رأي في كتاب : للقاضي اليحي

شَعْبِي انْتَبِهْ مِنْ سَائِرِ الْغَفَلاَتِ ….. وَأَفِقْ فَيَوْمُكَ مُشْرِقُ الصَّفَحَاتِوَلَّى الظَّلاَمُ وَأَدْبَرَتْ أَيَّامُهُ ….. وَبَدَا الضِّيَاءُ فَمَرْحَباً بِالآتِي قُمْ وَانْطَلِقْ بِعَزِيمَةٍ جَبَّارَةٍ ….. فِي مَوْكِبٍ لِلْعِلْمِ ذِي جَنَبَاتِ يَا شَعْبُ قُمْ نَحْوَ الْحَيَاةِ بِهِمَّةٍ ….. قَعْسَاءَ تَسْبِقُ سَائِرَ الْهِمَّاتِ وَاعْدُدْ لِنَيْلِ الْمَكْرُمَاتِ مَوَاقِفاً ….. وَاعْمُرْ بِهَا مُسْتَقْبَلاً لِحَيَاةِ وَدَعِ التَّأَخُّرَ وَالتَّقَهْقُرَ بَلْ وَكُنْ ….. يَوْمَ الْقُدُومِ مُبَاعِدَ الْخُطُوَاتِ وَاْنَهَضْ وَلاَ تَرْضَ الْهُبُوطَ فَتَنْطَويِ ….. بِالذُّلِّ فِي غَسَقٍ مِنَ الْحَسَرَاتِوَاسْتَوْفِ فِي طُرُقِ النَّجَاحِ أَبَرَّهَا ….. بِتَأَمُّلٍ وَتَدَبُّرٍ وَثَبَاتِ وَانْهَجْ وِكُنْ مَهْمَا اسْتَطَعْتَ مُبَادِراً ….. نَحْــوَ الْعُـلاَ مُتًمَيِّزاً بِسمَاتِ
إلتقيتُ بمحبِّر هذه الأبيات حينما كنت شاباً يافعاً. وهو يتذكر هذا اللقاء. والتقيتُ به مرة أخرى حينما كان في “كلية الشريعة” بالرياض وكنتُ وقتها بمدرسة الرياض الثانوية طالباً، وكان اللقاء في عام 1377هـ.ومن يلتقي به كانوا يقولون لي حينما ألتقي بهم: أنه دائماً يذكرني بخير.وشاءت إرادة الله أن لا التقي به خلال عقود من الزمن مع أن جل وقته قد قضاه بأرض “هجر”. ولقد كنت مقصراً في حق نفسي إذ لم أزره ولو فعلتُ لتزودت من فضله وعلمه. وكانت حياة “شيخنا” حافلة بالنشاط، وفعل الخير، وإقامة العدل بين الناس.وزرتُه منذ حين في منزله العامر فاستقبلني مرحباً، وكان ترحيباً استعدت به شبابي، كما ذكَّرني بأمور فيها طرافة، والذكر للإنسان، كما يقول الشاعر، “عمر ثاني”. وكان مجلسه وقت زيارتي له عامراً برجال الأدب والقضاء. ولدى مغادرتي لمنزله أهداني “تحفة”، وستكون “الأثر” بعده، إنها مصباح مضئ كله نور، وما أروع هذا النور. وعنوان “التحفة” “القطوف الندية من حقول العلوم الشرعية والأدبية”، وهي إسم على مسمى.ولدى تأمل هذه “التحفة” قلت لنفسي: يحبني هذا الرجل كثيراً وأنا أحبه كذلك، وفي هذا الشأن تذكرتُ مقولة الخليفة “علي بن أبي طالب” كرم الله وجهه: “إذا أحببتم الرجل من غير خير سبق منه إليكم فارجوه”. أهداني “تحفته”، إنها أثر جليل فيه علم وتبصرة وهداية، وهو خير ما ألفه هذا الرجل الفاضل في حياته، وهو لا يزال بحمد الله على قيد الحياة، غير شاحٍ بعلمه، أو ضان بنصائحه. يقول مقدمُ “التحفة” الشيخ “عبدالله بن حواس الحواس” عن “شيخنا”:ـكانت حياة الشيخ حافلة بالعلم والعمل والسعي في الدعوة إلى الله عز وجل والتعليم والنصح للعامة والخاصة، وكان الشيخ أحياناً يحتفظ ببعض المقالات والفتاوى والأشعار في دفاتر وقصاصات من