رحيل عملاق “د.رفعت المحجوب”

حدثني سماحة الشيخ محمد بن ابراهيم بن جبير وزير العدل حفظه الله ومتعه بالصحة والعافية بعد عودته الأخيرة من زيارة لجمهورية مصر العربية أنه التقى بأحد أساتذتي، وأن هذا الأستاذ قد أثنى، لدى سماحته، علي حينما كنت طالبا بكلية الحقوق – جامعة القاهرة فيما بين الأعوام 1378 حتى 1382هـ الموافق 1958 حتى 1962م.وآخر لقاء لي مع أستاذي كان في مدينة نيودلهي العاصمة الهندية. وكان كل منا وقتها يمثل بلاده في تعزية الحكومة الهندية في وفاة السيدة إنديرا غاندي رئيسة وزراء الهند.لقد التحقت بكلية الحقوق – جامعة القاهرة. وبتوفيق من الله سبحانه وتعالى كنت في أول فصل دراسي بها الأول على أكثر من ألفي طالب. وفي بداية الفصل الدراسي الثاني من نفس العام سأل أستاذي الطلبة في مدرج العميد بدر عمن كان الأول من بينهم. وأشار كل الطلاب علي فوقفت وأنا أتصبب عرقا حيث لم أر بدا من الوقوف بين زملائي . ووجه أستاذي لي سؤالا في علم الاقتصاد السياسي. ووسط همس وضجيج وتصفيق الطلاب أعترف أنني لم أحسن ظنه في. وزرت أستاذي في مكتبه المتواضع بالقرب من المدرج الشهير. ولما علم أنني طالب من المملكة العربية السعودية سر كثيرا وحدثني عن التفوق وإيجابياته. ومن ثم جرى حديث بيننا عن المملكة العربية السعودية. ووعدته بتزويده ببعض المطبوعات عن بلادي حيث زودته فعلا ببعض المطبوعات التي حصلت عليها (من المديرية العامه للصحافة والطباعه والنشر بجده) أثناء زيارتي له في منزله الكائن بشارع الدري بالعجوزه. ومن وقتها توطدت علاقتي به وصرت أحرص على حضور محاضراته في الاقتصاد السياسي بالكلية. وكان يشدني إلى محاضراته كونه عالما فذا، ومحاضرا متمكنا، ومحدثا بارعا، قوي الحجة، قوي التأثير. وكان أستاذي ذا قدرة متناهية في فرض احترامه على طلابه. وكان لا يتردد في استعمال الالفاظ القاسية ضد أي طالب مشاغب. وكانت أسماع الكثير من الطلاب تطرب حينما يتحدث في لغة عربية فصحى، على سبيل المثال، عن قانوني تناقص المنفعة الحدية وتزايد الألم الحدي ممثلا لها بوحدات البرتقال والخبز وعن المقارنات بين النظم الإقتصاديه كالرأسمالية والاشتراكية والشيوعية. وكان أستاذي يستخدم أثناء القاء محاضراته مصطلحات اشتهر بها. وكان منها “وفي تعبير متكافئ و”خلاصة القول” و”نخلص مما تقدم” و”ومن الممكن القول” و”تفسير ذلك” و”في تعبير آخر”. وكان من شأن حرصي على حضور دروس هذا الأستاذ العملاق ومحاضراته أنني حصلت وقتها وبتوفيق من الله عز وجل على جائزة كلية حقوق القاهره في الاقتصاد السياسي حيث تسلمت هذه الجائزة في أحد أعياد العلم الشهيرة بالجامعة في عام 1382هـ الموافق عام 1962م.كان أستاذي معلما بارزا بجامعة القاهرة. تخرج من كلية الحقوق بتفوق عام 1948م، وتدرج في مقاعدها العلمية حتى وصل إلى درجة الأستاذيه بها . وحاضر بكلية التجارة، ومن ثم تقلد عمادة كلية الاقتصاد والعلوم السياسية التي أنشئت فيما بعد بنفس الجامعة. وله مؤلفات في الاقتصاد والعلوم المالية في مستوى المراجع العلمية.وشاءت قدرة الله أن ينتزع هذا المعلم من عالم العلم الى عالم السياسة العربية. هذا العالم المحفوف، في الاحوال المعاصرة، بالمخاطر وعدم الاستقرار والعنف واللاعقلانيه.وتقلد هذا الاستاذ مناصب سياسية مختلفة في بلاده. وتربع لعدة سنين وحتى فارق الحياة على مقعد رئاسة مجلس الشعب المصري مساهما في صنع ارادته وهو ثاني منصب سياسي في أرض الكنانه. وكانت له اثناء شغله لهذا المنصب معارك في الحوار والجدل التشريعي مع قدرة فائقة على المناقشة، وهيمنة لا توصف على ناصية الكلمة الرصينة. وكان يروي عنه أنه كان يعامل بعض نواب الشعب معاملة الاستاذ لطلبته حيث كان الكثير من هؤلاء النواب في الأصل من طلبته.وجرت محاولات لتشويه سمعته بعد رئاسته لمجلس الشعب المصري عن طريق النيل من أحد اقاربه فلم تهزه هذه الحادثه.كان أستاذي من أساطين القانون والاقتصاد والتشريع في عالمنا العربي.وقتل يوم أجله. ويقال أن المستهدف غيره. ولا راد لقضاء الله وقدره. وإنا لله وإنا اليه رآجعون. ولقد تأثرت كثيرا عند علمي بحادث اغتياله. وهو الاغتيال الذي فقدت به مصر واحدًا من أكبر مثقفيها وساستها. رحم الله معالي الدكتور رفعت المحجوب، وألهم أهله وذويه وأبناء الكنانة الصبر والسلوان.


الناشر: جريدة الرياض

– العدد: 8198

تاريخ النشر: 04/12/1990

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.