كلمة أمام ندوة التكامل بين القضاء والتحكيم المقامة

أدواتُ أو وسائلُ فضٍّ المنازعات بين الخصوم عديدة. منها المفاوضاتُ المباشرةُ، والمساعي الحميدة أو إصلاحُ ذات البين، والوساطةُ، والتوفيقُ، والتحقيقُ، والصلحُ، وتعيينُ خبيرٍ واحدٍ كمحكم، والتحكيمُ، والقضاء.
ويبقى القضاءُ والتحكيمُ أهمُّ أداتين أو وسيلتين يَتمُّ اللجوءُ اليهما لفض المنازعات ذات الطبيعة القضائية.
ولأن الحديثَ عن أوجه التشابه بين القضاء والتحكيم هو موضوعُ هذه الجلسة لا بد من التنويه عن نقاط جوهرية تتناولُ أوجه الفرق بين القضاء والتحكيم وذلك لكي يكون للورقة التي سيقدمُها لنا المحاضر هدفٌ ومغزى، وأن تكونَ ذات إطارٍ شاملٍ ودقيق.
يتفق القضاءُ والتحكيمُ بأنهما أداتان لفض المنازعات بين الخصوم، ولكن لكلِّ منهما منهجيتهُ واستراتيجيتهُ وإجراءاتهُ، وبقدرِ ما بينهما من تشابهٍ بقدر ما بينهما من أوجهِ إختلافٍ من طبيعةٍ تأسيسية.

