و مات أبو هشام

 

 

قبل وفاته بأيام كنت في زيارته في المستشفى التخصصي، وكان، وهو يقاوم المرض، كالطود الشامخ في علو همته، وارتفاع معنويته، ورباطة جأشه، وكان كما لو كان صحيح الجسم، قوي الإرادة، يسأل عن الحال والأحوال، ومتابعاً لما يجري في حيوية ونشاط متناهيين، بل ولا يبخل بالنصيحة.
وكما عهدته كان يأنس بوجودي بجانبه، وأنا كذلك. لقد زرته، وكان وحده، فتبادلت معه أحاديث محببة إليه، وكانت أحاديث تدخل السرور على نفسه لدرجة أنها كادت تنسيه ما يعانيه، كان مبتسماً، وفي الوقت نفسه صابراً محتسباً.
ولم أكن أعلم أن تلك الزيارة كانت الزيارة الأخيرة لصديق من أعز الأصدقاء عندي. وعلمت بوفاته وأنا في مدينة (لكنو) بجمهورية الهند؛ فبادرت بالتعزية هاتفياً من هناك، وأنا في حالة يرثى لها من الكآبة والحزن الشديد لهذا الفراق الذي خلف في القلب لوعة، وفي الخاطر أشجاناً.
مرض مفاجئ، ومن ثم موت مفاجئ خلال فترة قصيرة من الزمن.
يا لهول الفاجعة، إنها صدمة! ولكن لا راد لقضاء الله وقدره.
صداقتي مع (أبو هشام) تمتد لأكثر من ثلث قرن، وكانت صداقة ملؤها الحب، والوفاء، والصفاء.
والحديث عن مشوار هذه الصداقة يطول، ولولا ضيق المكان لكشفت الغطاء عن مخزون من الذكريات معه التي معينها لن ينضب، ومع ذلك فمن هذه الذكريات سأنقل مجرد صور أو نماذج من تلك الذكريات القريبة من أرض الواقع، ودون الخوض في مديح عام لا يسمن ولا يغني من جوع.
كان الذي عرفني بالفقيد، ولأول مرة، محب الجميع صاحب الفضيلة معالي الشيخ حسن بن عبدالله آل الشيخ وزير المعارف يرحمه الله. وكانت مناسبة التعرف أمراً متعلقاً بخلل أكاديمي بلوائح نظام جامعة الرياض (جامعة الملك سعود حالياً)، وكان ذلك الخلل متعلقاً بالدرجات العلمية التي كانت تمنح مجاناً، وبدون جهد علمي يذكر، بغرض الترقية من درجة (أستاذ مساعد) إلى درجة (أستاذ) لمن يحتل مناصب إدارية عليا بالجامعة المذكورة، وانتقل ذلك الخلل إلى جامعة الإمام محمد بن سعود التي تبنت نظام جامعة الملك سعود ولوائحه آنذاك. وكان (أبو هشام) يحتل منصب (الأمين العام) لجامعة الإمام.
كانت لوائح نظام جامعة الملك سعود تقرر، آنذاك، أن من يعين في منصب (الأمين العام للجامعة) أو (وكيل الجامعة) أو (مدير الجامعة)، وهي مناصب إدارية محضة مع الدكتوراة بالطبع، ويبقى في المنصب لمدة سنتين، يحصل مباشرة على لقب (أستاذ). وكان الترتيب لهذا الوضع من فعل الأستاذ (حسين السيد) الذي كان عميداً لكلية التجارة والذي كان صاحب الأمر والنهي لعشرات السنين في جامعة الملك سعود ولدرجة أنه هو قد حصل على درجة (أستاذ) وكان يحمل درجة الماجستير في الضرائب مستفيداً من الخلل الأكاديمي المشار إليه في لوائح الجامعة.
