موضوع ترك الوظيفة العامة أو الإحالة إلى التقاعد أو التقاعد نفسه من الموضوعات التي كثر الحديث عنها، بل لا يزال الحديث عنها موضوع الساعة. والانفكاك من الوظيفة العامة أي التقاعد إما أن يكون اختيارياً أو قانونياً أو قسراً. تعدّد الأسباب والتقاعد في المحصلة النهائية واحد. والسؤال الذي يطرح نفسه: ماذا يفعل الموظف بعد التقاعد؟ هناك من يتقاعد وبعد التقاعد يجد نفسه في مسرة، وآخر يجد نفسه في كآبة تنتهي به إلى عزلة أو مرض. وسأقتصر هنا على ذكر ثلاثة آراء في التقاعد (لأديب) و(لي) ولشيخنا المربي الفاضل (بو ناصر). سئل الأستاذ الأديب الشاعر (حسن بن عبد الرحمن الحليبي) بعد أن تقاعد عن التدريس في (المعهد العلمي بالأحساء) عن رأيه في التقاعد فكانت وجهة نظره كما أملاها عليَّ بالهاتف كما يلي: (عز بعد ذل، وصحة بعد سقم، وراحة بعد تعب، وحياة بعد موت)، وهذا رأي غريب ومثير للتساؤل ولعل صاحبه على حق. أما عن وجهة نظري فلقد عبّرت عنها في جريدة (الجزيرة) بأن (التقاعد عبارة لم أفهم معناها. وإذا تقاعد الموظف العام فهو في حقيقة الأمر ينتقل من موقع إلى موقع آخر. وربما يكون في الموقع الجديد أكثر إنتاجيةً وعطاءً. أما أستاذنا المربي الكبير (بو ناصر) فله وجهة نظر عن التقاعد. تحدث عن وجهة النظر هذه، ورسم برنامج عمل لمن يتقاعد. ووجهة نظره وبرنامج العمل الذي حدده جديران بالاهتمام. عبّر المربي الفاضل عن وجهة نظره أثناء تعليقيه على كتاب ألفه طالب علم نبيل، وكان أحد طلبتي في معهد الإدارة العامة عندما كنت عميداً لكلية التجارة – جامعة الرياض آنذاك ومحاضراً غير متفرغ بمعهد الإدارة العامة في أوائل التسعينيات من القرن الهجري الماضي. إنه الأستاذ (عبد الكريم بن حمد بن إبراهيم الحقيل). وعنوان الكتاب (منهل المستفيد من الشعر المفيد). استهل المربي الفاضل تعليقه بوجهة نظر ضافية عن التقاعد. وهي وجهة نظر مبرمجة. يقول المربي الفاضل: اعتقاد الكثير أن التقاعد وأد وموت، وهذا خطأ محض، بل إن التقاعد بعث ونشر لعدة اعتبارات: أولا – أن المتقاعد قضى شبابه في العمل والإخلاص، وصُهر بلا شك في أداء واجبه وفي معلوماته التي كررها ورسخها في ذهنه وغرسها في الأفكار.. ثانياً – أن عصر الشباب والفتوة زال عنه.. وأقبل على شيخوخة فيها ما فيها من الفوائد.. ثالثاً – لو كلف نفسه وشق عليها ومن ثم تجاوز في مواصلة العمل أكثر وأكثر من السنوات فوق الستين تماماً لكلّ جهده.. وشاخ فكره.. وتضاءل ذهنه.. واستنفد طاقته وذكاءه وما استطاع، ولَبَدَا على العمل نقص وظهر فيه شرخ بل ضعف.. رابعاً – ما دامت هذه التجارب والسنوات الزاهرة التي فيها كفاح الشباب وفتوته.. والرجولة وحيويتها والتي انفضت في عمل ودأب خدم بها الدولة والبلاد والمرفق.. أفلا يشعر بأنه يستطيع أن يجعل من بقية العمر مزرعة للآخرة يعود فيها إلى ربه مستقراً ذهنه في عبادة هادئة.. وحياة هانئة.. يستذكر فيها حسنات العمل وعلاقته مع الناس وصلاته بهم ليسجل فيما يعود عليه بالفائدة كتاباً إن كان قارئاً أو لقاء بالآخرين لاستغلال الفراغ واستعمال ما هضمه من عمله.. وما اكتسبه من خبرته في أن يكون له ما يلي: أ- أن يتصل بمن له بهم صلة، وأن يجتمع بهم، ويبرم معهم أوقاتاً يلتقون فيها، ويتبادلون بها هذه الاجتماعات مع الأصدقاء القدامى وذوي الكفاءات لاجترار الماضي والذكريات. ب- وإذا كان ذا معرفة وإدراك ووعي في علم أن يدون معلوماته، وما بناه في عمله ومجتمعه ليكون ذلك كتاباً يفيد الناس، ويهتدي به غيره، ويؤدي واجباً عليه. ج- أن يجعل من المطالعة زاداً من المعرفة التي يتجه إليها في هدوء مع تأدية ما لله من حق في هذه الصحة والعافية التي منحها الله له.. فقد يكون إثراؤه للمجتمع أكثر مما عمله يوم كان شاباً من واجبات وعمل.. وضرب مثلاً بالأستاذ (عبد الكريم) الذي عَرَفَ، بعد تقاعده، كيف يستغل وقته فيما هو مفيد ونافع.