنظيره لف القماطفريدا في ندى كف وعلم …. وحل المشكلات به يناطفيا لله ماذا ضم لحد ….. ويا لله ما غطى البساطهم حسدوه لما لم ينالوا ….. مناقبه فقد مكروا وشاطواوكانوا عن طرائقه كسالى ….. ولكن في أذاه لهم نشاطبنو تيمية كانوا فباتوا …. نجوم العلم أدركها انهباطولكن يا ندامة حاسديه ….. فشك الشرك كان به يماطويا فرح اليهود بما فعلتم ….. فإن الضد يعجبه الخباطألم يك فيكم رجل رشيد ….. يرى سجن الإام فيستشاطإمام لا ولاية كان يرجو ….. ولا وقف عليه ولا رباطولا جاراكم في كسب مال ….. ولم يعهد له بكم اختلاطوسجن الشيخ لا يرضاه مثلي ….. ففيه لقدر مثلكم انحطاطأما والله لولا كتم سري ….. وخوف الشر لا نحل الرباطوكنت أقول ما عندي ولكن …. بأهل العلم ما حسن اشتطاطفما أحد إلى الإنصاف يدعو ….. وكل في هواه له انخراطسيظهر قصدكم يا حابسيه ….. ونيتكم إذا نصب الصراط
ومدح ابن الوردي الطنبغا الحاجب الناصري والي حلب بالنيابة الذي فتح في عام 715 هـ قلعة النقبر بحلب وخلصها من الأرمن والفرنجة في قصيدة اقتبس شطرها الثاني من قصيدة للمعري ومن أبيات هذه القصيدة:
هنيئا بعودي من جهاد مبارك ….. على الناس بالجنات كاف وكافلإذا حل مولانا بأرض يحلها ….. عفاف واقدام وحزم ونائلوإن لاح في القرطاس أسود خطه ….. يقول الدجى يا صبح لونك حائللأقلامك السمر العوالي تواضعت ….. وهابتك في أغمادهن المناصلنزلتم على الحصن المنيع جنابه ….. فليس تبالي من تغول الغوائلنصبتم عليه للحصار حبائلا ….. كما نصبت للفرقدين الحبائلفزلزلتموه خيفة ومهابة ….. فأثقل رضوى دون ما هو حاملرميتم حجار المنجنيق عليهم ….. ففاخرت الشهب الحصى والجنادلحجارة سجيل لها البدر خائف ….. على نفسه والنجم في الغرب مائلوفل قتال المشركين سيوفكم ….. فما السيف إلا غمده والحمائلبغى فبغى الطنبغا الفتح منشدا ….. ويا نفس جدي إذ دهرك هازلفأنشده الحصن المنيع ملكتني ….. ولو أنني فوق السماكين نازلوقصر طولي عندكم حسن صبركم ….. وعند التناهي يقصر المتطاول


الناشر: جريدة اليوم

– العدد: 7287

تاريخ النشر: 28/05/1993م

وتكفي قصيدة واحدة …(3)

ولإبن الوردي مؤلفات في النحو والتصوف وتفسير الأحلام والأدب والفقه الشافعي، وسرد أسماء هذه المؤلفات خير الدين الزركلي. كما سرد بعض أسماء هذه المؤلفات (مع بعض الأختلاف عما أورده الزركلي) صاحب كتاب فوات الوفيات. وفي ديوانه سرد كامل لمعظم أسماء مؤلفاته التي تجاوزت الخمسة عشرة مؤلفا. ومن هذه المؤلفات: نظم البهجة الوردية في ثلاثة وستين وخمسة آلاف بيت. وضوء الدرة على ألفية ابن معطي وشرح الألفية لابن مالك واختصار ألفية ابن مالك والرسائل المهذبة في المسائل الملقبة وقصيدة اللباب في علم الإعراب وشرحها وتذكرة الغريب في النحو وتتمة المختصر في أخبار البشر وأرجوزة في تعبير المنامات وأرجوزة في خواص الأحجار ومنطق الطير في التصوف والمسائل الملقبة في الفرائض والنفحة وهي اختصار ملحة الإعراب وتحرير الخصاصة في تيسير الخلاصة وخريدة العجائب في فريدة الغرائب.واعتبر محقق ديوان ابن الوردي أن الخريدة من مؤلفات ابن الوردي. ولم يشر صاحب كتاب فوات الوفيات إلى كتاب الخريدة عند ذكره لمؤلفات ابن الوردي. وشكك خير الدين الزركلي في نسة الخريدة إلى ابن الوردي.وافتخر ابن الوردي بمؤلفاته. وكانت مناسبة ذلك رسالة وصلته من القاضي الشاعر والأديب صلاح الدين خليل بن أيبك الصفدي الذي طلب في رسالته الحصول على شهادة أي إجازة علمية من ابن الوردي. وضمن الرسالة أبياتا من الشعر منها:
سلام على الحضرة العالية ….. سلام امرىء نفسه عانيةلأن لها رتبة في العلى ….. ذوائبها في السما ساميةأيا عمر الوقت أنت الذي ….. كرامته في الورى ساريهويا بحر علم طما بحره ….. فكم جاءنا عنه من راويةونظمت في مذهب الشافعي ….. كتابا غدا حاويا حاويهوزدت مسائله جملة ….. بتحقيق مذهبه وافيهلئن كنت أرسلت هذا القريض ….. فللبحر قد سقته ساقيه
وفي رسالته إلى القاضي الصفدي عدد ابن الوردي بعضا من مؤلفاته التي افتخر بها. وجرت هذه الإجازة على نمط رسائله وإجازاته التي تعرضت لخصائصا فيما سبق ومنها، على سبيل المثال استعمل المصطلحات النحوية وأسلوب السجع وآيات من القرآن الكريم.وبدأ ابن الوردي إجازته للقاضي الصدفي باصطلاحات نحوية وعبارات مسجوعة كما يلي:أما بعد حمد الله جابر الكسر والصلاة على نبيه محمد البشير النذير وعلى آله الذين أعربت أفعالهم فسكن حب أسمائهم في مسكن الضمير وعلى صحبه الذين وجب رفعهم على إبتداء سلم جمعهم من التكسير فـ إني ألقي إلي كتاب كريم يشتمل بعد باسم الله الرحمن الرحيم، على نظم بهي فائق ونثر شهي رائق غرس لي أصولهخليل جليل فامتد على من فروعه ظل ظليل، قرأته فانتصب له قائما على الحال تميزت به على غيري فطبت نفسا بعد الإعتدال وابتهلت بالدعاء لمهديه مخلصا، ولكن أسأت الأدب إذ وازنت جواهر نظمه بالحصى.ولأن القاضي صلاح الدين أيبك الصفدي قد ضمن رسالته أبياتا شعرية وهي التي ذكرتها أعلاه فقد حبر ابن الوردي في إجازته له أبياتا على نفس الوزن والقافية منها:
سلام على نفسك الزاكية …. وشكرا لهمتك العاليهأزهرا أم أزهر أهديتها ….. لعبد مدامعه جاريهكتاب يفوح شذى نشره …. فلي منه رائحة جائيهفمهديه أفديه من سيد ….. أياديه رائقة كافيهرضي بك عن دهره ساخط …. فلا زلت في عيشة راضيهوإني لفي خجل منك إذ ….. أجبتك في الوزن والقافيهفعفوا وصفحا ولا تنتقد ….. ويا بحر مالك والساقيهليهنك أنك عين الزمان ….. فليت على عينه الواقيه

ومن ثم واصل ابن الوردي بنفس الإجازة قوله:ماذا أصف؟ وبأي عبارة أنتصف في إجازة من إذا كتب طرز بالليل رداء نهاره وإذا نثر بالأنجم الزهر بعض نثاره وإذا نظم لم يقنع من البدر إلا بكباره ولم يرض عن المعاني إلا بتدقيق من بين حجريه الثمينين بل أحجاره إن أعرب فويه على سيبويه وإن نحا فهو الخليل غير مكذوب عليه … لا جرم أنا من بحره الحلو نغترف وبالتقاط جواهره التي ألقاها على مفارق طرق البلاغة نغترف فأطعت إذن أمرك طالبا صفحك وسترك وقلت لعمري لقد بادأتني – أعزك الله – بما كنت أنا به أحرى وكلفتني شططا فتلوت ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا وها قد أجزتك متطفلا عليك وأذنت لك متوسلا إليك أن تروي عني ما يجوز لي روايته وإسماعه ليتصل بك فما اتصل بك أمن انقطاعه من منقول ومعقول وفروع وأصول نثر ونظم أدب وعلم وشرح وتأليف وبسط وتصنيف بشرطه المضبوط وضبطه المشروط.ويقول ابن الوردي في نفس الإجازة أو بالأحرى في رسالته عن مؤلفاته ما يلي:فأما مصنفاتي الشاهدة على بقصور الباع ومؤلفاتي المشيرة إلى بقلة الإطلاع فمنها في الفقه البهجة الوردية في نظم الحاوي وفوائد فقهية منظومة ومنها في النحو شرح الخلاصة الألفية في علم العربية لابن مالك ومنها ضوء الدرة على ألفية ابن معطي وقصيدة اللباب في علم الإعراب وشرحها واختصار ملحمة الإعراب وتذكرة الغريب وشرحها ومنه في الفرائض الوسائل المهذبة في المسائل الل=ملقبة ومنها في الشعريات أبكار الأفكار ومنها غير ذلك تتمة المختصر في أخبار البشر ومنها أرجوزة في علم الأحجار والجواهر ومنها درة الأحلام في تفسير المنام ومنها رسالة منطق الطير نثرا ونظما في أدب صوفي وما لا يحضرني الآن ذكره وكان الأولى بي ستره أجزتك أيدك الله أن تروي عني الجميع بأفضالك ورواية ما أدونه وأجمعه بعد ذلك حسبما اقترحه خاطرك العزيز واستوجبت به مدحي فأنا المادح وأنا المجيز.ولابن الوردي في مجال المفاخرة والمناظرة التي كان استعمالها شائع في عصره مناظرة سماها رسالة السيف والقلم وهي مفاخرة جميلة التزمت منطق الحوار الجاد والمفيد حيث ابان بها كل من القلم والسيف فوائدهما ومنافعهما ودروهما في حياة الإنسان والدول مع محاولة كل منهما إبراز ما يتفوق به على الآخر في الدور الذي يقوم به.وعلى الرغم مما لابن الوردي من مؤلفات فربما ظل مغمورا لولا قصيدته التي سبق أن أوردت أبياتا منها في الحلقة الأولى من هذا البحث وتكفي هذه القصيدة التي جعلته في عداد الشعراء المرموقين. جاء في مطلع هذه القصيدة:
اعتزل ذكر الأغاني والغزل …. وقل الفصل وجانب من هزلودع الذكرى لأيام الصبا …. فلأيام الصبا نجم أفلإن أحلى عيشة قضيتها ….. ذهبت لذاتها والإثم حلواترك الغادة لا تحفل بها ….. تمس في عز رفيع وتجلوافتكر في منتهى حسن الذي ….. أنت تهواه تجد أمرا جللواتق الله فتقوى الله ما ….. جاورت قلب امرىء إلا وصلليس من يقطع طرقا بطلا ….. إنما من يتق الله بطلصدق الشرع ولا تركن إلى ….. رجل يرصد بالليل زحل

ولهذه القصيدة مكانة خاصة في نفسي وقد عودت أبنائي على حفظ بعض من أبياتها.


