تحدثتُ عن زيارة الأستاذ عريف في كتاب “كانت أشبه بالجامعة” كما يلي:ـ كتب الأستاذ “عريف ـ وكان آنذاك رئيس جريدة “البلاد السعودية” ـ سلسلة من المقالات تحت عنوان “رحلتي إلى المنطقة الشرقية من المملكة ـ كنت في الأحساء ـ”، وكنتُ [أنا] وقت نشر الأستاذ “عبدالله عريف” لهذه المقالات طالباً في السنة “السادسة” بـ “مدرسة الأحساء الابتدائية”، وكانت تلك المقالات التي مضى عليها ما يقرب من نصف قرن ـ ذات طابع شخصي تحدث الأستاذ “عريف” فيها عن مشاهداته وانطباعاته الشخصية عن “الأحساء” التي يزورها لأول مرة. وكنت أتابع قراءة هذه المقالات بشغف شديد رغم صغر سني، وأكثر ما شدني لتلك المقالات أسلوب الإثارة الصحفية إذ خُيل للكاتب ـ في كل ما يكتبه عن الأحساء ـ أنه يكتشف أسراراً لأول مرة، ولعله كان محقاً في ذلك، وذلك لعدم وجود مصنفات تاريخية تتحدث عن جغرافية “الأحساء” وتاريخها وآثارها وعادات أهلها وتقاليدهم. ولهذا يبقى ما كتبه الأستاذ “عريف” على عجل ـ كمادة صحفية تنشر في صفحة يومية آنذاك ـ وثيقة حية تتحدث عن فترة مضت ـ وهي فترة لا يعلم عنها الجيل المعاصر في “محافظة الأحساء” كثيراً.أما السبب الثاني الذي دعاني مع مرور الزمن لوضع فكرة تأليف الكتاب موضع التنفيذ فهي أنني لم أجد بعد البحث والتقصي ـ في عالم الثقافة الثر في “واحة الأحساء” وحتى الآن ـ من أخذ زمام المبادرة ليتحدث عن تأريخ ـ أو قصة ـ الحركة التعليمية في عهد الملك “عبدالعزيز” يرحمه الله في موضوعية مجردة من خلال الدور الشامخ الذي لعبته “مدرسة الأحساء الابتدائية” العملاقة في تلك الحركة، يستوي في ذلك من رضع العلم بهذه المدرسة، أو حاول ـ مجتهداً ـ أن يتحدث عنها عن طريق السماع أو النقل، وكل ما قرأته مما كتب عنها لم أجد فيه لذة المعاصرة، بل كل ما قرأته مما كتب عنها كان ذا طابع عابر أو وصفٍ، ولم يوثق ـ بكل دقة ـ أوضاع هذه المدرسة “العملاقة” حينما كانت في ذروة مجدها، بل ويشوب ما كتب عنها وعن مسيرة التعليم في “مقاطعة الأحساء” وسائر مدنها وقراها وهجرها ـ بصفة عامة ـ بعض الأخطاء.ولدى تقديم هذا الكتاب للمطبعة رأيت إهداءه لأبنائي وحفدتي. أما أبنائي فهم الجيل المعاصر وأما حفدتي فهم الجيل القادم. وما جاء في الكتاب ليس إلا محاولة، مجرد محاولة، الغرض منها وضع العملية التعليمية وقت تأسيس المملكة العربية السعودية في إطارها السليم حيث وجدت وقتها أن كل المؤلفات التي تناولت العملية التعليمية وقت التأسيس كانت تقتصر على ما حصل في “منطقة الحجاز” دونما أية إشارة إلى ما تم في “مقاطعة الأحساء”. بلد الخير والأخيار.تألمت مما قرأته قبل تأليفي لكتابي. وكان الغرض من تأليفه هو مجرد لمسة وفاء لمسقط رأسي، ورغبة مني في استدراك ما أهمله التاريخ.وقبل طبع كتابي نشرتُ حلقات عن بدايات التعليم في “الأحساء” في فترة تأسيس “المملكة العربية السعودية” في جريدة “اليوم”. ولقد أعجبت بالخبر الذي نشره وقتها رئيس تحرير جريدة “اليوم” الأستاذ “خليل الفزيع” معرفاً بالحلقات قبل نشرها، وكان عنوانه:ـ “الدكتور آل ملحم يكتب في جريدة اليوم عن المدرسة المنسية”. وما ذكره الأستاذ “الفزيع” صحيح إذ على الرغم من أن المدرسة كانت ـ وفقاً لمقاييس العصر الذي أُسست فيه قلعة علم، ومنتدى سمار، ومحط أنظار كل من زار “الأحساء” آنذاك من ولاة أمر، وأدباء، ورجال صحافة، ورجال تربية وتعليم ـ إلاَّ أَنَّ الذين تعلموا بالمدرسة وتخرَّجوا منها فات عليهم من باب الوفاء لمدرستهم الحديث عن أوضاع هذه المدرسة ودورها الهام في العملية التعليمية باعتبارها جزأً مكملاً للعملية التعليمية الشاملة في فترة تأسيس المملكة العربية السعودية.