وحينما عُيّن (أبو هشام) في منصب (الأمين العام) لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في عام 1394هـ، والجامعة آنذاك حديثة النشأة، كنت قد كلفت حينما كنت عميداً لكلية التجارة من قبل وكيل الجامعة آنذاك الصديق العزيز الأستاذ الدكتور (عبدالله النافع) بدراسة أوضاع من يحصلون على درجة الدكتوراة بغرض تعيينهم، حيث كان هناك تفاوت في تحديد التاريخ الذي يعينون فيه. وكان التعيين يتم بقرار من مجلس الوزراء. ولقد أعددت دراسة آنذاك من خلال النظر في ملفات بعض الإخوة العائدين من الخارج الحاملين للدكتوراة. وكان الغرض من الدراسة تحديد تاريخ التعيين في درجة (أستاذ مساعد) بالجامعة؛ وذلك حتى لا يظلم أحد في إطار التعيين وفي حساب التقاعد. وعلم عن هذه الدراسة معالي الشيخ (حسن).
في ضوء هذه الخلفية كان (أبو هشام) يرغب في تعديل وضعه الأكاديمي ليحصل على درجة الأستاذية أسوة بزميل يحتل منصب (الأمين العام) بجامعة الملك سعود.
زارني (أبو هشام)، وبتوجيه من معالي الشيخ (حسن)، في شقتي التي أسكن فيها بحي الملز للنظر في وضعه العلمي، من الناحية القانونية، وحتى لا يحرم من فرصة متاحة استفاد منها آخرون بحكم اللوائح.
كان اللقاء مريحاً مع (أبو هشام)، وحميماً في الوقت نفسه. تبادلت معه الرأي في الوضع مستعرضاً معه الخلل العلمي الذي كانت لوائح نظام جامعة الملك سعود تتضمنه، وهو خلل الاستفادة منه ليست في صالح التعليم الجامعي؛ إذ كيف يحصل حامل الدكتوراة حديث العهد بها لو عين في أحد المناصب الثلاثة التي أشرت إليها سلفاً، وبقي بها لمدة سنتين، ليكون في درجة (أستاذ) دون المرور على الدرجات العلمية المتعارف عليها من حيث الترقية الأكاديمية – أستاذ مساعد، أستاذ مشارك، ثم أستاذ -؟ هذا وضع علمي غريب يلزم النظر فيه، والإبقاء عليه من شأنه تجهيل التعليم الجامعي. وبالفعل تم تعديل لوائح النظام، وأزيل الخلل منها فيما بعد.
غادر (أبو هشام) شقتي متفهماً الوضع، ولم أجد عنده أي امتعاض أو مضض أو تأفف وقتها مما تم بيني وبينه من حديث أحطت معالي الشيخ حسن علماً به. هكذا خُيّل لي وقتها، وما خيل لي كان حقيقة ودلل ذلك على رجاحة عقل (أبو هشام)، وحسن تبصره، بل وتفهمه للأمور لما فيه مصلحة التعليم العالي. ومنذ ذلك اللقاء الذي كان أخوياً وعلاقتي ب(أبو هشام) تتوثق وتتوطد يوماً بعد يوم. وهي علاقة استمرت عبر السنين على أحسن ما يرام حتى علمي بنبأ وفاته بتاريخ 21-5- 1429ه وأنا في الهند.
عُين (أبو هشام) وكيلاً لوزارة الشؤون البلدية والقروية للشؤون التنفيذية في عهد صاحب السمو الملكي الأمير ماجد بن عبدالعزيز وزير الشؤون البلدية والقروية في عام 1396هـ، وكان من شأن ذلك التعيين وضع نهاية للمشكلة التي حاول (أبو هشام) معالجتها حينما كان (أميناً عاماً) لجامعة الإمام.