الناشر: جريدة اليوم

– العدد: 7280

تاريخ النشر: 21/05/1993م

 وتكفي قصيدة واحدة …(2) 

ولابن الوردي إلى جانب ديوانه، نثر ونظم وأراجيز في مختلف الفنون والعلوم كالنحو والفقه وخواص الأحجار وبحور الشعر. ويعكس نظمه ونثره صورة الحياة الأدبية في عصره. كما يعكس في الوقت نفسه ملف هذه الحياة الأدبية من ناحية الموضوعات التي تناولها أدباء وعلماء عصره. ومن ناحية إشارته في نثره وشعره إلى رموز الأدب والثقافة في عصره وفي عصور ما قبله. ومن يتأمل شعر ونثر ابن الوردي سواء في مجال المقامات أو في الرسائل الإخوانية أو رسائل الإجازات أو رسائل التهاني والتعازي والمديح والتقريض أو قصائد الغزل يجد أن معظم أعماله تتميز بالخصائص التالية:1- تسجيل أو توثيق أحداث عصره من الناحية الإجتماعية والأدبية سواء من ناحية موضوعاتها أو من ناحية أبطالها. وفي هذا الخصوص اعتاد ابن الوردي أن يشير في نثره ونظمه إلى رموز الحركة الأدبية والدينية المعاصرين له وإلى مؤلفاتهم. وكذلك إلى من سبقوه وإلى مؤلفاتهم وذلك في مجال الشعر والفقه والنحو واللغة.2- ضمن نثره وشعره آيات من القرآن الكريم وعلوم أخرى على رأسها الفقه والنحو والعروض والتاريخ. وكان أسلوبه في هذا الخصوص يقتصر على استخدام مصطلحات هذه العلوم في تصنيع وتكلف ظاهرين للعيان. وغرضه من هذا الإستخدام إبراز مدى هيمنته وتمكنه من هذه العلوم، ومثل هذا الإستخدام ظاهرة عامة في عصره.3- استعمال الأساليب البلاغية والمحسنات اللفظية ذات الطبيعة الإصطناعية وبما تمثله من ركاكة في التعبير أحيانا ومن غموض في التعبير أحيانا أخرى.4- استخدام السجع بكثرة لدرجة أصبحت فيها مظاهر التكلف والتعسف ظاهرة للعيان.5- أظهر ابن الوردي مدى إعجابه بشعراء عمالقة سابقين عليه مثل المتنبي والمعري وأبوتمام والنابغة الذبياني. وتجلى هذا الإعجاب في الإقتباس من شعرهم في نثره وشعره.ولوضع هذه الخصائص في إطارها الصحيح لابد من ذكر نماذج لها من نثر وشعر هذا العالم.اعتاد ابن الوردي منح إجازات (أي شهادات) علمية لمن يتعلم على يديه، أو لمن يقرأ على يديه أحد مؤلفاته، أو مؤلفات أحد العلماء في عصره أو قبل عصره. ومن نماذج هذه الإجازات “الإجازة” المذكور نصها أدناه، وهي “الإجازة” الممنوحة لأحد طلبته الممدعو “تقي الدين أبو بكر” الذي قرأ على يديه الكتاب الموسوم بـ “البهجة الوردية في نظم الحاوي” في فقه الشافعية. ومن خصائص هذه الإجازة التي حررها ابن الوردي ما يلي:-استخدام اسلوب السجع بها، وادخال عبارات بها لا معنى لها ولا لزوم وتضمينها مصطلحات فقهية مصطنعة وكذلك أسماء كتب فقهية مع الإشارة إلى حديث نبوي.ومن المصطلحات الفقهية التي ذكرها: كتاب الطهارة، باب المياه، إحياء الموات، باب الرد بالعيب، زكاة المعدن والنبات، خيار المجلس، الإستسقاء، المفلس، الوصايا، فرائض العبادات، الجرح في الشهادات، الصلاة، الجنيات، العتق، العفو من القصاص. ومن كتب الفقه: كتاب البهجة الوردية في نظم كتاب الحاوي، والحاوي هو كتاب الحاوي الصغير في الفقه الشافعي من تأليف نجم الدين عبدالغفار بن عبدالكريم القزويني المتوفي عام 665 هـ. وكتاب الأم للشافعي. أما الحديث الذي أشار إليه ابن الوردي في هذه الإجازة فهو ما ورد في مسند الإمام أحمد بن حنبل قال: حدثنا حسين الأشقر، حدثنا أبو كدية عن عطاء عن أبي الضحى عن ابن عباس قال: أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم وليس في العسكر ماء، فأتاه رجل فقال: يارسول الله ليس في العسكر ماء، قال: هل عندك شيء؟ قال: نعم: قال:فأتني به، قال: فأتاه بناء فيه شيء من ماء قليل، قال: فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابعه في فم الإناء، وفتح أصابعيه، قال: فانفجرت من بين أصابعه عيون وأمر بلالا فقال: ناد في الناس: الوضوء المبارك.ويقرأ نص هذه الإجازة كما يلي:أما بعد حمد الله الذي زاد أهل العلم شرفا ورقيا، وجعلهم خلف السلف فحبذا سلفا وخلفا تقيا، والصلاة على نبيه محمد الذي جعل في حربه وسلمه الموت والحياة، وسجل لعترته المنيفة “كتاب الطهارة” و”أنبع من أصابعه الشريفة” “باب المياه” وعلى آله الذين فتح لهم باب الولاء “لإحياء الموات” وأغلق عنهم باب الرد بالعيب لما زكا معدنهم وطاب نباتهم فهذه زكاة المعدن والنبات وهي صحبة المعدودين من خيار المجلس المقصودين للإستسقاء وصرف القبض عن المفلس وعلى تابعيهم الذين عقلوا الوصايا وأدوا فرائض العبادات وحسنت منهم السير فنزه تعديلهم عن الجرح في الشهادات صلاة تعقب الجنايات بالمسابقة إلى جنة وحرير وتوجب القضاء بالعتق والعفو من القصاص وحسن التدبير فقد قرأ على المولى تقي الدين أبو بكر أمده الله بالرفعة والرقي ونفع به الناس فما أحوجهم إلى التقي من كتابي البهجة مواضع متفرقة، بتدبير حسن وعبارة مطلقة وتفهم للدقائق ووقوف على الأسرار والحقائق وبحث عن غوامض ومهمات وتنبه لفوائد وتتمات آذن ذلك منه بذهن وقاد وفكر صحيح منقاد زاد به البهجة بهجة وكم أبدى من بنت فكر تعتضد من الأم بإملاء الحجة منها والله تعالى يضاعف علو قدره ويجمل نظراءه ببقائه فقد سبقهم أبو بكر بشيء وقر في صدره.ولابن الوردي جواب على رسالة وصلته من صديق وفيها يمدح صقرين من الصقور. سمى ابن الوردي نفسه في هذه الرسالة بـ “المملوك” كما هي عادته في معظم رسائله. وضمن هذه الرسالة أبياتا من القرآن الكريم هي:- قال تعالى “إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب”- وقال تعالى “وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه”كما استخدم بنفس الرسالة مصطلحات نحوية بتكلف ظاهر. والغرض من ذلك إظهار تمكنه من علم النحو ومن هذه المصطلحات: المنصوب والرفع والخفض والكسر كما أشار إلى تشبيهات ابن المعتز الذي تولى الخلافة ليوم واحد وهو أديب وشاعر ويقرأ نص الرسالة (المملوءة بالتشبيهات والتورية والكنايات ) كما يلي:”وينهي وصول الصقرين، فسر العبد بهذين الحرين اللذين تحن الجوارح إليهما من وجهين ويعز على “ابن المعتز” أن يذكر لهما في تشبيهاته شبيهين. فوقع الصقرات من المملوك بموقع يفوق النسر. وتأمل نحوهما فإذا هما “منصوبات” لبناء ما ارتفع وانخفض من الصيدد على الكسر مقلهما حمر كسيوفه. وأجنحتهما مسبلة كغمائم بره على رعاياه وضيوفه. ومخالبهما كالمناجل لحصاد أعمار أعدائه وأعمار الطير. ومناقيرهما كالأهلة المبشرة له ولأوليائه بكل خير. فلسان حال كل منهما يقول لمرسليه تفرقوا فكسبي أجمعكم أجمعكم، ويخطف لهم الخطفة، ويعود بسرعة فبينما يتطيرون بغيبته “وقالوا طائركم معكم”. فما أحسن ما يرجع كل واحد منهما من افقه، وقد التزم طائره في عنقه كم ذللا من الطير من حرون، وكم أهلكا في الوحش من قرون فما أحق هذا الجبر بمقابلة الثناء عليه وأن يمد المملوك لهاتين اليدين كلتا يديه ومن كرامات مولانا أن أصبح جابر الكاسرين فمرحبا برسوله الذي إن قدم رسول بأيمن طائر فقد قدم هو بأيمن الطائرين، والسلام.”ولابن الوردي في رسالة شعرية ونثرية عرف فيها نفسه بـ المملوك كعادته وبنثر الرسالة سجع وبه ازدواج ووجه ابن الوردي الرسالة إلى قاض القضاة بحلب، وضمنها أبياتا من شعر المتنبي والنابغة الذبياني وامريء القيس ومصطلحات عروضية مثل البسيط ونحوية مثل المعرب والمبني وعلم والتنكير والتعريف وكتب فقهية في مذهب الإمام الشافعي ككتاب الشامل في فروع الشافعية للصباغ المتوي عام 477 هـ، وكتب أدبية وتاريخية ونحوية ككتاب نهاية الإرب في فنون الأدب” للنويري، وكتاب البيان والتبيين للجاحظ وكتاب المقرب في النحو للمبرد وآيات قرآنية.ومن أبيات الرسالة الشعرية والنثرية:
سلام كنشر الروض باكرة الحيا …. وألطف من مر النسيم وأطيبعلى أريحي مذ سمعت بذكره ….. أغالب فيه الشوق والشوق أغلبعظيم الندى كهف الردى غائظ العدى ….. إمام الهدى نائي المدى متقرببسيط الندى حاوي النهاية شامل ….. بإيضاحه معنى البيان مقربوإن له في تركه الحكم راحة ….. ولكن قلوب الناس والله تتعبفمن ذا سواه في الورى لا تمله ….. على شعث أي الرجال المهذب
ومن نثر الرسالة الشعرية النثرية:وينهي وصول ابن الأخ مغمورا بإحسانه المعهود ومبرورا من لطفه وعطفه بـ “شاهد ومشهود” مصقورا بثنائه “المعرب” على مبني ظله المحدود مسرورا بتعريف رسمه الذي علمه كما قيل غير محدود … ثم إنه بلغ المملوك التحية التي عجز المملوك عن رد أحسن منها أو مثلها وفهمه لطائف وألطافا كان المملوك متيما من قبلها فواعجبا لأمه كيف ما حملته فـ انتبذت به من أهلها مكانا شرقيا … فلقد ذكر المملوك مفصل جمل من إحسانكم صدق فيها وزكى، وأنشد هو وأمه بلسان السرور قفا نضحك والمملوك ينشد من خجله قفا نبك فلا والله ما في زماننا من يجاريكم ولا في بحار الندى من يباريكم ويا خجل المملوك مما حكاه الحسين من الإحسان إليه وما يضيع أجر المحسنين وإن حصل التقصير في المكافأة عليه، فالله المسؤول أن يعطف قلب مولانا لمعاودة منصبه الشريف ويحلي الشهبا منه بعد مرارة التنكير بآلة التعريف ويعزها بالأحكام الشافعية التي ما أهملت في بلد إلا خيف عليه أن ينكب ولا عطل منها قطر إلا قطرت فيه الدموع بل سكبت وحق لها أن تسكب … ومهما نسي المملوك فلا ينسى ما وصفه ابن الأخ مما شمله من صدقات المقر الأشرف الأعرق الأعرض المولى حقا المتصدق صدقا … الذين زين الله زينة الكواكب سماء مجده …فعلى المولى دام ظله وعلى مولانا لا عدم فضله، تحية أبد الدهر وإلى لقائهما لهفة غدوها شهر ورواحها شهر وعلى من تحوط عنايته من أهل العلم والدين، والمحبين فيه والمتودين سلام يخص الغالية ونفحة هي بالود حاضرة وبالثناء بادية.