ولم أتحدث عن المدرسة وحدها باعتبارها مجرد مدرسة في كتابي، بل استخدمت “مدرسة الأحساء الابتدائية” العملاقة بمثابة “نقطة ارتكاز”، أو “مركز اشعاع، أو “مدخل أساس” لموضوع أكبر في مجال الحركة التعليمية “المنسية” في “مقاطعة الأحساء” تاريخياً. ويدخل هذا الموضوع برمته في إطار “علم التاريخ الاجتماعي”. وهو العلم الذي يُعنى “بالعملية الاجتماعية” من جميع أبعادها وأهدافها واستراتيجيتها وتأثيراتها وأشخاصها مهما كانت مراكز هؤلاء “الأشخاص” في البنية الاجتماعية والثقافية المكونة للمجتمع أي مجتمع.وبدلاً من استعراض ما جاء في الكتاب كما طلب مني سعادة الأخ الأستاذ الدكتور “المديرس” فسوف أضعُ في هذه المحاضرة النقاط على الحروف بالنسبة لوقفات هامة لن يدركها إلاَّ من يقرأ بتأنٍ ما بين سطور الكتاب. الوقفة الأولى . بدايات التعليم في كل من “مقاطعة الأحساء” و”منطقة الحجاز” في عهد الملك “عبدالعزيز” يرحمه الله تكاد تكون ـ من الناحية الزمنية ـ متقاربٌ. ولو استمرت الأمور دونما عوائق من فعل بعض أهالي وعلماء “الأحساء” لكان من شأن ذلك تخرج “جيل مثقف أحسائي” يشارك جيل منطقة الحجاز المثقف في البناء التعليمي والاداري والتنموي في فترة تأسيس “المملكة العربية السعودية” وما تلاها. ولكن بسبب العوائق المشار إليها تأخر بدء التعليم في “الأحساء” لمدة ست سنوات مما ترتب عليه فوز جيل منطقة الحجاز المثقف بالمكانة الأولى مساهماً في البناء التعليمي والإداري والتنموي في تاريخ “المملكة الحجازية ونجد وملحقاتها” التي اصبح اسمها في الواحد والعشرين من شهر جمادى الأولى من عام 1351هـ “المملكة العربية السعودية”. والمدة التي ذكرتها أو أقل منها، بل وحتى ولو كانت يوماً واحداً، تعادل حياة جيل كامل. هذه الوقفة تحتاج إلى دراسات علمية جادة لبحث أسبابها عن طريق المقارنة بين معالم البيئة المتفتحة في “الحجاز” ومعالم البيئة المتقوقعة على نفسها في “الأحساء”، وهما البيئتان اللتان احتضنتا بدايات العملية التعليمية الأساسية باعتبارها ظاهرة عصرية في مرحلة تأسيس “المملكة العربية السعودية”.الوقفة الثانية . تميزت الأحساء بوجود أسر أطلق عليها ـ من باب المبالغة ـ “الأسر العلمية”. ليس هناك أسر من الممكن أن يطلق على كل فرد من أفرادها بلقب “العالم” لأن هذا غير معقول. وإذا كان هذا معقولاً فمعنى ذلك أن كل من يولد في هذه الأسرة أو تلك يلحقه هذا اللقب بمجرد ولادته. وكان من المفروض منذ حين وَلِوَضْعِ الأمور، من ناحية الأمانة العلمية، في نصابها أن يصحح الأمر. ولذا على سبيل المثال لو سميت أسرة ما “بالأسرة العلمية”، وكان عدد أفرادها يتراوح ما بين المائة أو المائتين نسمة. هل معنى ذلك أن كل هؤلاء المائة أو المائتين “علماء”. ولإزالة اللبس لعله من الملائم تاريخياً أن يقال، على سبيل المثال، أن الأسرة الفلانية فيها العالم والقاضي والواعظ وإمام مسجد وهكذا، مما يعني بالتالي أن هذه الأسرة من بين أفرادها من يمارس التجارة أو الزراعة أو الصناعة أو إحدى الحرف أو حتى فيها الجاهل والأمي. لذا من المهم دعوة المهتمين بالعملية التعليمية لبحث الأمر وتقويمه وتصحيحه حتى لا تظل “الأحساء” معروفة بأمور ذات مفاهيم غير دقيقة.