وكان أثناء عمله بالبلديات – حسب علمي، ولا أزكي على الله أحداً – مثال الموظف القوي الأمين، ناهيك عن الإخلاص والنزاهة التي اتصف بهما. كان محيطاً بمداخل الأعمال المنوط بها يؤديها دون طيش بَيِّن أو هوى جامح يسعفه في ذلك تخصصه الأكاديمي العالي المتعلق بالجانب الاجتماعي الحضري للمدن. ول(أبو هشام) مواقف حازمة في إدارته لدفة الأعمال المنوطة به. ولعلي، على سبيل المثال، أسوق في هذا السياق قصة طريفة عن موظف كان (أبو هشام) صاحب الفضل في ترشيحه لمنصب أحد المرافق التابعة للوزارة؛ وذلك توخياً منه أنه الرجل المناسب للمنصب المرشح له. وبالفعل عُين الموظف في المنصب المرشح له، وتصادف أن كان لدى هذا الموظف معاملة لأحد المواطنين. ولما راجعه صاحب المعاملة تلكأ هذا الموظف في تنفيذ ما هو واجب عليه تنفيذه لدرجة أنه أخذ يساوم صاحب المعاملة لكي يحصل على ترقية؛ وذلك لأن صاحب المعاملة ذو نفوذ. صار صاحب المعاملة في حيرة من أمره. ولما وصل العلم إلى (أبو هشام) اشتاط غضباً لدرجة أنه كاد يخرج عما عرف عنه من هدوء في الطبع، وحلم وأناة. تناول (أبو هشام) الهاتف، وصبَّ جام غضبه على صنيعه في صوت متجشم، وفي زئير كزئير الأسد، وكان ذلك بألفاظ كلها أدب، ولكنها كانت تحمل ما تحمل من تأنيب وازدجار. وبعد حين من الزمن أبعد ذلك الموظف من المرفق الذي كان يحتله.
وكان هناك لجنة هي لجنة (التكليف المباشر)، أو لجنة (السيادة)، أو بالأحرى لجنة كانت بمثابة (مجلس وزراء مصغر) في فترة الطفرة الأولى، وكان أعضاء هذه اللجنة أربعة وزراء هم مع الاحتفاظ بألقابهم: محمد العلي أبا الخيل، ومحمد إبراهيم مسعود، وأنا، والوزير المختص، وكان خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز – يرحمه الله – يصادق على قرارات اللجنة حينما كان ولياً للعهد ونائب رئيس مجلس الوزراء، وكانت هذه اللجنة تنظر في المعاملات المالية المتعلقة بكل وزارة أو مؤسسة حكومية مما يدخل في إطار التكليف المباشر بأكثر من مليون ريال فما فوق وحتى المليار. وكان من صلاحية اللجنة استدعاء الوزير المختص أو من يمثله إذا كانت الحاجة تستدعي ذلك. وتشاء الصدف في أكثر من مرة أن تستفسر اللجنة في بعض المعاملات المحالة إليها من وزارة الشؤون البلدية والقروية. كان سمو الأمير ماجد يرسل (أبو هشام)؛ لأنه محل ثقته للمثول أمام اللجنة. ويشهد الله – سبحانه وتعالى – أن اللجنة كانت ترتاح حينما يَمْثُلُ (أبو هشام) أمامها. كان في بدء لقائه باللجنة يقول لها بدون تردد إنه لم يأت للجنة باعتباره وكيلاً لوزارة البلديات مدافعاً أو مترافعاً عنها أمام اللجنة، إنما جاء باحثاً عن الحقيقة، وهدفه الصالح العام مع استعداده للإجابة عن أي استفسار يعنُّ للجنة. وكان (أبو هشام) يتحدث أمام اللجنة في تواضع وأدب جمّ. كان من القلة الذين يمثلون أمام اللجنة بمثل تلك الروح الشفافة التي تنمّ عن رجاحة عقل، وبُعد نظر، وأمانة لا حدود لها في نطاق عمله كوكيل وزارة. وكثيراً ما كان يحصل على ما يريد لصالح وزارته.
وترجل (أبو هشام) من منصبه كوكيل وزارة برغبته، ثم عمل في القطاع الخاص. وفي كليهما كانت له مواقف شجاعة عانى أحياناً فيهما. ولكنه كان المنتصر في نهاية المطاف، ثم أنشأ مركزاً للبحوث والدراسات الاجتماعية أجرى من خلاله بحوثاً ذات نفع.