القضاءُ تعبيرٌ عن ظاهرةٍ من ظواهرَ ثلاثٍ لنظرية سيادة الدولة التي تعني، في كل ما تعنيه بصفةٍ شاملة، الحفاظُ على كرامة الدولة الإقليمية واستقلالها السياسي. والظواهرُ الثلاثُ لنظرية السيادة المكونةِ للدولة الحديثة هي: السلطة التنفيذية، والسلطة التشريعية، والسلطة القضائية.
وسيادةُ الدولة هي صاحبةُ الكلمة العليا في الشأن القضائي داخلَ الدولة نفسها، وبمعنى أن كلَّ من يلجأُ لقضاءِ الدولة كأداةٍ لفض المنازعات هو خاضعٌ لمحاكم هذا القضاء بمختلفِ درجاتهِ، وكذا لكافة إجراءاته.
أما التحكيمُ باعتباره قضاءٌ خاصٌ وبديلٌ عن قضاء الدولة فهو قضاءٌ محايدٌ حينما يستكملُ أبنيته ويباشر ممارسة مهام أعماله. وهو من حيث الهوية القانونية تعبيرٌ عن نظريةِ سلطان الإرادة الحرة لإطراف الخصومة مع التحفظِِ على هذه النظرية، وبما معناه أن لهذا الإرادة الحرة الكلمةُ العليا فيما يتعلق بالتحكيم ورموزه وإجراءاته مع التحفظِ ذي الطبيعة الإستثنائية لقواعدٍ منبثقةٍ من إعمال نظريةِ السيادة يلزمُ الأخذ بها إذا كان مقرُّ التحكيم داخلَ إقليم الدولة.
وهكذا مبنى القضاءِ يختلف عن مبنى التحكيمِ أي أن مبنى نظريةِ السيادةِ يختلفُ عن مبنى نظريةِِ الإرادة الحرة. وصاحبُ الشأن سواءٌ أكان شخصًا طبيعيًا أو شخصًا معنويًا خاصًا أو عامًا له الخيارُ في اللجوء إلى أيٍّ من المرفقين أي أن يختار اختصاصَ هذا أو ذاك مع ملاحظة أن هذا الخيار ليس خيارًا حرًا مطلقًا إذ فيما يتعلق بالتحكيم فالخيارُ مقيدٌ بنطاقٍ معينٍ محصور وهو أن التحكيمَ مقصورٌ من حيثُ النطاق على المسائلِ التي يجوز فيها الصلح، وبمقتضى مفهوم المخالفة لا يجوز التحكيمُ في المسائلِ ذات الطابع الشخصي، أو تلك المتعلقة بحقوق الله سبحانه وتعالى الخالصة، أو تلك المتعلقة بنظام الدولة العام. ولهذا يقالُ في علم القانون أن الفرد في مجال التقاضي في وضعٍ متساوٍ مع وضعِ الدولةِ ذات السيادة والسلطان. فكما أن الدولة ملزمةٌ بتوفير مسرحٍ لمواطنيها تُقَدِّمُ لهم فيه أدواتٌ أو وسائلٌ لحل منازعاتهم حيث أن ذلك أحدُ مظاهرِ سلطتها، ناهيك عن أن من مسؤولياتها الكبرى توفيرُ محاكمٍ يُدِيرُ دفتَها قضاةٌ مؤهلون وفقًا لقواعدِ إجراءاتٍ ثابتةٍ تُحَدِّدُ اختصاصاتَها بغرض الوصول إلى هدفٍ كلي وهو تحقيقُ العمليةِ القانونيةِ الخالصة في إقرار العدل وحمايته للكلِّ على حدٍ سواء. والمواطن وفقًا لهذا المنطلق باعتباره إنسانٌ فهو على قدمِ المساواة مع الدولة إذ له إرادتهُ الحرة الخالصة بحيث في إمكانه أن ينشئَ قضاءًا خاصًا له كبديلٍ عن قضاء الدولة وذلك للنظر في المسائل التي تخصُّه إذا رغب في ذلك والتي تَمَّ تحديدها سلفًا. وهذا قضاءُ ذو نوعين: قضاءٌ غير مؤسسي لحل منازعات بين الأطراف في حالاتٍ خاصة ينتهي هذا القضاء حال حسم تلك الحالات، أو قضاءٌ مؤسسي ذو طابعٍ دائمٍ منتظم، وهو قضاءٌ في إمكانه استقبالُ منازعاتِ أصحاب الشأنِ وفقًا لإجراءات نمطيةٍ مستقرةٍ وثابتة، هذا مع العلم أن هذا القضاءَ المؤسسي ليس على نمطٍ معينٍ في أبنيته وإجراءاته بل هو ذو أشكالٍ مختلفةٍ تحت مسمى مراكز وطنية وإقليمية ودولية، ولدرجة أن هذا القضاءَ المؤسسي ظاهرةٌ منتشرةُ في الكثير من الدول ذات السيادة والسلطان.
وأُنهي هذه الكلمةَ بالتنويهِ عن مقولةٍ قانونيةٍ تدخلُ في إطار حقوق المواطن الدستورية مؤداها أن لجوءَ المواطن إلى التحكيم هو إهدارٌ لحقوقه الدستورية التي وفَّرتها له الدولةُ من خلال إقامةِ أجهزةِ عدلٍ تُقَرُّ فيها الحقوقُ وفق موازينِ عدلِ سليمةِ تنعدمُ فيها قُوى الهوى الجامح أو قُوى الطيش البين، ولذا فالتساؤلُ التي تثيره هذه المقولةُ هو: لماذا يلجأ المواطنُ إلى قضاءٍ آخر داخل موطنه كقضاءٍ بديلٍ لقضاء موطنه؟ وهناك مقولةُ قانونيةُ أخرى ضد المقولة السابقة وعلى النقيضِ منها مؤداها أن إذنَ الدولةِ أو ترخيصَها لمواطنيها بمقتضى قوانينها باللجوء للتحكيم مؤداه اعترافٌ بتقصيرِ الدولة في توفير العدلِ وإقامتهِ لهؤلاء المواطنين. وفيما بين المقولتين هناك مقولةٌ قانونيةٌ ثالثةٌ مؤداها أن حقَّ المواطن لم ولن يُهْدَرَ دستوريًا من قبلهِ إذ يظلُّ حقةُ في اللجوء للقضاء باقيًا، بل ثابتًا حتى ولو لجأ للتحكيم، وأن ترخيصَ الدولة له ليس مبعثه تقصيرٌ منها في إقامة العدل، وإنما هو احترام منها لحق المواطن الخالص في الخيار بين القضاء والتحكيم باعتباره من حقوقه الأساسية كإنسان.

___________________________________

الكلمة التي ألقاها معالي الدكتور محمد بن عبداللطيف آل ملحم وزير الدولة وعضو مجلس الوزراء السابق لدى ترؤسه للجلسة الثالثة في اليوم الأول من ندوة التكامل بين القضاء والتحكيم المقامة في 14 ربيع الثاني 1431هـ الموافق 30 مارس 2010م المقامة في قاعة المملكة بفندق الفورسيزن بالرياض.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.