الورق. ولقد ظل الشيخ زمناً طويلاً لا يُخرجُ من هذه الدرر شيئاً، ولكن بإشارة بعض المحبين لفضيلته وبعد محاولات إرتأى الشيخ إخراج ما أنتجه في هذه السنين وكأنه كان يرى أن ما عنده شئ قليل ولا يؤبه به كعادته في إخفاء نفسه وعدم إظهار العمل الصالح، ومن يعرف سيرة الشيخ لا يستغرب ذلك لشدة تواضعه حفظه الله تعالى، وليعلم القارئ في هذا الكتاب أن ما يراه في هذه السطور لا يساوي شيئاً بالنسبة لما عند الشيخ من علم وحفظ وفهم، وأن العلماء الجهابذة على قسمين: قسم يُعرفُ تبحره وسعة علمه من كتبه ومؤلفاته، والقسم الثاني لا يعرف علمه من كتبه حيث لم يتيسر له أن يؤلف في شتى العلوم فلا يعرفه إلا تلامذته والمعاصرون له، وصاحب هذا الكتاب من القسم الثاني” أهـ.وتضمنت هذه “التحفة” أمهات المسائل في عقيدة التوحيد وفي أركان الاسلام، ناهيك عما اشتملت عليه من فوائد وقلائد عن أخلاق الإسلام وآدابه.ولما تأملت أمهات المسائل هذه وجدتها تُذَكِّرُ بالعقيدة السلفية في موضوعية وتجرد وبلغة مبسطة من السهل الممتنع.وإلى جانب ما ذكرتُ وهو قليل، كشفت هذه “التحفة” لي عن أن صاحبها شاعر متوقد الذهن، وهو في شعره ينهج منهج السلف الصالح، ومنهج حماة التراث الاسلامي مع تطرق خفيف لبعض فنون الشعر العربي الفصيح “كالمطارحات الشعرية” وغيرها. و”المطارحات الشعرية ” من فنون الشعر الجميلة التي تحث على الترابط والتآخي وتوثيق عرى الود والوئام، كما أنها، دون غيرها من فنون الشعر، أقدر على تسجيل الذكريات العطرة بين الأحباب والخلان بما فيها تمجيد، أو على الأصح، تأريخ مواطن التجمع والأنس والمسرات.وعلى سبيل المثال، وفي التحفة كثير، لقد أعجبتني “مطارحة شعرية” بين “شيخنا” والمربي الأديب الشيخ “عثمان بن ناصر الصالح” بدأها الشيخ “عثمان” بقصيدة اشتياق حبرها وأرسلها “لشيخنا” ومن أبياتها:ــ
عَرَفْتُ وَمَنْ عَرَفْتُ فَلَيْسَ وَحْياً ….. وَلَكِـــــنْ ذَا لَعَمْرُ اللهِ لُقْيَاإِلىَ “عَبدِالْعَزِيزِ” الشَّهْمِ سِرْنَا ….. عَلَى شَوْقٍ إِلَى الشَّيْخِ “ابْنِ يَحْىَ” نُلَبِّي دَعْوَةً كَرُمَتْ عَلَيْنَا ….. إِلَى “الأَحْسَاءِ” وَاحَاتٍ وَأَفْيَاء فَأَوَّلُ مَنْبَعٍ لِلْخَيْرِ كَانَتْ ….. وَمَا زَالَتْ بِها تَنْمُو وَتَحْيَا وَفِي “هَجَرٍ” سَلاَئِلُ مِنْ كِرَامٍ …..كَأَنَّهُمُوا غَدَاةَ الْجُودِ طَيَّا دَعَونَا فِي بُيُوتِهُمُوا فَكَانُوا ….. بِنَيْلِهُمُوا إِذَا اتَّخَذُوهُ زَيَّا وَلْو أَنَّـا أَطَعْــنَا لَوْ بَقِيـنَا ….. لَكُنَّا فِـي نَوَادِيهِمْ سِنِـيَّاوَلاَ تَنْسَوْا “بِعَاصِمَةٍ” إِخَاءٌ ….. “رِيَاَضِكُـمُ” بِكُــمْ أَضْحَى غَنِيَّاوَ”عَاصِمَةُ الْبِلاَدِ” لَنَا جَمِيعاً ….. لَنَا دِرْعٌ نَصُــــدُّ بِهَا الْكَمِيَّاهُنَا نُجَبَاءُ فِي “هَجْرٍ” تَبَارَوْا ….. تَعَالَوْا فَاعْرِفُوهُمْ يَا بَنِيَّاتَــرَوْا فِيهَـا عَنَاصِرَ طَيِّبَاتٍ ….. وَقَوْمـاً فِـي “الْحَسَا” شَعْبًا رَضِيَّا