وكانت صلتي ب(أبو هشام) مستمرة. وحدثني بعد تخليه عن عمله الحكومي بما معناه أنه حينما كان على رأس العمل كان يصل مثقلاً بهموم العمل ظهراً إلى منزله لتناول طعام الغذاء. كان الطعام يسخن له أكثر من مرة لكثرة رنين الهاتف بمنزله من أصحاب المصالح الذين كانوا يهاتفونه. ولكنه اكتشف في الأسبوع الأول من بعد تركه للوظيفة أن هاتفه صار صامتاً كالجثة الهامدة يعلوه الغبار. ذهب أصحاب المنصب مع المنصب، ولم يبق مع (أبو هشام) إلا أصدقاؤه الخلص يلتقي بهم، ويأنس بهم، وكان (أبو هشام) يحمد الله – سبحانه وتعالى – على ذلك، وكان يردد: تجربة! تجربة!
وذات مرة، وحينما كان (أبو هشام) في وزارة الشؤون البلدية والقروية وُجِّهت لي دعوة لزيارة (الرس) من قبل وجيه (الرس) الشهم الشيخ (حمد المالك)، يرحمه الله، وكان رفقاء السفر (أبو هشام)، وشقيقه (أبو أسامة) أحمد، وابن عمهما (أبو بشار) خالد. كان (أبو هشام) محورياً في إضفاء الأنس والسرور والبهجة في هذه الرحلة. أما بالنسبة لي فكانت زيارة (الرس) زيارة مفيدة وممتعة، وقد نوهت عنها صحيفة (الجزيرة) في حينها بأنها (زيارة تفقدية) أو (زيارة تاريخية) على ما أتذكر. وكان التنويه محل تعليق لطيف فيه شيء من المداعبة آنذاك من صاحب السمو الملكي الأمير (ماجد بن عبدالعزيز). كان الزيارة لحاضرة (الرس) زيارة ناجحة بكل المقاييس، وكان (أبو هشام) خلال الرحلة وأثناءها وخلال العودة من منطقة القصيم، بما فيها حاضرة (الرس)، يحدثني عن تاريخ القصيم بصفة عامة، وعن تاريخ (الرس) مسقط رأسه بصفة خاصة. وكان حديثه حديث المؤرخ الواثق بنفسه.
وكان ينطبق على هذه الرحلة التي لا تنسى ذكرياتها قول الشاعر: (وسافر ففي الأسفار خمس فوائد: تعلم فن، واكتساب معيشة، وعلم، وآداب، وصحبة ماجد).
كان أسُّ رابطة الصداقة بيني وبين (أبو هشام) الود، والمحبة، وتبادل الآراء، ولم تكن بيني وبينه روابط من طبيعة مادية، وهي روابط ربما يكون من شأنها في بعض الأحيان تكدير صفو، أو جلب جفوة.
ورغم تقلده وكذا تقلدي لوظائف عامة إلا أنّا كنا بعيدين في إطار العمل الرسمي عن بعض، وأعني بذلك أنني لم أرأسه، كما أنه لم يرأسني، كما أننا لم نشترك معاً حتى في لجنة واحدة. وهذه نعمة من نعم الله – سبحانه وتعالى – علينا، بل وهذه دالة كبرى على توثق العلاقة ودوامها فيما بيننا. أقول هذا ضد خلفية لا تخفى على من تقلد وظيفة ما؛ إذ إن من شأن تقلدها، ومن ثم ممارستها إلا ما ندر، أن تترك في النفس بعد التخلي عن الوظيفة مما يعكر الصفو، وذلك حينما تتصادم المصالح والمشارب والاتجاهات أثناء ممارسة أعمال الوظيفة.
ومما أعرفه عن (أبو هشام) محبته لتخصصه وهو علم الاجتماع، ناهيك عن مدى تمكنه من اللغة العربية ومعرفة مداخلها ومخارجها، وله بحوث في مجال تخصصه مطبوعة، و(أبو هشام) لو لم تختطفه الوظيفة العامة (مثلي) لكان له شأن كبير في إثراء العلم في أي جامعة يتولى التدريس بها. وإن العوض مع ذلك عنده أن له في كل ما تولاه من عمل إسهامات وبصمات يشهد له بها كل من عرفوه..