الناشر: جريدة اليوم

– العدد: 7273

تاريخ النشر: 14/05/1993م

 

وتكفي قصيدة واحدة …(1)

كاد ابن الوردي، وهو الفقيه والنحوي والأديب والشاعر أن يكون في عالم الثقافة العربية الإسلامية نسيا منسيا لولا قصيدة حبرها لإبنه. ومنذ تحبيرها أصبحت هذه القصيدة، في محيط الشعر العربي، ملء السمع والبصر. ومهما كثر الشاعر، أي شاعر من أشعار من أجل الشهرة فتكفي قصيدة واحدة … إذا كانت جميلة ورائعة ومؤثرة أن تجعله في عداد الشعراء المشهورين.وفي تاريخ الشعر العربي شعراء مقلون إلا أن لهم قصائد مشهورة سارت بها الركبان وبسببها أصبح أصحابها في عداد الخالدين. وفي تاريخ الشعر العربي كذلك شعراء مكثرون إلا أن لهم قصائد مشهورة سارت بها الركبان وبسببها أصبح في عداد الخالدين. وابن الوردي من النمط الثاني وقصيدته هي من روائع الشعر، ويظهر فيها جمال اللفظ وروعة الأسلوب والبساطة وسهولة المعنى وسلامة المبنى ورنين الوزن والقافية. ومنذ حبر ابن الوردي هذه القصيدة وهي محل تقدير الشعراء والعلماء ومحبي الأدب عبر العصور، وكثيرا ما حفظت هذه القصيدة عن ظهر قلب لاسيما من قبل الناشئة نظرا لما بها من توجيهات تربوية ونصائح وحكم وبالنظر لما تمتعت به هذه القصيدة من شهرة فقد سميت بـ “اللامية” ونسبت من باب التوثيق إلى محبرها، وتصدى العديد من الأدباء لشرحها والتعليق عليها. يقول الشاعر في قصيدته مخاطبا ابنه:أي بني اسمع وصايا جمعت …. حكما خصت بها خير المللأطلب العلم ولا تكسل فما …. ابعد الخير على أهل الكسلواحتفل بالفقه في الدين ولا ….. تشتغل عنه بمال أو خولواهجر النوم وحصله فمن …. يعرف المطلوب يحقر ما بذللا تقل قد ذهبت أربابه ….. كل من سار على الدرب وصلفي ازدياد العلم إرغام العدى ….. وجمال العلم إصلاح العملجمل المنطق بالنحو فمن ….. يحرم الإعراب بالنطق اختبلقد يسود المرأ من غير أب …. وبحسن السبك قد ينفى الزغلوكذا الورد من الشوك وما ….. ينبت النرجس إلا من بصلقيمة الإنسان ما يحسنه ….. أكثر الإنسان منه أو أقلبين تبذير وبخل رتبة ….. بلغ المكروه إلا من نقلغب عن النمام واهجره فما ….. بلغ المكروه إلا من نقلدار جار الدار إن جار وإن ….. لم تجد صبرا فما أحلى النقل

فمن هو ابن الوردي؟ وفي أي عصر عاش؟هو عمر بن المظفر بن عمر الوردي المعري الشافعي. ولد في معرة النعمان بسورية عام 689 هـ ونشأ وتعلم الفقه والأدب على أيدي أساتذة له في المعرة وحلب وحماة ودمشق ومصر، وولي القضاء بمنبج وهي مدينة قديمة بشمال حلب. وبعد فترة تر القضاء زاهدا فيه، وله فيه مقطوعات شعرية. وأنصرف بعد ذلك يحترف الأدب والشعر وله فيه جولات وصولات، وتوفاه الله بالطاعون بحلب عام 749 هـ.ويقول صاحب كتاب “فوات الوفيات” عن ابن الوردي :- هو القاضي الأجل، الإمام الفقيه، الشاعر الأديب أحد فضلاء العصر وفقهائه وأدبائه وشعرائه، تفنن في العلوم، وأجاد في المنظوم والمنثور، نظمه جيد إلى الغاية، وفضله بلغ النهاية.ولأي=بن الوردي ديوان شعر، قام بتحقيقه الدكتور الهيب. وعن الشاعر قال المحقق:كان ابن الوردي إمام بارعا في اللغة والفقه والنحو والأدب مفننا في العلم ويؤيد ذلك مؤلفاته الكثيرة في شتى أنواع العلوم من نحو وفقه وتصوف وتاريخ وشعر وأدب وتفسير الأحلام وجغرافية وغيرها، وما نظمه فيها من منظومات فائقة مجيدة.وذكر محقق الديوان أن آخرين وصفوا شعر ابن الوردي بصفات هي: أن شعره أحلى من السكر المكرر وأعلى قيمة من الجوهر وأنه أسحر من عيون الغيد وأبهى من الوجنات ذوات التوريد وأنه جمع بين الحلاوة والطلاوة والجزالة.وخلص المحقق بعد هذه المقدمات إلى القول أن هذا التقدم في العلم والشعر جعل من ابن الوردي علما شهيرا حرص علماء عصره وشعراؤه وأدباؤه على أن يتصلوا به، وينالوا رضاه أو إجازته.ويعتبر ابن الوردي بحق أحد الأعلام الممثل لفكر وأدب عصره المملوكي وذلك في خصوص ما كتبه من نثر وحبره من شعر وهو شعر يغلب عليه طابع النظم.ولابد لكي نتعرف على أدب وفكر ابن الوردي أن نتناول باختصار وفي شيء من التبسيط أحوال العصر المملوكي الذي أمتد من عام 648 هـ إلى عام 923 هـ وذلك من الناحية السياسية والإجتماعية والثقافية.يتميز هذا العصر الذي عاش ابن الوردي في كنفه بثلاث ظواهر. تتعلق الظاهرة الأولى بضعف وتفكك أسس الثقافة العربية الإسلامية التي كانت سائدة في عصور ما قبل الحروب الصليبية. وساهم في هذا الضعف والتفكك كون ولاة هذا العصر من غير العرب إذ ترتب على هذا الوضع انصهار ثقافات غربية وافدة على الثقافة العربية الإسلامية من شمال شرق آسيا ومن منطقة شبه جزيرة الأناضول وجنوب غرب أوربا ومن أهم رموز هذه الثقافات دخول أنظمة إجتماعية وعقائدية جديدة لم تكن مألوفة بالمنطقة العربية الإسلامية من قبل كنظام الإقطاع الأوربي. ونظام التعمير ونظام الزخرفة والنقوش المعمارية في الأبنية والمساجد ودور العلم ورواج نزعات دينية هدامة كان من شأنها كثرة الخلافات المذهبية وانتشار الخرافات والبدع وامتهان مذاهب أهل السنة. وقد اثرت هذه الثقافات في الفكر الأدبي العربي حيث أصابته بضعف، وتجلت معالم هذا التأثير في بروز ألوان من الفنون الأدبية لم تكن مألوفة على نطاق واسع من قبل وكان من أهمها: فن الخطب الرسمية والرسائل الرسمية والرسائل الإخوانية من الشعر والنثر في مجال التهاني والتعازي والألغاز وفن اصطناع المصطلحات التعبيرية ذات المعاني الغامضة أحيانا مع التكلف والغلو في استخدام المحسنات البديعية كالطباق والتورية والجناس وانتشار اسلوب السجع والإزدواج والتضاد في الكتابة مع بروز الركاكة في التعبير واستخدام المهجور والميت من الكلمات في كثير من الأحيان. وتتعلق الظاهرة الثانية بتدهور الحالة الإقتصادية في المنطقة العربية الإسلامية وما صاحب هذا التدهور من آفات وكوارث طبيعية وصحية. أما الظاهرة الثالثة فتتعلق بحركة تدوين التراث. وهي ظاهرة تميز بها هذا العصر دون سائر العصور وعرف بعصر الموسعات. وكان الداعي لتدوين التراث تعويض ما فقده العرب من تراث علمي وأدبي وديني بسبب الدمار الذي أحدثه الإجتياح التتري. يقول في هذا الخصوص أحد الراصدين لحركة الأدب العربي ما يلي:”إن تخريب معالم الحضارة، ذلك التخريب الذي رافق الإجتياح التتري قد قضى على كثير من دور العلم ودور الكتب وأفقد العرب مئات الألوف من ذخائر تراثهم. من أجل ذلك كان من المنتظر أن تنشط حركة التأليف بعاملين أساسيين: (أ)بعامل الحاجة الى كتب تسد الكتب التي تلفت، ثم (ب) بعامل هو أن العلم كان ولا يزال برغم كثرة الكتب التي ألفت في الأعصر السابقة يقوم على الرواية. فأراد حفاظ العلم، بعد الإستعانة بما كانت ذاكرتهم لا تزال تعي، وبعد الإستعانة بالكتب التي نجت من الدمار أن يضعوا كتبا في الموضوعات المختلفة. من أجل ذلك لا يعجب أحدنا إذا رأي أن معظم هذه الكتب كان مجاميع كل مجموع منها في عدة مجلدات وخصوصا في الحديث والفقه والجغرافية والتاريخ والتراجم والسياسة والإدارة وفي العلوم الرياضيات والطبيعة ولا ريب في أن عصر المماليك كله كان عصر الموسعات (بضم الميم وكسر السين) في التأليف إما علما علما أو علوما – متقاربة أو متباعدة. في الكتبا الواحد.وكان من أهم رموز حركة التدوين رجال أعلام نالوا شهرة فائقة بل واحتلوا مكان الصدارة في تاريخنا العربي الإسلامي ومن هذه الرموز على سبيل المثال لا الحصر، ابن خلكان، والطوسي، والقزويني، وابن منظور، والنووي، وابن تيمية، والنويري، والسبكي، وابن كثير، وابن واصل، وأبوالفداء، والأدفوني، واليافعي، وابن هشام الأنصاري، والصلاح الصفدي، وابن عقيل، والنيسابوري، والسيوطي، والقلقشندي، وابن حجة الحموي، والفيروز أبادي، والعسقلاني، والبيضاوي، والنسفي، والطبري المكي، وابن النفيس.