إن برنامج العمل الذي رسمه وخطط له المربي الفاضل وإن كان قد رسمه وخططه لكل من يتقاعد إلا أنه ألزم به نفسه فسلكه، وتقيّد به فجاءت حياته حافلة بالعطاء الأدبي والتربوي، ناهيك من فعل الخير، والحرص على لقاء أصدقائه ومحبيه ومريديه، وكذلك مواصلة الكتابة في المجالات التربوية والاجتماعية والتاريخية والأدبية. وقد شهد له بذلك الكثير ممن رثاه بعد أن توفاه الله سبحانه وتعالى، فعلى سبيل المثال، لا الحصر، رثى الأستاذ الدكتور (محمد بن سعد آل حسين) الشيخ (عثمان)، وكان كما لو كان متتبعاً وراصداً لمسلك المربي الفاضل في تطبيق برنامج العمل الذي قرره ليس لنفسه فحسب وإنما للآخرين بعد تقاعده. قال الأستاذ الدكتور (محمد) في كلمته: (ولئن كان الشيخ (عثمان) قد رحل عنا، فإننا لا نزال نعيش أعماله وصفاته المتمثلة في أعماله التربوية ثم في تلك الندوة التي ما انفك يقيمها في منزله مساء كل اثنين حيث تدار مواكب الأفكار، وتنداح الآراء خلف كل فكرة، وهو يضيف موجهاً ومعلقاً، متحفاً ضيوفه بما تفيض به قريحته). وأضاف الدكتور (محمد) أن الشيخ (عثمان) صاحب قلم سيال يكتب الشعر مثلما يكتب النثر لا يعوزه في ذلك تفكير. (سمعته في بعض المناسبات يلقي شيئاً من نظمه، وما بعثت إليه بطاقة زواج إلا وأجابني عليها بقصيدة.. وهناك مسألة في حياة الشيخ ربما جهلها كثيرون وهي أنه قارئ متميز لا يدع الكتاب حين يحصل عليه إهداء أو سواه إلا ويقرأه وقد يعلق عليه، وهذا مصدر آخر من مصادر فكر الشيخ أعني تعليقاته على الكتب..). أما الأستاذ الأديب (حمد القاضي) فيقول: (لقد كان الشيخ (عثمان) وهو في صحته رغم كبر سنه نادراً ما يذهب الإنسان إلى مجلس عزاء إلا ويجد الشيخ متصدراً صدر المجلس يدعو ويواسي وينشر أشرعة الطمأنينة في قلوب أصحاب العزاء.. وفي فضاءات الأفراح قليلاً ما يشارك المرء منا إلا ويجد الشيخ الغالي في الفرح حتى عندما بدا ينهكه التعب – حاضراً ينشر البسمة المضيئة، والكلمة الطيبة، والتهنئة الصادقة متوكئاً على شيمة حبه للناس قبل اتكائه على عصاه.. أما في دارته – رحمه الله – فإنك قليلاً ما تجده وحده في أي وقت وفي أي فصل حتى عندما دبّ الضعف إلى جسده، كان لا يخلف ميعاداً، كان يجلس في باحة منزله يستقبل ويشفع وينثر طيور الفرح بأحاديثه وطرفه، ويجعلها تغرد في أفئدة زواره ومريديه).. هكذا روى بعض من عرفوه والتقوا به بعد تقاعده وهم كثر كيف ألزم نفسه بالبرنامج الذي رسمه لنفسه. ولقد تأثرت كثيراً وأنا إذ أختم هذه الحلقات، برثاء الأستاذ الأديب (سعد البواردي)، وهو رثاء نابع من القلب وفيه صفاء وشفافية. مما قاله في رثائه:لم يكن (الشيخ عثمان) نكرة كي أعرفه..عرّفنا بنفسه من خلال حياة حافلة بالعطاء..صنع جيلاً من الرجال في زمن عز فيه الرجال..ربى فأحسن التربية..وأعطى فأحسن العطاء..وأوفى فأحسن الوفاء..من مدرسته تخلقت مفاهيم..وحلقت أذهان.. وأشرقت عقول بعد أن نضجت على موقد التربية الذي كان هو نفسه موقداً بطاقة الحزم.. ووقود العلم.. ومثابرة المعلم المربي. عثمان الصالح أحد رموزنا في عالم التربية ودّعنا.. وأودَعنا بعد رحيله سيرة معطاءة ثرة يحسده عليها الكثيرون والأكثر.. يحمده عليها الأكثر.. ويجددها ذكرى عطرة الكثيرون والأكثر.. ما أكثر الذين يرحلون وهم على قيد الحياة.. وما أقل الذين يبقون ذكراً وحياةً بعد رحيلهم..)وفي ختام هذه الحلقات أتوجه بالدعاء لله – سبحانه وتعالى – أن يتغمد شيخنا المربي الفاضل بواسع رحمته، ويغفر له، ويلهم سائر أفراد عائلته ذكوراً وإناثاً الصبر والسلوان، و{إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.
ورحل عملاق (9-9) عثمان بن ناصر الصالحورحل عملاق (9-9) عثمان بن ناصر الصالح
الناشر: جريدة الجزيرة
– العدد: 12272
تاريخ النشر: 05/05/2006م