ومما أعلمه عن (أبو هشام) عن قرب أنه يحب البحث، وكان من اهتماماته الكبرى، كما أخبرني، أنه حينما يشترك في أية لجنة كان يبدي في نهاية اجتماعاتها تطوعه بإعداد مسودة محضر الاجتماع نيابة عن أعضائها، وكان لا يترك شاردة ولا واردة مما ورد في الاجتماع إلا وهي في صميم المسودة. وإعداد محاضر الاجتماعات، كما خبرت ذلك شخصياً في ممارسة أعمالي الرسمية، يحتاج إلى صاحب يراع ذي مهارة، ناهيك عن أن (أبو هشام) ذو قلم سيال لا يشق له غبار، أما اللغة العربية فهو مالك لناصيتها إن لم يكن ابن بجدتها.
كان (أبو هشام) هادئ الطبع، ذا أخلاق نبيلة، وسجايا حميدة، يحب الاستماع، ويتكلم عند الحاجة، قادراً على مقارعة الحجة بالحجة في هدوء، يستسلم في الحال للرأي السديد، حتى لو كان مخالفاً لرأيه. يحب المداعبة، وأشهد أني كثيرا ما أستمع له، وآخذ بما يراه؛ لأنه حينما يتكلم يزن الأمور. وكان يستشيرني فيما يعن له، وأدلي له بما أراه، لأنه لا يستبد برأيه. كانت الاستشارة ديدنه ولا سيما في أمور الشورى وكان يطلبها مني وذلك باعتباري كنت عضواً باللجنة العليا لوضع (النظام الأساسي للحكم، ونظام الشورى، ونظام المناطق).
حينما علمت بمرضه المفاجئ حزنت كثيراً، ولكنني في الوقت نفسه استسلمت لقضاء الله – سبحانه وتعالى – وقدره.
وكنت في الولايات المتحدة الأمريكية في ولاية (كنكتكت) حيث جامعة ييل Yale الأمريكية التي تخرجت فيها. وعلمت أنه نزيل مصح (مايو كلنك) في (مانشستر) في ولاية (منيسوتا) لتلقي العلاج فيه. قمت بزيارته رغم بُعد المسافة؛ إذ استغرقت رحلتي للوصول إليه يومين عبر ولاية (فيلاديفيا) وولاية (ألينويز) الأمريكيتين. كان ذلك في فصل الشتاء حيث الثلوج الكثيفة التي عطلت الكثير من الرحلات في المطارات. زرته لمدة يومين. رحب بزيارتي له كعادته حينما أزوره في منزله العامر بالرياض. وبالرغم من المرض الذي كان يعاني منه والذي كان بادياً على هيئته ومعالم وجهه إلا أنه كان قوياً بإرادته، متحملاً الآلام بابتسامة لا تفارق شفتيه، شجاعاً، كبير الأمل في الله، لم يقعده المرض عن القيام بواجب الضيافة، وحسن الاستقبال.
وأثناء زيارتي ل(أبو هشام) كان الملحق الصحي بالسفارة في واشنطن الأستاذ (صالح بن محمد القاضي) في زيارة تفقدية للمرضى السعوديين بمصح (مايو كلنك). أخبرني (أبو هشام) عن قدوم الزائر. وكانت المفاجأة أنه قد أعد لزيارة الملحق الصحي إعداداً جيداً حيث جمع غالبية المرضى من بني الوطن بالمستشفى في قاعة من قاعاته، ودعاني (أبو هشام) لحضور الاجتماع؛ وذلك للاحتفاء بالملحق الصحي. تحدث الأستاذ (القاضي) أثناء الاجتماع عن سبب زيارته، وعن أنه يرغب الوقوف على أحوال الحاضرين من المرضى عن قرب. وفي بداية الاجتماع تحدث (أبو هشام) حديث الرجل الواثق بنفسه مرحباً بالملحق الصحي، كما قام في حديثه بشرح بعض المواد من (النظام الأساسي للحكم) المتعلقة بالعناية الصحية التي توليها حكومة خادم الحرمين الشريفين للمواطنين في داخل المملكة وخارجها. كان حديث (أبو هشام) من القلب للقلب. وأثناء الاجتماع عقبت على حديثه وشكرته على مسعاه. وهو رغم مرضه إلا أن حسه الوطني أكبر مما يعانيه. ما أرويه ليس إلا لمسة من لمسات (أبو هشام) ذات الشفافية. كان بمثابة خادم القوم. كانت عنايته بزملائه المرضى من أولى اهتماماته. نسي نفسه في سبيل تحقيق مطالبهم التي نقلها بالنيابة عنهم إلى الموظف المسؤول.