الناشر: جريدة اليوم

– العدد: 7266

تاريخ النشر: 07/05/1993م

 

العلاقات العامة (4)

وتبقى الفكرة الثالثة التي خرجت بها من مطالعتي لكتاب “أسس العلاقات العامة وتطبيقاتها” للأستاذ الدكتور حمود البدر وهي تلك التي تتعلق بحيوية وفعالية العلاقات العامة بل وقدرتها على استيعاب كل جديد.خصص المؤلف الباب الثالث من كتابه متحدثا عن الإجراءات التنفيذية لبرنامج العلاقات العامة. وحدد مرتكزات أربعة لهذه البرامج هي البحث والتخطيط والإتصال والتقيييم وجعل لكل مرتكز فصلا مستقلا.ولدى مطالعتي لفصول الباب الأربعة وجدت المؤلف يضع في واقع الأمر خطة عمل لرجل العلاقات العامة يستوي في ذلك من يعمل في مؤسسة عامة أو مؤسسة خاصة والغرض من هذه الخطة هو أن يكون رجل العلاقات العامة في حالة حركة دؤوبة متفهما للمتغيرات الجديدة ومستجيبا لزخمها وقوتها المتحركة.وانصرف المؤلف ليتحدث عن كل مرتكز من هذه المتكزات دون أن يضع لها (أي لجميع هذه المرتكزات) تصورا أو مدخلا عاما سواء في بداية الباب أو نهاية آخر فصل فيه وهو أمر كان من المفروض عليه أن يفعله وذلك حتى لا يترك القارىء مشتت الأفكار في عملية ربط مرتكزات الخطة بعضها ببعض.وعن “البحث” باعتباره أول مرتكز من مرتكزات الخطة قال المؤلف:تبدأ أنشطة (سائر أوجه نشاط) العلاقات العامة بالبحث. فأنت لا تستطيع أن تكتب إذا لم يكن لديك معلومات تستند إليها عما تريد الكتابة عنه. ولا تستطيع أن تكتب لشخص أو مجموعة أشخاص لا تعرف عنهم شيئا. فالبحث يعطينا معلومات عما نريد أن نطرقه. يعطينا الخلفية التاريخية، والأبعاد المكانية والزمانية للمشكلة. كما أنه يساعدنا على التنبؤ بما سيئول إليه في زمن معين. فالبحث يحدد لنا صفات الجماهير وأبعادها الإجتماعية والإقتصادية والنفسية وكذلك الإتصالية والبحث يساعدنا على معرفة الوسيلة المناسبة للجمهور المناسب في الزمن المناسب والمكان المناسب. والبحث يساعدنا على معرفة الرسالة المناسبة للجمهور من خلال الوسيلة المناسبة.وعن التخطيط المرتكز الثاني للخطة يقول المؤلف ما يلي:التخطيط عملية إدارية مقصودة يتم بموجبها تحديد الأهداف عن طريق تعينن السياسات الموصلة إلى الأهداف بأفضل البدائل المتاحة. وهو الخطوة الثانية التي تلي عملية البحث. فبعد الإحساس بالمشكلة ثم بحثها لتحديد أبعادها، ثم الوصول إلى إطار يحددها، ويحدد سبل علاجها وعندئذ يكون لدينا واقع غير مريح وهو الناجم عن المشكلة التي بحثناها. ولابد إذن من البحث عن بديل لهذا الوقاع … إن التخطيط المبرمج يقود إلى إبراز البدائل للوصول إلى الأهداف التي يمكن الموازنة بينها بناء على عناصر مهمة منها: الزمن، والمال، القوى البشرية التي تؤدي أولويات المؤسسة إلى الموازنة بينها من أجل تفادي ما يحدث من عقبات وأخطاء نتيجة العمل العشوائي غير المبرمج.وعن الإتصال المرتكز الثالث للخطة يقول المؤلف:فالإتصال يعتبر هو مرحلة التنفيذ التي سبق أن اقترحت عند رسم الخطة. وهو الذي بموجبه تحقق أهداف العلاقات العامة. لأن أهداف العلاقات العامة … هي أهداف المؤسسة. وما إدارة العلاقات إلا مركز حدود بين المؤسسة وجمهورها: إحدى قدميها في داخل المؤسسة والقدم الأخرى خارجها وذلك تعبير أن لها قناتيإتصال إحداهما تنبع من الداخل للإتصال بالخارج من الجماهير المتعددة. والأخرى تنبع من الخارج وتتجه إلى الداخل لنقل صوت الجماهير المتعددة وآرائها إلى أصحاب القرار في المؤسسة. وأشار المؤلف إلى تعريف الإتصال بأنه: “التفاعل بالكلمات، الحروف، أو الوسائل لتبادل الأفكار والأراء”. ويقصد المؤلف من هذه التعريف تفسير الأفكار والمعلومات ثم تناقلها. وهو بهذا المعنى يشمل كل من يصدر عنه أصوات معبرة.وعن “التقييم” (التقويم) آخر المطاف في الخطة يقول المؤلف:فالتقييم هو وضع قيمة لما يتم إنجازه من عمل مقارنا بالحد الأقصى من الإنجاز لمثل ذلك العمل إذا توفرت له فرص وعوامل النجاح … والتقييم عبارة عن عملية بحث منظم يتم بموجبها التعرف على إنجاز المشروعات التي سبق أن خطط لها. ومعرفة ما صادف التنفيذ من صعوبات، وكيفية تذليلها، وما إذا كانت البدائل المستخدمة في التنفيذ هي الأنسب، أم أن هناك بدائل أخرى كان يمكن استخدامها.هذه هي مركزات الخطة التي ينبغي على رجل العلاقات العامة الأخذ بها. وتناول المؤلف هذه المرتكزات بالشرح والتفصيل المبني على وسائل ومناهج علمية قابلة للتنفيذ. ومن الناحية التطبيقية اتخذ المؤلف الجامعات “قضية دراسة” لخطته حيث ركز على دور العلاقات العامة فيها.وخلال مطالعتي لكتاب أسس العلاقات العامة وتطبيقاتها عنت لي ملاحظات لابد من الإشارة إليها وذلك حتى يأخذ المؤلف بها إذا رأى ذلك مناسبا، عند طبع الكتاب للمرة الثانية. وهي ملاحظات في رأيي جوهرية.1- استخدم المؤلف عبارة “نشاط” لتعني مجموعة من الجهود أو التهيؤ للعمل والإسراع في انجازه. وهو استخدام من الناحية اللغوية والإصطلاحية في محله. ولذا يقال في هذا المعنى “نشاط” العلاقات العامة، أو أن للعلاقات العامة “نشاط” إتصالي وهكذا. إلا أن المؤلف استخدم نفس العبارة في صيغة جمع تكسير “أنشطة” وفي صيغة جمع مؤنث سالم “نشاطات” وذلك على نحو متكرر وملفت للنظر وفي أكثر من فصل. وهو إستخدام غير صحيح لغة ولا معنى له، وإن كان هذا الإستخدام شائعا. ولم ترد فيما أراه عبارة نشاط في صيغة جمع تكسير أو في صيغة جمع مؤنث سالم لتعني نفس المعنى المقصود من عبارة نشاط إذا وردت مفردة وذلك وفقا لما حددته سلفا. ولذا لا تعني كلمة أنشطة ما يقصده المؤلف منها حينما يتحدث عن العلاقات العامة كنشاط إتصالي ولم أجد لعبارتي “أنشطة” أو “نشاطات” في المعاجم العربية كالمنجد ولسان العرب لابن منظور نفس المعنى الذي يقصده المؤلف حينما يتحدث عن مجالات أو فعاليات علم العلاقات العامة.2- استخدم المؤلف أسماء بعض المؤلفين الغربيين في المتن باللغة العربية دون أن يكتب إلى جانب الإسم باللغة العربية نفس الإسم باللغة الإنجليزية. وبالنظر إلى تباين النطق بين اللغة العربية واللغة الإنجليزية يستحسن كتابة الإسم باللغتين العربية والإنجليزية في المتن إذ يصعب على القارىء أن يعيد كتابة الإسم باللغة الإنجليزية اعتمادا على ما هو مكتوب باللغة العربية وذلك لاختلاف الحروف وتباين نطقها في كلتا اللغتين.3- لم يعد المؤلف كشافا أو فهرسا مستقلا بآخر الكتاب عن جميع المراجع باللغتين العربية والإنجليزية لأهميته. ولا يكفي وضع قائمة بهذه المراجع في نهاية كل فصل من فصول الكتاب.4- لم يعد المؤلف كشافا أو فهرسا مستقلا بآخر الكتاب يتضمن أسماء جميع من ورد ذكرهم في متن الكتاب من مؤلفين وغيرهم.ورغم ما أوردته من ملاحظات وما سجلته من تأملات يظل كتاب “أسس العلاقات العامة وتطبيقاتها” مرجعا علميا لطلاب العلم والمعرفة. وهذا الكتاب لا يستغنى عنه، في رأيي، رجال “العلاقات العامة” سواء منهم من يعمل في أجهزتنا الحكومية أو في مؤسساتنا العامة أو في شركاتنا الخاصة.