الوقفة الثالثة . رغم ضيق ذات اليد لدى البعض من الأسر في بدايات التعليم في “الأحساء” إلا أن بعض أعيان هذه الأسر (وهؤلاء لا ينتمون لبيوت علم)كانت لهم اليد الطولى في دعم الحركة التعليمية عن طريق التبرعات “لمدرسة الأحساء الابتدائية” وطلابها. لماذا لا تسلط الأضواء الآن على هؤلاء الأعيان وكذا عن الأسباب التي دفعت بهم للتبرع طواعيةً من أجل العلم الحديث وتشجيع طلابه.الوقفة الرابعة . أثبتُ في كتابي (وشواهد الحال تثبت ذلك) أن معلمَ الأمس أحسن من معلمِ اليوم. معلمُ الأمس “عالمٌ” ومعلمٌُ اليوم “حاملُ شهادة” أهَّلته ليكون معلماً. هذه الظاهرة تستحق إعداد دراسات مقارنة عن أسبابها. وبكتابي أكثر من مؤشر لوضع مثل هذه الدراسات.الوقفة الخامسة . عن طريق استخدام “مدرسة الأحساء الابتدائية” بمثابة “مركز إشعاع” تناولتُ أحوالَ “الأحساء” من الناحية الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والزراعية والأدبية. وما تحدثتُ عنه مجرد رؤوس أقلام يمكن لطلاب البحث والعلم في الجامعة والكلية والمعهد والمدرسة أن يستفيدوا منها بتوسع في دراساتهم وبحوثهم.الوقفة السادسة . تزامن التعليم الحديث في “مقاطعة الأحساء” مع التعليم الحديث في “منطقة الحجاز”. ولم أشر في كتابي عما إذا كان هناك تعليم مماثل متزامن في “منطقة نجد”. ما أسباب ذلك؟ مع أنني قد تحدثت في كتابي عن أن التعليم في “نجد” حينما بدأ في فترة لاحقة قد رُبط بالتعليم في “مقاطعة الأحساء” إن لم يكن إدارياً فعلى الأقل مالياً. هذه الحقائق التاريخية قد تناولتها في اقتضاب في كتابي. وتستحق المزيد من الدراسات بغرض إبراز مكانة “بلاد هجر” في العملية التعليمية إبان فترة التأسيس وما تلاها.الوقفة السابعة . المركزية واللاَّمركزية في التكوين الإداري والسياسي للمملكة العربية السعودية كانت من حيث التطبيق معضلة، لذا يثور التساؤل عن مدى انعكاساتها على العملية التعليمية من حيث وجود عمليتين تعليميتين متوازيتين متزامنتين في فترة التأسيس في شرق وغرب البلاد دون وسطها. وتعكس المركزية واللاَّمركزية صورة “وثيقة” أثبتها في كتابي. وهي “وثيقة” ذات أبعاد كلية سياسية يمكن أن تكون ذات مجال واسع للمهتمين بالدراسات الإدارية والسياسية من أصحاب المؤهلات العليا بالجامعات. وسوف أقرأ نص هذه “الوثيقة” دون التعرض لأبعادها ومضامينها تاركاً ذلك لحس المستمع. يقرأ نص الوثيقة كالتالي:ـحضرة صاحب السمو الملكي النائب العام لجلالة الملك المعظم أيده اللهبعد التحية والإجلال: أرفع لسموكم الكريم من طيه مذكرة معتمد المعارف بالأحساء رقم 1129 في 26/4/1370هـ بطلب تركيب تلفون بدار مدير مدرسة الهفوف بمناسبة إسناد استلام رواتب مدارس نجد إليه، وأرجو تعميد الجهة المختصة بتحقيق الطلب المشار إليه، أدام الله توفيقكم،،، مدير المعارف العام (محمد بن مانع). صورة لمعتمد المعارف بالأحساء وصورة لمدير مدرسة الهفوف المحترم.ماذا يعني هذا الطلب؟ ولماذا تم رفعه للمقام السامي؟ ومن هو صاحب الاختصاص في الإذن بتركيب تلفون، وما هو المبرر لرفع هذا الطلب؟ وثيقة، في رأيي، تفسح المجال لطالب العلم في الجيل المعاصر للبحث والتقصي عما كان عليه الجيل السابق في شأن الاتصالات السلكية واللاَّسلكية، وبمقارنة ما يتمتع به جيلنا المعاصر من حيث وجود الهاتف “الجوال” حتى في جيب الطالب في المدرسة الابتدائية فما بالك بتركيبه بالبيت, وإلى بقية الحلقات في الحلقة القادمة
الناشر: جريدة اليوم
– العدد: 10051
الناشر: جريدة اليوم
تاريخ النشر: 21/12/2000م