هذه هو شأن أو ديدن (أبو هشام) في صحته ومرضه.
وينتمي أبو هشام إلى أسرة كريمة شَرُفْتُ بالتعرف على العدد الأكبر من أفرادها. وفي مقدمتهم الصديق العزيز شقيق (أبو هشام) معالي الدكتور (أحمد) وكذا الكثير من أبناء عمه وفي مقدمتهم الشاعر الفحل (صالح)، وفضيلة الشيخ (منصور)، وكذا الصديق الحميم (أبو بشار) أحد رموز الصحافة الكبار في بلادنا والصديق العزيز (محمد). واعتاد (أبو هشام)، وفي بعض الأحيان برفقة (أبو بشار)، المرور عليّ بمنزلي مساء لأذهب معه، إما إلى مجلس أحد أقاربه حيث تجمع الكثير من أفراد الأسرة، أو إلى مجلس (المالك) الأسبوعي العامر لألتقي بصحب كرام من أبناء الأسرة. كانوا يسعدون بمن يزورهم، وتعلو على وجوههم علامات البشر والسرور.
أما صولات معالي الدكتور صالح بن عبدالله المالك أمين عام مجلس الشورى في مجلس الشورى فأنا أترك ذلك لمن عاصروه بالمجلس، ولقد حدثني الكثير منهم ممن أعرفهم عن دقة إدارته لدفة مجلس الشورى المكون من مشارب مختلفة، وذلك فيما يخصه (كأمين). يقول عنه فضيلة معالي الدكتور صالح بن عبدالله بن حميد رئيس مجلس الشورى، ولا ينبئك عنه مثل خبير: (واكب (أبو هشام) العمل في مجلس الشورى منذ بداية تكوينه الجديد فأكمل فيه ثلاث دورات متتالية عضواً من بين أعضائه؛ فأظهرت تجربة الشورى فيه إنساناً معطاءً منتجاً باذلاً؛ فكان بحق من أهل الشورى والرأي، يثري الموضوعات طرحاً؛ فتدرك منه حسن طرحه، وقوة فكره، وحسن فهمه، وعمق تجربته، يقدم ذلك كله بلغة عربية يتجلى فيها جمال الفصحى. كان أهلاً للثقة حين اختير أميناً عاماً لمجلس الشورى؛ فواصل مسيرة العطاء وأدى الأمانة، وقد حباه الله قلماً سيالاً في النثر والشعر وخطاً جميلاً، وذائقة أدبية رفيعة، وله جلد وصبر على القراءة؛ فكان في بعض أسفاره يمضي معظم ساعات يومه في القراءة والمطالعة، حتى أنه ليصل ساعات نهاره بليله إلى أن يقترب الفجر).
ولكي أختم لا بدَّ لي من القول إن الزيارات لم تنقطع بيني وبين (أبو هشام)، أحياناً بمنزلي وأحياناً بمنزله. وكنت محل ترحاب حتى من والدته – يرحمها الله – حينما تعلم بوجودي معه، وهي والدة حنون رؤوم تفرح لفرحه، وتحزن لحزنه. ويكفي أنها الأم، وما أدراك ما حنان الأم. كان يستشيرها، ويأخذ برأيها، وكم كان حزيناً لفقدها وهو في سفر. وكنت أغبطه لما هو فيه من سعادة في أحضان أمه، كنت أغبطه لأنني فقدت والدتي وأنا طفل صغير.