الناشر: جريدة اليوم

– العدد:7221

تاريخ النشر: 23/03/1993م

العلاقات العامة (3)

أما الفكرة الثانية التي تبلورت في ذهني إثر الإنتهاء من قراءة كتاب “أسس العلاقات العامة وتطبيقاتها” فتتعلق بمحاولات الدكتور البدر في بلورة تصور معين عن العلاقات العامة من منظور إسلامي. وكشفت هذه المحاولات عن مقدرة المؤلف في استعراض عملية العلاقات العامة في ضوء القواعد الإسلامية لدرجة يمكن معها القول إن ذلك التصور يشكل معالم رئيسية أصيلة لعلاقات عامة إسلامية موجودة منذ فجر الإسلام وذلك قبل أن تتبلور مناهج وأصول العلاقات العامة الحديثة باعتبارها مبتكرات أمريكية.ومن يتأمل كتاب أسس العلاقات العامة وتطبيقاتها يجد أن المؤلف قد حاول بقدر ما يسمح به المقام وحسب المصادر المتاحة التذكير بالقواعد الإسلامية عند تناوله لمناهج العلاقات العامة كما يتصورها الفكر الغربي. ولا يجد القارىء صعوبة عند استعراضه لفصول الكتاب من الوقوف في ثناياه على آية كريمة أو حجيث نبوي أو مثل عربي سائر أو بيت من الشعر العربي الموزون المقفى. وعلى سبيل المثال حينما تناول المؤلف المنطلقات الأساسية لبرامج العلاقات العامة وتحدث عن الإلتزام بالأخلاق الشريفة باعتبارها من أهم قواعد دساتير جمعيات العلاقات العامة ذكر المؤلف بما يلي:وإذا ما استعرضنا تلك القواعد نجدها لا تأتي بجديد عما يلمنا به ديننا الحنيف فهي اجمالا تدعو إى الصدق وتنبذ الكذب: “إن الصدق يهدي إلى البر … وإن الكذب يهدي إلى الفجور”. وتدعو إلى الأمانة وتمقت الخيانة .. “إن الله لا يحب الخائنين”. وتنادي باحترام الوقت وتزدري تضييعه “والعصر إن الإنسان لفي خسر” .. وتدعو بإتقان العمل وتشهر بالمخادعة “إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه” .. وتدعو إلى احترام مواثيق الآخرين وتعهداتهم “وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا” .. وتدعو إلى عدم افساد العمل على أحد زملاء المهنة “لا يبع أحدكم على بيع أخي” .. وتدعو إلى عدم المغالاة في الأتعاب “إن الله لا يحب المسرفين”.وعقد المؤلف فصلا مستقلا في كتبه بعنوان: “العلاقات العامة في الإسلام”. وفي ختام هذا الفصل قال المؤلف:فالعلاقات العامة اليوم تتكلم عن مؤسسات تضخمت أجهزتها واتسع نطاق خدماتها بحيث أصبح التعامل الفردي معدوما فيها. لكن ذلك لا يلغي أن حسن الخلق إذا أشعناه في تعاملنا سوف يثمر ثمارا تحقق لنا أهداف ومرامي أنشطة (سائر أوجه نشاط) العلاقات العامة الحديثة. فالصدق أساس في الإسلام وقد رأينا أنه من صفات المؤمنين وأن الكذب من صفات المنافقين والمنافق مذموم في كل الأوساط وفي كل الأزمنة والأمانة ركيزة أساسية في المعاملة بين المسلمين وهي صفة من صفات المؤمنين في حين أن الخيانة صفة من صفات المنافقين والصراحة صفة مهمة من صفات المسلمين لكن من غير تجريح. والبشاشة صفة إسلامية أساسية من صفات المؤمنين وهي مطلب من مطالب العلاقة العامة الحديثة وتعتبر النميمة من الصفات المذمومة في الإسلام وهي غير مرغوبة في من يمارس العلاقات العامة. وسعة الإطلاع مما أوصى به الإسلام ” قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون”. وهي من الصفات المرغوبة في رجل العلاقات العامة. المظهر الحسن مطلب أساسي في رجل العلاقات العامة خاصة من سيكون في الواجهة وهو موصوف بقول الرسول صلى الله عليه وسلم ” إن الله جميل يحب الجمال”. ويطلب في رجل العلاقات العامة أن يكون لين العريكة ورسولنا صلى الله عليه وسلم أمرنا بالرفق في كل أمورنا “إن الله يحب الرفق في الأمر كله”.ويضيف المؤلف قائلا:وهكذا نجد أن صفات رجال العلاقات العامة هي الصفات المطلوبة في المسلم الحق. فإذا ما طبقت تعاليم الإسلام فإن أهداف العلاقات العامة تتحقق ولا يبقى إلا التقنية وذلك من المتغيرات التي تتغير من زمان إلى آخر ويمكن تعقبها للإستفادة منها في كل زمان طبقا لمتطلباته.وما دام الأستاذ الدكتور البدر قد تعرض للعلاقات العامة من منظور إسلامي على النحو المشار إليه أعلاه فقد يكون من الملائم لو أنه عمل على تطوير الفصل الخاص بالعلاقات العامة في الإسلام وأشبعه بحثا بغرض وضع نظرية إسلامية عامة تحت مسمى العلاقات العامة الإسلامية.ولدى استعراض المؤلف للتطور التاريخي لعلم العلاقات العامة ذكر أن شركة الزيت العربية الأمريكية كانت أول من استخدم العلاقات العامة منذ عام 1351 هـ بالمملكة العربية السعودية. وما ذكره الدكتور البدر صحيح. ولقد نوهت عن هذه الحقيقة في كتابي باللغة الإنجليزية “بترول الشرق الأوسط” Middle East Oil. وقد تحدثت شركة الزيت الزيت العربية الأمريكية عن دور العلاقات العامة في مجال أعمالها البترولية في دليلها باللغة الإنجليزية. وفي هذا الخصوص ورد بهذا الدليل ما مؤداه أن إدارة العلاقات العامة مسئولة عن تمثيل الشركة أمام شعب المملكة العربية السعودية وأقطار الشرق الأوسط الأخرى. كما أن أرامكو تستخدم نفس الإدارة كقناة اتصالات إلى عمالها. وتعمل نفس الإدارة على إصدار النشرات الدورية والمسجلات الأسبوعية والشهرية التي تتحدث من بين أمور أخرى عن سائر أوجه نشاط الشركة وتدير نفس الإدارة محطات راديو وتلفزيون وتقوم بدعوة رجال الحكومة ووجهاء المجتمع لزيارة مرافق الشركة وتقدم للرأي العام داخل المملكة العربية السعودية وخارجها صورة حقيقية عن أعمال الشركة وسياستها بواسطة إقامة المعارض داخل المملكة وخارجها. وفيما يتعلق بشعب المملكة العربية السعودية يعتبر كل موظف بأرامكو رجل العلاقات العامة مسئول عن تمثيل الشركة أمام الشعب السعودي في خصوص العمل الذي يقوم به.


الناشر: جريدة اليوم

– العدد:7213

تاريخ النشر: 15/03/1993م

العلاقات العامة (2)

