وتعود معرفتي بالأستاذ (عثمان الصالح) إلى الأيام التي كنت فيها طالبًا (بمدرسة الرياض الثانوية) الوحيدة، وهي المدرسة التي كانت تحتل بيت (ابن جبر)، بحي (شلِّقة)، غرب (شارع الوزير) الشهير بالرياض آنذاك. وكان مدير المدرسة الثانوية الوحيدة – آنذاك – الأستاذ (أحمد الجبير). في تلك الأيام الخوالي كنتُ رئيسًا لمجلس (طلبة المدرسة)، وعضوًا فعالاً في (نادي المدرسة الأدبي والمسرحي)، وكان الأستاذ المربي (عثمان الصالح) متعاطفًا مع المدرسة للغاية، ويتردد عليها كثيرًا، كما كان يحرص على حضور (ناديها) الأدبي المتواضع الذي كنت أخطبُ فيه وبالأخص الحفل الذي أقامته المدرسة لاختتام نشاطها السنوي لعام 1377هـ. وكان ذلك الحفل متواضعًا في مظهره لضعف الموارد المتاحة له، ولكنه كان ساميًا في معناه وجوهره. وخلال برنامج ذلك الحفل كان الشيخ (عثمان) وكأنه بين طلبته (بمعهد الأنجال) مشجعًا ومتعاطفًا وعلى وجهه علامات البشر والسرور. ولا أبالغ إذا ذكرتُ الآن أنني كنتُ أتخيَّله آنذاك بقلبين: قلب (بمعهد الأنجال) وقلب آخر (بالمدرسة الثانوية) الوحيدة بالرياض.وظلَّ هذا المعلِّم في الساحة التربوية كالعاشق المتيم مُحِبًا للتربية وللعلم وللمتعلمين. وكان هذا الرجل بالمرصاد للطلبة المتفوقين سواء منهم من كان (بمعهد الأنجال) أو من هو (بالمدرسة الثانوية بالرياض) حتى بعد تخرجهم (وأنا منهم)، حيث كان يراسلهم حيثما كانوا مشجعًا لهم على مواصلة الدراسة وبذل الجهد في سبل تحصيل العلم.وعلى سبيل المثال كنت قد نشرتُ في جريدة (اليوم) سلسلة مقالات عن مدرستي (مدرسة الأحساء الابتدائية) الوحيدة المؤَسَّسة عام 1356هـ، وهي مقالات يضمها الآن كتاب بعنوان (كانت أشبه بالجامعة: قصة التعليم في مقاطعة الأحساء في عهد الملك عبدالعزيز: دراسة في علم التاريخ الاجتماعي). لقد كان مبعثُ السرور عندي مفاجأة الأستاذ المربي الفاضل (بوناصر) حينما أتحف قراء جريدة (اليوم) بمقالة علّق فيها على سلسلة مقالات (كانت أشبه بالجامعة) وفيها من الذكريات والفوائد والنصائح؛ ما دفعني إلى نشر المقالات بين دفتي كتاب فيما بعد. ورد بمقالة الأستاذ المربي:(عرفتُ معالي الأستاذ الدكتور (محمد بن عبداللطيف آل ملحم) في مدرسة (اليمامة) (بالرياض) في مناسبتين: الأولى – حفلة أقيمت للخطباء المرتجلين بين جميع المدارس بالمنطقة وإن لم تخني الذاكرة فهي أوسع من منطقة واحدة, وفاز فيها بالتقدير والأولية، ولقد خطب برهةً من الوقت كان مبرزًا، لم يلحن ولم يتلعثم.. وكان موضع الإعجاب والإكبار. والثانية – أقيمت في (اليمامة) نفسها مسابقة الأوائل.. وكان الأول من بين المتسابقين. أُقَدِّمُ هذه الكلمة عن ذكرياتي في تلك الفترة البناءة. و(اليمامة) أولى المدارس الثانوية نشاطًا وتقدمًا واتساعًا وشمولاً، ولا أنسى الأدوار التي قامت بها (اليمامة)، وقد تعاقب عليها رجال كبار أمثال الأستاذ (عبدالله الحمد الحقيل)، والأستاذ الدكتور (حمد السلوم)، والأستاذ (عبدالرحمن العجاجي) ولا يعرف آنذاك إلاَّ بالثاقب، والثاقب اللقب، والعجاجي الأصل، وكلاهما جميل وحسن، فالأولُ مشتقٌ من الضياء الذي يثقب الكلام بالضياء والنور، والعجاجي نسبٌ أصيلٌ وهو نقعُ الخيل إذا أغارت إشارة إلى قول الله عزّ وجلّ (فأثرن به نقعًا، فوسطن به جمعًا) انتهى التعليق..