كان لدى (أبو هشام) حس وطني من ملامحه شغفه بالمنتج الوطني، وعلى سبيل المثال حينما يزوره زائر بمنزله كان يقدم له أحسن منتجات القصيم من التمور ومشتقاتها بدلاً من تقديم علب الشيكولاتة وأصناف الحلويات المقرطسة مما تكتظ به أسواق العولمة الغربية الاستهلاكية، العدو اللدود للمنتجات الوطنية. وكان (أبو هشام) يفتخر بتمور منطقته أمام زائريه وأنا منهم. كانت تمور القصيم، وأشهرها (السكري)، معروضة في سلات وأطباق بمجلسه. وكنت، من باب المداعبة، أتحداه في بعض المناسبات قائلاً: إن تمر (هجر) أو محافظة الأحساء، وعلى رأسه تمر (الخلاص)، أحلى وأغلى. كان عندما يستمع لقولي يضحك، ويضحك، ويضحك دون أن يتفوه ببنت شفة، وكان يخيل لي، مع ذلك، أنه كان يقول داخل نفسه – رغم الصمت – إن تمر (القصيم) أحلى وأغلى. ولقد أهداني في آخر زيارة له بمنزله قبل مرضه (تنكة) مملوءة بالتمر من تمور القصيم. وكانت هدية عزيزة غالية عندي.
كم كنت أتمنى لو أن الموت لم يغيّب (أبو هشام) لأزوره بمنزله مرات ومرات، ولكن الموت حق. وإن عزائي الآن في بيتين للشاعر الأمير (أسامة بن مرشد الكناني) أرددهما كلما مررت على منزل هذا الصديق العزيز الفقيد:
إذا أنا شارفت الديار تحدثت **** بمكنون أسراري الدموع الذوارف
وما ذا انتفاعي بالديار وقربها **** إذا أقفرت من كل ما أنا آلف
وتبقى لي وقفة مع (أبو بشار):
لقد بكيتَ، وأبكيتَ. وما سطره يراعك بعنوان (والرجال يبكون أيضاً)، وبعنوان (حزن لا ينتهي) في (أبو هشام) ليس إلا أحاسيس ذات شفافية لم تعبر بها عما يدور في نفسك وحدك من خلجات حزينة. لقد عبرت بالنيابة عما تجيش به نفس كل محب للفقيد.
عباراتك الحزينة ذات النبع الفياض واللوعة المتأججة ضربت على أوتار حساسة فأجَّجت الخواطر، وألهبت المشاعر، وجعلت في القلب ناراً ذات لهيب لن ينطفي.
نشاركك في مصابك الجلل، في ابن عمك، والحبيب إلى قلبك وقلبي، بالدعاء له بأن يتغمده الله برحمته.
ذكرى (أبو هشام) يا (خالد) ستتجدد عبر الزمن كلما ألتقي بك، وسيكون (أبو هشام) بيننا، كما كان بيننا فيما مضى من أمسيات جميلة، وذلك بما تركه لنا من أحاديث عذبة، ورؤى صائبة، وتعليقات خفيفة رشيقة سنعيدها ونعيدها؛ لأنها معين لن ينضب.
أسأل الله – سبحانه وتعالى – أن يتغمد الفقيد بواسع رحمته، وأن يسكنه فسيح جناته، ويلهم أهله: أم هشام وأم سلطان، وأبناءه: هشام وعبدالله وسلطان، وبناته: جميلة وسلوى وأميرة وليالي وفرح، الصبر والسلوان. كما أخص بالعزاء شقيق الفقيد (أبو أسامة)، وكافة أبناء عمه وعلى رأسهم: صالح ومنصور ومحمد وخالد.
(إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ).. وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
———————————————

الناشر: جريدة الجزيرة

– العدد 13046

تاريخ النشر: 17-6-2008 م

الرابط للمصدر
ومات أبو هشام بقلم الدكتور محمد بن عبداللطيف آل ملحم (*)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.