كتاب الأستاذ الدكتور البدر “أسس العلاقات العامة وتطبيقاتها” مهم في خصوص الموضوع الذي تطرق الكتاب له. وخرجت من مطالعتي له بثلاث أفكار أساسية. تتعلق الفكرة الأولى بالنهج الذي سلكه المؤلف في عرض عملية العلاقات العامة من الناحية التاريخية والعلمية. وتتعلق الفكرة الثانية بمحاولات المؤلف الناجحة في بلورة معالم ما يمكن أن يسمى بعملية العلاقات العامة من منظور إسلامي. وتتعلق الفكرة الثالثة بحيوية فكرة العلاقات العامة وقدرتها على استيعاب كل جديد.وأشبع المؤلف الفكرة الأولى بحثا وتوثيقا. وهذا ليس بمستغرب عليه لتمكنه من عملية العرض والطرح من الناحية العلمية. واكتسب الدكتور البدر هذه المهارة من خلال ممارسته للعملية الصحفية منذ كان طالبا بقسم الصحافة بكلية الآداب بجامعة القاهرة. وكذلك بعد تخرجه من الكلية. ولمسات هذه الممارسة جلية في اسلوبه الشيق. وهو الأسلوب الذي استخدمه في تأليف أسس العلاقات العامة وتطبيقاتها والكتاب معد أساسا لطلاب العلاقات العامة بالجامعة. ولهذا الغرض العلمي استخدم المؤلف في طرح أفكاره أسلوب العرض الموضوعي المجرد دون أن يفرض على الطالب توجهات معينة ذات طابع شخصي. أي أن المؤلف اعتمد تقديم أفكاره عن الموضوع الذي يعالجه بكل أمانة وتجرد وموضوعية دون أن يحاول فرض وجهة نظر معينة تاركا له. وهذا نهج طيب تقتضيه الحرية الأكاديمية. والأمثلة المعبرة عن هذا الأسلوب المحايد ملموسة في أكثر من فصل من فصول الكتاب.وعن الفكرة الأولى التي أشبعها المؤلف بحثا وتوثيقا فأعني بها ذلك النهج الذي كما سبق أن ذكرت سلكه المؤلف في عرض عملية العلاقات العامة من الناحية التاريخية والعلمية.ومن الناحية التاريخية تمكن المؤلف من إعطاء تصور تاريخي لبدء العلاقات العامة منذ نشأة الإنسان وعبر التجمعات الإنسانية التي اتخذت أشكالا على رأسها القبيلة، ثم مجتمع المدينة، ثم حضارات مجتمع المدينة كالحضارة الآشورية، والحضارة الفرعونية، والحضارة اليوانية، والحضارة الرومانية، ومن ثم الحضارة الإسلامية. وحينما كانت الحضارة الإسلامية في عز مجدها وشموخ عظمتها كان العالم الغربي كله في قرونه الوسطى يغط في نوم عميق تحيط به أجواء أمية متغشية وجهالة لا حدود لها.خلال هذه العهود أو الحضارات يقول الدكتور البدر بأن العلاقات العامة كمحتوى لعبت أدوارا فعالة وإن لم تتبلور معالم محددة لها.ففيما يتعلق بالحضارة الفرعونية يقول المؤلف:أما قدماء المصريين فقد اهتموا بالسيطرة على أفكار الجمهور وتحريك مشاعره واتبعوا في ذلك شتى الأساليب التي منها تأليه الفرعون، وتقديس الكهنة، وتشييد المعابد الضخمة والقبور الشاهقة على شكل الأهرامات التي لا تزال ماثلة للعيان دليلا على حضارة متقدمة، كما يمكن أن ينظر إليها على أساس أنها من المعجزات التي أتى بها الإنسان. كل ذلك من أجل إظهار هيبة الحكام وعظمتهم للتأثير على عقول الناس وأفكارهم. وما الثروة الهائلة من الآثار الفرعونية في مصر وفي متاحف العالم إلا شاهد على ذلك. كل الفراعنة ينشطون في ممارسة الإعلام، خاصة في فترات الحروب، لتعبئة المعنويات اللازمة لإحراز النصر. كما كانت النقوش على الحجارة وواجهات المعابد تشيد بالإنتصارات الحربية للحكام وإنجازاتهم المختلفة. أما في أوقات السلم فكان الإعلام ينشط للأغراض الدينية والإجتماعية. فقد استخدمت أوراق البردي في النشرات التي يصدرها فرعون مصر وأمراؤه لمحاربة أشياء ضارة يراد الإبتعاد عنها، والإشادة بأفكار أخرى يريد الحكام نشرها بين الناس.وفي خصوص العلاقات العامة في ظل الشريعة الإسلامية يقول المؤلف:فالشريعة الإسلامية تتضمن جميع الأصول الأخلاقية السليمة التي يستند إليها في العلاقات العامة الممارس حاليا. فالدين – في نظر الإسلام – هو المعاملة. والمعاملات جزء أساسي من الشريعة الغراء التي تأمرنا بإتقان الصنعة، والأمانة، والصدق، والوفاء بالوعود والعهود والإلتزامات. وأن يحب الإنسان لأخيه ما يحب لنفسه، وأن نعامل الناس بالحسنى. بينما يحرم الدين الإسلامي الغش والخداع والنصب والإحتيال وأكل أموال الناس بالباطل.وعلى الرغم من شموخ الحضارة الإسلامية وقدرتها على العطاء إلا أنها قد تخلفت وبمشيئة الله إلى حين. عن مواصلة ركب التحولات العلمية التي بلورت بدايات ما عرف فيما بعد بالعصور الحديثة. وهي العصور التي من أهم معالمها ثورة العلم في العالم الغربي بدءا بالثورة الصناعية، وانتهاءا بغزو الفضاء. يقول الدكتور البدر في هذا الخصوص:أدت الثورة الصناعية التي اجتاحت أوربا في نهاية القرن الثامن عشر، ثم انتقلت إلى أمريكا، إلى تعقيد في العلاقات بين الناس. إذ أن هذه الثورة خلقت أوضاعا جديدة لم يكن للإنسان دراية بها. فإذا كان الإنسان على مر عصوره يمارس تبادل الخدمات على أسس فردية فإن الإنتاج أيضا كان يقوم على أساس فردي، أو على أساس تجمعات عائلية صغيرة تحكمها العلاقات الأبوية والنخوة والمروءة. لكن الثورة الصناعية بدلت ذلك فأصبح المصنع يتكون من خط للإنتاج يتكون من عدد أكبر من الناس لا تجمعهم صلة القرابة، ولا سكنى الجوار ولا تسمح الآلة بوقت تتولد فيه علاقاتهم وتنمو.وتتبع المؤلف العلاقات العامة كعلم من خلال تعريف العلاقات العامة، وتحديد أهدافها والتفريق بينها وبين علوم ومناهج أخرى تكون في مجموعها ما سبق أن سميته بالإستراتيجية الأيدلوجية. وحاول المؤلف النظر للعلاقات العامة كعلم حيث خصص فصلا مستقلا ذا عنوان إستفهامي هو “ما هي العلاقات العامة؟” وفي هذا الإطار بدأ المؤلف في محاولة وضع تعريف جامع مانع للعلاقات العامة إلا أنه بعد أن استعرض عدة تعريفات كشف عن صعوبة الإتفاق على تعريف محدد. ولا شك أن مصدر الصعوبة تكمن في أن العلاقات العامة كعلم لا تزال تحت مجهر البحث والتقصي باعتبارها ظاهرة جديدة في عالم الثورة الصناعية ذات الأبعاد التقنية المعقدة. على أن صعوبة تحديد تعريف متفق عليه للعلاقات العامة لم تمنع المؤلف من وضع تصور لعلم العلاقات العلاقات العامة عن طريق تحيد أهداف هذا العلم. وهذا نهج من طبيعة نمطية تشترك فيه سائر العلوم الأخرى. وفي ضوء تحديد أهداف هذا العلم فرق المؤلف بينه وبين علوم أو مجالات أخرى كالعلاقات الإنسانية والإعلام والتسويق والدعاية ووكالات النشر والتثقيف السياسي.وفي محاولة لوضع إطار عام للعلاقات العامة كشف المؤلف أن العلاقات العامة هي مسئولية المجتمع. وهو في هذا الخصوص يقول:تخطىء أي مؤسسة تعتقد أنها تستطيع الحصول على ثقة جمهورها من خلال إغراقه بالمعلومات عن إنجازات وهمية، أو عن أعمال خططت وسوف يتم تنفيذها إذ أن الحقيقة لابد أن تتضح. كما تخطىء أي مؤسسة تعتقد أن إدارة العلاقات العامة لديها عصا سحرية تستطيع بواسطتها خلق سمعة طيبة لتلك المؤسسة حتى وإن لم يتم تعاون بقية المسؤلين فيها. إن القول لابد أن يدعمه العمل. وإذا خالف العمل القول ضاعت الثقة/ ولا يفيد أن نقول كلاما حلوا ويعمل أحد أفراد المؤسسة شيئا مخالفا بحجة أن رجال العلاقات العامة هم المسؤلون عن تكوين السمعة الحسنة للمؤسسة ورعايتها.


الناشر: جريدة اليوم

– العدد:7207

تاريخ النشر: 02/03/1993م

العلاقات العامة (1) 

تندرج العلاقات العامة، باعتبارها وسيلة اتصال بين طرف وآخر، تحت مظلة الاستراتيجية الأيديلوجية. وتتكون هذه الاستراتيجية من وسائل اتصال من طبيعة ذهنية ومادية. ومن هذه الوسائل على سبيل المثال، لا الحصر، العلاقات العامة، وفنون الدعاية، البث المرئي والمقروء والمسموع، ما ينقل عبر وسائط النقل السلكية واللاسلكية والأقمار الصناعية، وما ينقل عبر وسائط النقل البحرية والجوية والأرضية، ومكاتب النشر، وأجهنزة الطبع، وما تعبر عنه الاتصالات الشخصية والزيارات الفردية والجماعية، اليومية والأسبوعية والشهرية، وتوزيع النشرات اليومية والأسبوعية والشهرية، والملصقات، وأشرطة “الفيديو والكاسيت” والجوائز والهديايا.وتبرز العلاقات العامة باعتبارها من أه مكونات الاستراتيجة الأيديلوجية. والعلاقات العامة مفهوم من طبيعة متغيرة بحسب الزمان والمكان والغرض. وللعلاقات العامة طرفان: أحداهما مرسل والآخر متلقي. وبين هذين الطرفين أخذ وعطاء، وتكيف ومواءمة. قد يكون كلاهما شخص طبيعي. كما قد يكون أحدهما شخص طبيعي والآخر شخص معنوي. وقد يكون الطرف المعنوي في شكل جهاز إداري حكومي، أو وكالة خاصة أو عامة، أو مؤسسة خاصة أو عامة، أو شركة، أو جامعة، أو مهنة، أو دولة فدرالية، أو ولاية داخل دولة فدرالية، أو محافظة، أو منطقة أو مقاطعة، أو مركز داخل دولة بسيط’.لكل طرف من هذه الأطراف علاقات عامة ذات محتوى وغرض.وتتحدد أغراض العلاقات العامة في جهاز إداري حكومي في مجموعة أوجه النشاط والفعاليات التي يمارسها هذا الجهاز والتي من أهمها إيجاد صلة مباشرة بين هذا الجهاز والجمهور المستفيد منه وبالأخص إذا كان هذا الجهاز الحكومي من مرافق الخدمات. ومن مهام العلاقات العامة في الجهاز الحكومي ترتيب وتنظيم اتصالات كبار المسئولين فيه مع الغير بما في ذلك تحديد المواعيد، وترتيب أماكن الاجتماعات، وتسجيل وقائع الاجتماعات، وتصنيفها.كانت هذه الأفكار تجول بخاطري قبل أن أبدأ في مطالعة كتاب “أسس العلاقات العامة وتطبيقاتها” للأستاذ الدكتور حمود بن عبدالعزيز البدر عضو هيئة التدريس بكلية التربية بجامعة الملك سعود.(1) أما وبعد أن انتهيت من قراءة هذا الكتاب فلقد وجدت نفسي في خصوص العلاقات العامة مشتت الأفكار، وأن ما تحدثت عنه سلفا في خصوص أغراض العلاقات العامة ليس إلا قطرة في بحر حيث نقلني الدكتور البدر إلى عالم لم يخطر على بالي أبدا.لقد وجدت عملية العلاقات العامة، التي كانت في نظري من البديهيات، عملية معقدة في عالمنا المعاصر المتغير، وأن ممارستها بإتقان من أهم متطلبات النجاح لأعمال واهداف أي طرف من الأطراف التي أشرت اليها سلا.وبما أن مصطلح “العلاقات العامة” من نتاج أمريكي صرف فلقد أولت الموسسات الأمريكية بما فيها الجامعات والشركات عنايتها الخاصة به. ولذا لا مندوحة أن تجد لعلم العلاقات العامة رجاله من كتاب ومؤلفين وبحاثة امثال السادة:1 – دورمان إيتون Doorman Iton2 – إيفي ليد بيتر لي Ivy led Better Lee3 – إدوارد بيرنيز Edward Bernays4 – ركس هارلو Rix Harllowويقف السيد دورمان إيتون Doorman Iton في طليعة رجال العلاقات العامة حيث هو الذي اختار لأول مرة في عام 1288م عبارة “العلاقات العامة” في محاضرة له بعنوان “العلاقات العامة ومستلزمات المهنة” كان قد ألقاها في قسم القانون بجامعة ييل Yale الأمريكية. وتلاه السيد إيفي ليد بيتر لي Ivy led Better الذي وصفه المؤرخون، كما ذكر الدكتور البدر، بأنه أب العلاقات العامة حيث اتخذ شعارا لعملية العلاقات العامة هي عبارة “لا بد من إعلام الجمهور”. وتتلخص فلسفة السيد إيفي لي في مرتكزات ثلاثة هي: الصدق والأمانة والوضوح حتى لو أدى الأمر إلى الإعتراف بالخطأ لأن ذلك أدعى إلى كسب ثقة الجمهور وتعاطفه معه. ويتحدث الدكتور البدر عن ارتباط اسم السيد إيفي لي بأربعة إنجازات مهمة في ميدان العلاقات العامة هي كالتالي:1 – تثبيت مبدأ يقوم رجال الأعمال ورجال الصناعة بتوجيه استثماراتهم فيما يعود بالنفع العام، وليس تسخير المصلحة العامة للمصلحة الخاصة.2 – أن تكون أنشطة (سائر أوجه نشاط) العلاقات العامة مرتبطة بالإدارة العيا، وأن لا ينفذ برنامج منها إلا إذا اقتنعت به تلك الجهة لأنها ستسنده بعد القناعة.3 – إقامة اتصال واع مستمر مع وسائل الإعلام المختلفة.4 – تأجيد النواحي الإنسانية في اعمال المؤسسات، وتحويل العلاقات مع الجمهور والموظفين والجيران إلى علاقة إنسانية حميمة.(2) وتسير القافلة ي مجال “العلاقات العامة” من السيد إيفي لي Ivy Lee إلى السيد إدوارد بيرنيرز Edward Bernays الذي حدد في كتاب له في عام 1923م وظائف العلاقات العامة كما يلي:1 – التكيف Adjustment ويقصد بذلك أقلمة الجمهور بالواقع الذي تعيشه المؤسسة ومن ثم التكيف مع ذلك الواقع.2 – الإعلام Information والذي يعني اطلاع الجمهور على حقيقة ما يجري مما هو في صالح المؤسسة وفي غير صالحها حتى تكون مواقفه تجاهها مبنية على الحقائق.3 – الإقناع Persuasion وذلك بأن تكون الفكرة التي تكونت لدى الجمهور عن المؤسسة مقنعة بحيث تجعله يتمسك بموقفه منها ولا يتحول عنها إلى غيرها. وذلك عن طريق المتابعة المستمرة لتلك العلاقات التي تكونت.(3) وتعقب المؤلف في تسلسل زمني مسيرة مهنة “العلاقات العامة” منذ أن تبلورت معالمها في الفكر الإداري الأمريكي، ومنذ أن أصبح لنفس المهنة مسمى محددا. ولقد احتضنت الجامعات ومعاهد العلم ومراكز إدارات المؤسسات والشركات الكبرى في الولايات المتحدة الأمريكية، ومن ثم في بريطانيا، وفرنسا، وغيرها من الدول الغربية مهنة العلاقات العامة حتى أصبح لهذه المهنة جمعيات على المستوى القومي في هذه الدول. وبعد ذلك تظافرت جهود هذه الجمعيات في عام 1955م حيث أنشأت جمعية العلاقات العامة الدولية التي اتخذت لها من جنيف بسويسرا مقرا لها .(4)يتبـــع
—————هوامش:—————(1) راجع د/البدر، أسس العلاقات العامة وتطبيقاتها، ط/1، 1412هـ، دار العلوم للطباعة والنشر، الرياض، المملكة العربية السعودية.
(2) المرجع السابق، ص/25.(3) المرجع السابق، ص/25ــ26.(4) المرجع السابق، ص/31ــ32.