* فأعجبه خطها فسأل عن الكاتب، وعلم أنه شخصي، فكتب إليَّ، واستدعاني لأكون مدرسًا، ووعدنِي بأنه سيعمل ما يريحني سكنًا وعملاً، وكدتُ أوافقُ لولا أن لي والدة لا تريد مغادرة (المجمعة) بأي حال لأنها كفيفة البصر، ولكنه أَلَحَّ وبالغ، ولكن لم يتم لِي نقل، ولا زِلْتُ أذكرُ وأجتَرُّ كتبه يرحمه الله، وحرصه على ما يجعل عمله متكاملاً). انتهى التعليق.وبودي الإشارة إلى (مداخلة) لا تخلو من الطرافة بين (علامة الجزيرة) الأستاذ (حمد الجاسر) والأستاذ (عثمان الصالح)، وهي (مداخلة) نَشَرَهَا شيخُنا (بوناصر) بتاريخ 23 من المحرم عام 1413هـ في جريدة (اليوم) تحت عنوان (حمد الجاسر.. وكلمات من أجل التاريخ)، ونظرًا لما لهذه (المداخلة) من أهمية تاريخية فسأذكرُها – كما رواها شيخُنا (الصالح) – فيما يلي:(اتصل بي أستاذنا ومؤرخنا وشيخنا (حمد الجاسر) معلقًا وملاحظًا على ما كتبتُه في جريدة (اليوم) بتاريخ 17 من ذي الحجة عام 1413هـ حول تعليقي على سلسلة البحوث التي كتبها معالي الأستاذ الدكتور (محمد آل ملحم) حول مدرسة (الأحساء) التي وَصَفَهَا بأنَّها أشبه بالجامعة في أحاديث ممتعة بلغت حوالي العشرين حديثًا، والتي مَرَّ فيها بذكر الأستاذ (النحاس) أول مدير للمدرسة الابتدائية آنذاك، الذي له مجهود مشكور.. وشيخنا وأستاذنا الشيخ (حمد الجاسر) لملاحظاته قيمتها التاريخية والاجتماعية، ولها وزنها فقد أعطاه الله ذاكرة قوية، ووعيًا وإدراكًا لتاريخ البلاد عامة، وإنه لكنْز من كنوز التاريخ في بلادنا الغالية في ظل رائدها – خادم الحرمين الشريفين – وإليك الملاحظات التي تكرم شيخنا (بها):1- أنَّ العام الذي كان (النحاس) (فيه) في الشرقية (الأحساء)، والعام الذي مَرَّ عليه رواتب مدرسة (المجمعة) المؤسسة (هو) عام 1357هـ وليس عام 1347هـ..2- قال أستاذنا مفصلاً، ومنبهًا: إن النحاس جاء إلى (جدة) من (مصر) في عام 1346هـ، وانتقل إلى (الوجه) ثم (ينبع) (وكان شيخنا الجاسر هناك) ولم يكن في (الأحساء) إلاَّ بعد عام 1354هـ، أو عام 1355هـ؛ لذلك يرى شيخنا – رعاه الله – أن العام الذي كان فيه النحاس في (الأحساء) هو عام 1357هـ وليس عام 1347هـ.وكان لي تعليق على هذه المداخلة الشيقة بين الشيخين (الجاسر) و(الصالح) تَتَكَوَّنُ من ملاحظتين: الأولى أن بهذه المداخلة (درسا) يجب أن لا يَمُرَّ دون التنويه عنه، وهو (درسٌ) مفيدٌ، ويدخل هذا الدرس – من وجهة نظري – تحت باب (تواضع العلماء) كما تُحدِّثُنا عن ذلك كتب التراث.والثانية أن أستاذنا الشيخ (عثمان الصالح) قد تقبَّل تصحيحات (علامة الجزيرة) بصدرٍ رحبٍ وسعادةٍ بالغةٍ، بل وبادر أستاذنا (الصالح) – وفي شوقٍ منقطع النظير – إلى نشر التصحيحات، وهل هناك تواضع أكثر من هذا؟!.
ورحل عملاق (2-9) عثمان بن ناصر الصالح
الناشر: جريدة الجزيرة
– العدد: 12263
تاريخ النشر: 26/04/2006م