الناشر: جريدة اليوم

– العدد:7200

تاريخ النشر: 02/03/1993م

حديث الأصم الأبكم

أنا الكتاب…!وأنت تعرف – – يا صديقي من أنا …!إذا كانت المرناة ووسائل التسلية الأخرى من مسموعة وقروءة قد باعدت بيني وبينك فذلك، على كل حال، إلى حين.بيني وبينك – يا صديقي – جفوة سببها المرناة.وبيني وبينك – يا صديقي – جفوة سببها البث المباشر.وبيني وبينك – يا صديقي – جفوة سببها أمور لا أول لها ولا آخر ومنها: “الفيديو، و”الكيبل”، و”الكاسيت”، ومن قبلها كان البث المسموع ووسائل ترفيه أخرى. أمور لم أسمع عنها من قبل.أنا الكتاب، طود شامخ وجبل شاهق. لن تهزني هذه الأمور حيث هي بالنسبة لي كالزبد…!أنا رفيق سرير نومك، بل أنا أقرب إليك من زوجك. أنا الذي أجلب اليك النوم حينما تكون في حاجة اليه.حينما تضعني بالرف – يا صديقي – أجد الكآبة تحيط بي لبعدي عنك. كما أجد نفسي في ظلمات بين دفتين. ورغم هذا لا أتألم ولا أتضجر، لا أشكو ولا أتملل. بل، أظل صابرا، صامتا حتى يصلني الفرج حينما تدعوني إليك مرة أخرى. حينئذ آتيك طائعا مسرورا، رير العين.أنا الكتاب: لو تعلم، صديقك المخلص.أنا الكتاب: لو تتبصر، جليسك المؤنس.إنا كنت – يا صديقي – جاهلا، ففي مكنتي إزالة عار الجهل عنك.وإن كنت – يا صديقي – عالما، فمهمتي، لو طالعت صفحاتي، تذكيرك بما تعلمه، ومن ثم تزويدك بما لاتعلمه.وإن كنت – يا صديقي – شاعرا، فبين دفتي من الخيال ما يوسع أفقك لتزيد من إبداعك.أنا الكتاب: قريب منك ساعة النداء. وأكثر من هذا، إذا تصفحتني تحدثت إليك بكل صدق وأمانة. لا أخافك، ولا أرجو عفوك. وشأني معك هو شأن المثل القائل: صديقك من صدقك لا من صدقك.أنا الكتاب: لا أعرف المجاملة أو المحابة. ما في مكنوني أبثه اليك حتى ولو لم يتفق مع أفعالك وطباعك سواء أكنت كذابا، أو صدوقا، أو نماما، أو مغتابا، أو فاعل خير، أو من أهل التقوى والصلاح.أنا الكتاب: مرشد ومعلم. إن أدمنت مصاحبتي ستأخذ مني ثقافة، وأدبا، وعلما.أنا الكتاب: أنيسك في الوحدة. في إمكاني إزالة جو الوحشة عنك، وتحويل جو الهم من حولك إلى جو أنس ومسرة… إن وقرت رفقتي ستجد مني ما يسرك. وإن أهملتني فسأظل، مع ذلك، حبيبك الودود وقت الرخاء والشدة.أنا الكتاب: في جعبتي الفكاهة، والجد، والهزل، والقصة رة، والموعظة، والعبرة، والقول الحسن، والعلم النافع، والمثل السائر، وبيت الشعر الجميل، وأخبار الأولين، وأخبار الأذكياء، والحمقى، والمغلفين.أنا الكتاب: في جعبتي ألوان السرور، والامتاع، والمؤانسة.أنا الكتاب: لو هجرتني – يا صديقي – فسأظل قريبا منك. ولو ألقيتني جانبا فلن أغضب، ولن أتكدر، لأن ما تفعله حيالي هو، في رأيي، مجرد سحابة صيف حيث أني صفيك رغم الجفوة والهجران .أنا الكتاب: ولا فخر! خير أنيس وخير جليس. كنت في الغابر من الازمان محل الصدارة عند علية القوم، وكذلك عند أدبائهم وعلمائهم وشعرائهم وحتى صعاليكهم.مدحني أديب الأمة العربية أبو عثمان عمرو بين بحر الجاحظ بما أعجز عن وصفه. ومن هذا المديح قوله: (1)الكتاب نعم الذخر والعقدة، والجليس والعمدة، ونعم النشرة ونعم النزهة، ونعم المشتغل والحرفة، ونعم الأنيس ساعة الوحدة، ونعم المعرفة ببلاد الغربة، ونعم القرين والدخيل والزميل. والكتاب وعاء ملىء علما، وظرف حشي ظرفا، وإناء شحن مزاحا، إن شئت كان أعي من باقل، وإن شئت كان أبلغ من سحبان وائل، وإن شئت سرتك نوادره، وشجعتك مواعظه، ومن لك بواعظ مله، وبناسك فاتك، وناطق أخرس، ومن لك بطبيب أعرابي، ورومي وهندي، وفارسي يوناني، ونديم مولد، ونجيب ممتع، ومن لك بشيء يجمع الأول والآخر، والناقص والوافر، والشاهد والغائب، والرفيع والوضيع، والغث والسمين، والشكل وخلافه، والجنس وضده.وكذلك قال الجاحظ:وبعد فما رأيت بستانا يحمل في ردن، وروضة تنقل في حجر، ينطق عن المتى، ويترجم عن الأحياء، ومن لك بمؤنس لا ينام إلا بنومك ولا ينطق إلا بما تهوى، آمن من الأرض، وأكتم من السر، واحفظ للوديعة من أرباب الوديعة … ولا أعلم نتاجا … يجمع من السير العجيبة، والعلوم الغريبة، وآثار العقول الصحيحة، ومحمود الأذهان اللطيفة، ومن الحكم الرفيعة، والمذاهب القديمة، والتجارب الحكيمة، والأخبار عن القرون الماضية، والبلاد النازحة، والأمثال السائرة، والأمم البائدة ما يجمعه كتاب. ومن لك بزائر إن شئت كانت زيارته غبا وورده خمسا، وإن شئت لزم لزوم ظلك، وكان منك كبعضك. والكتاب هو الجليس الذي لا يطريك، والصديق الذي لا يقيلك، والرفيق الذي لا يملك، والمستمع الذي لا يستزيدك، والجار الذي لا يستبطئك، والصائب الذي لا يريد استخراج ما عندك بالملق، ولا يعاملك بالمكر، ولا يخدعك بالنفاق.وعن منافعي وأخلاقياتي تحدث الجاحظ قائلا : والكتاب هو الذي إن نظرت فيه أطال إمتاعك، وشحذ طباعك، وبسط لسانك، وجود بيانك، وفخم ألفاظك، وبجح نفسك، وعمر صدرك، ومنحك تعظيم العوام، وصداقة الملوك، يطيعك بالليل طاعتك بالنهار، وفي السفر طاعته في الحضر، وهو المعلإن افتقرت إليه لا يحقرك، وإن قطعت عنه المادة لا يقطع عنك الفائدو، وإن عزلت لم يدع طاعتك، وإن هبت ريح اعدائك لم ينقلب عليك…وقال بعض الحكماء واصفا مكانتي: “الكتب بساتين العلماء”.(2)ومدحني آخر فقال: “ذهبت المكارم إلا من الكتب”.(3)وقال ابن داحة: “كان عبدالله بن عبدالعزيز بن عبدالله بن عمر بن الخطاب لا يجالس الناس فنزل مقبرة من المقابر وكان لا يزال في يده كتاب يقرؤه، فسئل عن ذلك فقا: “لم أر أوعظ من قبر، ولا آنس من كتاب، ولا أسلم من الوحدة”.(4)أنا الكتاب. واسمح لي – يا صديقي – إذا كنت قد خرجت من صمتي الأزلي لأحدثك .أنا لا يهمني ما شغلت به الآن من مظاهر حديثة مؤقتة. ستعود لي مهما طال الزمن لأنني جامع الحكمة، ومستودع المعرفة، ومخزن العلوم.أنا الكتاب: أتحدث عن نفسي في عظمة وشموخ. وأنت – يا صديقي – كن مع المرناة ووسائل التسلية الأخرى. إنني لا أخاف منها. سأظل بجانبك رغم وجودها حواليك، ورغم انصراف حبك لها عني. إنه حب مؤقت، أما محبتي لك فهي أبدية.وأخير، هل تعرف – يا صديقي – عدوي الحقيقي. العدو الذي أخاف منه كثيرا. العدو الذي يحرمني من رؤياك للأبد. إنه المستعير! إنه أكثر خطورة علي من كل وسائل الترفية المؤقتة مجتمعة.وكم أتمنى عليك – يا صديقي – في سبيل محبتي لك أن تتذكر قول الشاعر حينما يطرق بابك مستعير:ألا يا مستعير الكتب أقصر ….. فإن إعارتي للكتب عارفمحبوب من الدنيا كتاب ….. وهل أبصرت محبوبا يعار
المستعير عدوي.حينما تعيرني له. لن يردني اليك. لن يردني.

—————هوامش:—————
(1) راجع الجاحظ المحاسن والأضداد ص/ 6و7, تحقيق فوزي عطوي , الشركة اللبنانية للكتاب للطباعة والنشر والتوزيع, بيروت 1969 هـ(2) المرجع السابق ص/6(3) المرجع السابق ص/6(4) المرجع السابق ص/6

الناشر: جريدة اليوم

– العدد: 7193

تاريخ النشر: 23/02/1993م

رأي في كتاب : منطقة الأحساء عبر أطوار التاريخ

كنت، ولا أزال، أبحث عن الجديد في عالم الكتب عن أحوال الأحساء. ووقع في يدي كتاب عنوانه “منطقة الأحساء عبر أطوار التاريخ” لصاحبه الأستاذ خالد بن جابر الغريب. وشرعت في قراءة الكتاب على فترات متقطعة. وكانت قراءة تأملية فرضت علي أن أكون رأيا عنه. وكانت خلاصة هذا الرأي هو أن هذا الكتاب يمثل إضافة جديدة ذات دلالة علمية عن تاريخ منطقة من أهم مناطق المملكة العربية السعودية أضحى تاريخها، مثل تاريخ مناطق أخرى بالمملكة، في طي النسيان.ولا أعرف مؤلف الكتاب البتة. وكما ذكر المؤلف في كتابه عن نفسه من أن تعليمه محدود لا يتجاوز المستوى الابتدائي، وأنه موظف ببلدية الأحساء، وإمام مسجد “الصابر” بحي الرفعة الوسطى بمدينة الهفوف. ومن خلال قراءتي لكتابه تبين لي أنه واسع الاطلاع وذو ثقافة عامة.وكتاب الغريب مهم باعتباره مرجعا وثائقيا. وسيكون له شأن بعد مراجعته من قبل المؤلف مرة أخرى، وإدخال ما يلزم من أمور عليه مما تقتضيه عملية التأليف المعتبرة، وهي أمور سأشير إلى بعضها أدناه.والمنهج الذي اتبعه مؤلف الكتاب هو منهج المراجع العلمية ذات الطابع الجامعي التي تضع المادة العلمية كما هي دون تحليل أو تعليق. والهدف من ذلك إعطاء الحرية التامة للقارئ لكي يكون رأيه. ويذكرني هذا النهج الذي اتبعه الأستاذ الغريب بنهج السيد هربرت دبليو. برجز Herbert W. Briggs مؤلف أهم كتاب أمريكي في القانون الدولي العام التقليدي. وأعني به كتاب “قانون الأمم” The Law Of Nations والكتاب الأمريكي مرجع وثائقي بالولايات المتحدة الأمريكية أن يتخرج من مدرسة قانون أمريكية دون أن يدرس هذا الكتاب، أو لا يعلم عنه، أو على الأقل، دون أن يقتنيه في مكتبته الخاصة.كتاب “قانون الأمم” مشابه تماما لكتاب “منطقة الأحساء عبر أطوار التاريخ” وذلك من حيث النهج والشكل مع فارق هام وكبير بين الكتابين. التزم مؤلف كتاب “قانون الأمم” بأصول التأليف، وهي أصول تحميها قوانين أمريكية صارمة. أما مؤلف كتاب “منطقة الأحساء عبر أطوار التاريخ” فلم يلتزم بذلك. وليس الغريب هو المؤلف الوحيد الذي لم يلتزم باتباع هذه الأصول في منطقتنا العربية.ولقد شعرت براحة تامة بعد الانتهاء من قراءة كتاب الغريب، ووفر المؤلف لي وقتا وجهدا حيث وجدت فيه معلومات عن موضوعات كنت أرغب البحث عنها في أكثر من كتاب.إن كتاب “منطقة الأحساء عبر أطوار التاريخ” مفيد، وقيم، وهذه هي الأسباب:في إمكان هذا الكتاب أن يوفر الوقت والجهد لمن يرغب أن يبحث عن أية معلومة عن الأحساء في حدود المعلومات التي احتوى الكتاب عليها.ورغم ما ينقله المؤلف من الكتب الأخرى كحاطب ليل لصالح نفس المعلومة إلا أنه كان يدلي برايه أحيانا حول نفس المعلومة تحت رمز: وللمؤلف كذا وكذا.ومسلك المؤلف في هذا الكتاب مسلك يتصف بأمانة النقل. وأمانة النقل أهم الأدوات المعينة لطالب العلم والمعرفة. ولكنها أمانة كانت بحاجة إلى اجراء شكلي ذا أهمية في مجال حقوق الطبع والنشر. ويحتوي الكتاب على ثقافة عامة، وتاريخ، وجغرافيا، ومعجم مفردات.وبالكتاب معلومات جديدة مزينة بصور فوتوغرافية تنشر لأول مرة، وحصل المؤلف عليها بحكم عمله ببلدية الأحساء.ولي على الكتاب ملاحظات من الصعب التغاضي عنها. والتنويه عن هذه الملاحظات هي لصالح المؤلف أولا، ومن ثم الكتاب ثانيا، ومن ثم الباحث ثالثا. ومن أهم هذه الملاحظات:أولا: عدم التزام المؤلف، بعض الأحيان، بما يسمى في عالم التأليف بحقوق الطبع التابعة للمؤلفين أو الناشرين المعاصرين حيث في أكثر من موقع أغفل المؤلف الإشارة عما إذا كان قد حصل على إذن من صاحب المصدر بالنقل من المصدر أم لا؟ لاسيما وأن النقل كان على نحو متكرر وملفت للنظر. ووفقا لقواعد التأليف المتعارف عليها قانونا يعتبر الحصول على إذن مسبق بالنقل من المصدر من صاحب المصدر أو ورثته في حدود زمنية معينة فيه تشجيع للمؤلف إذا كان على قيد الحياة أو تكريم لورثة المؤلف إذا كان قد توفاه الله.ثانيا: لم يقم المؤلف، فيما يبدو لي، بمراجعة الكتاب مراجعة نهائية بل تقديمه للطبع حيث توجد به معلومات “مكررة” أو غير “محققة” عن موضوعات معينة وردت في أكثر من صفحة، وبالأخص في الأجزاء الأولى من الكتاب والمتعلقة بتاريخ الأحساء في العهدين: الجاهلي والاسلامي.ورغم ذه الملاحظات يظل هذا الكتاب (بجانب كتب أخرى) للباحثين من أهم الكتب التي تم تأليفها عن منطقة الأحساء. وسيظل هذا الكتاب هاما في المستقبل عندما يقوم مؤلفه بمراجعته لإعادة طباعته آخذا في الاعتبار ما أوردته من ملاحظات، وما قد يكون غيري قد أورده من ملاحظات لم أطلع عليها.والمؤلف مغامر وقد نجح فيما فعله، كما أنه، أي المؤلف، محب للعلم والكتاب ثمرة من ثمار هذا العلم.ولقد أعجبت كثيرا بما ورد بمقدمة الكتاب من أفكار، وكذلك بالملاحظات التي اختتم بها المؤلف كتابه. وكلاهما ينم عن تواضع جم.ورد بالمقدمة عبارات منها:هذه الصفحات التي أقدمها إلى القراء الكرام راجيا من الله عز وجل أن تكون صفحات نافعات، ولم أبتكرها ابتكارا، ولم ابتدعها ابتداعا، إنما هي ضوء مقتبس اقتباس انقطاعي إلى المطالعات والدراسات المتتاليات في كتب الأوائل والأواخر من العلماء والأدباء.وأورد الأستاذ الغريب ملاحظات اختتم بها كتابه:منها أن كل ما قام به المؤلف هو جمع ما تيسر له من الأبحاث والنصوص التاريخية والجغرافية عن منطقة الأحساء.ومنها أن كل ما استهدفه المؤلف من تأليف هذا الكتاب هو خدمة مسقط رأسه الأحساء. وقد دلل على حبه لوطنه بأبيات جميلة منها البيت التالي الذي لم أسمع عنه من قبل، كما أن المؤلف لم يذكر اسم قائله:بلادي وإن جارت علي عزيزة ……. ولو أنني أعرى بها وأجوع
والبيت الذي أحفظه، وقد أورده المؤلف مستبدلا، في شطره الثاني، عبارة “ضنوا” بعبارة “شحوا”، ويقرأ كالتالي:
بلادي وإن جارت علي عزيزة ……. وأهلي وإن شحوا علي كرام
وذكر المؤلف بيتا آخر ولكنه لم يذكر اسم قائله. والبيت هو:
وما المرأ إلا حيث يقضي حياته ……. لنفع بلاد قد تربى بخيرها
ومنها (أي من هذه الملاحظات) استشهاد المؤلف بما قاله العماد الأصفهاني، وهو استشهاد في محله. يقول الأصفهاني:
إني رأيت أنه لا يكتب انسان كتابا في يومه إلا وقال في غده:لو غير هذا لكان أحسن.ولو زيد كذا لكان يستحسن.ولو قدم هذا لكان أفضل.ولو ترك هذا لكان أجمل.وهذا من أعظم العبر.
وما دام المؤلف قد استشهد بهذا القول فأنا متأكد أنه سوف يعمل به عند اعادة طبع كتابه


الناشر: جريدة اليوم

– العدد: 7116

تاريخ النشر: 08/12/1992م