وحبَّر “شيخنا” قصيدة جوابية من أبياتها:ــ
أَيَا شَيْخَ الْمَكَارِمِ َوالسَّجَايَا ….. وَيَا شَيْخَ الْفَضَائِلَ وَالْمَزَايَا وَيَا شَيْخَ الْقَرِيضِ وَكُلِّ نَثْرٍ ….. حَوَى مَا يُسْتَطَابُ مِنَ الْحَكَايَا أَتَتْنِي غَادَةٌ مِنْكُمْ تَهَادَى ….. كَأَحْسَنِ مَا تَكُونُ مِنَ الصَّبَايَا أَتَتْ فِي دِلِّهَا تَمْشِي الْهُوَيْنَا ….. فَوَافَقَ حُسْنُهَا مِنِّي هَوَايَا لَقَدْ أَتْحَفَتْنَا “عُثْمَانُ” شِعْراً ….. وَوَصْلاً بِالزِّيَارَةِ وَالتَّحَايَا فَحَلَّ الْبِشْرُ فِي “الأَحْسا” بِهَجْرٍ ….. بِلاَدُ الْجُودِ مِدْهَالِ النَّضَايَا بِـلاَدُ الْعِلْــمِ وَالإِحْسَانِ دَوْماً ….. بِلاَدُ الْمَجْدِ عُنْوَانُ الشَّذَايَــا
وفي “التحفة” الكثير مما لا يتسع المقام لذكره من عظات وعبر وأدبيات إسلامية. ولقد أورد “شيخنا” “بالتحفة” قليلاً من محفوظاته الشعرية، وهي محفوظات تتضمن ـ بحق ـ فوائد وحكم وطرائف ومنها بيتان من الشعر أوردهما “شيخنا”، وياليتني كنت أعرفهما منذ زمن بعيد إذن لاعتذرتُ عن نوع من “الإعارة” مع أن “الاعارة للشئ” في حد ذاتها من الأفعال الحميدة. ولكن ما مضى فات، وَمَنْ مِنَّا [ممن يحرص على اقتناء الكتاب والمحافظة عليه] لم يندم على هذا النوع من الاعارة. والمثل العامي يقول:ـ”إذا وقعت يا فصيح فلا تصيح”. والمؤمن لا يلدغ من جحر مرتين. والبيتان هما:ـ
أَلاَ يَا مُسْتَعِيَر الْكُتْبِ أَقْصِرْ ….. فَإِنَّ إِعَارِتِي لِلْكُتْبِ عَارُ فَمَحْبُوبِي مِــنَ الدُّنْيَا كِتَابِـي….. وَهَــلْ أَبْصَرْتَ مَحْبُوباً يُعَارُ
وتوقفتُ كذلك عند بيتين من محفوظات “شيخنا” وفيهما طرافة وهما:ــ
فَصَاحَةُ “حَسَّانٍ” وَخَطُّ “ابْنِ مُقْلَةٍ” ….. وَحِكْمَةُ “لُقْمَانٍ” وَزُهْدُ “ابْنِ أَدْهَمِ”إِذَا اجْتَمَعَتْ فِي الْمَرْأِ وَالْمَرْأُ مُفْلِسٌ ….. وَنُــودِي عَلَيْهَ لاَ يُبَاعُ بِدِرْهَـمِ
إن كل ما بهذه “التحفة” من قطوف تعبرُ عن عقل ناضج، وذهن صافٍ، وحضور واع، وتكشفُ عن شخصية متأثرة بالبيئة التي عاشت فيها وهي بيئة علم وملتقى حضارات.وصاحب هذه “التحفة” هو العالم والأديب والقاضي رئيس محاكم “محافظة الأحساء” السابق الشيخ “عبدالعزيز بن يحى اليحى” متعه الله بالصحة والعافية.لقد جمع فيها ما عنَّ له من قواعد شرعية وعلوم أدبية، وفي الجانب الأدبي منها عكس ما درج كتاب التراث عليه من محبة التراث والحرص عليه وحفظه بعد صيده، وهو عمل جليل وفعل محمود. والشيخ “آل يحى” كأنه فيما فعل يردد قول الشاعر:ـ
الْعِلْمُ صيْدٌ وَالْكِتَابَـةُ قَيْدُهُ ….. قَيِّدْ صُيُودَكَ بِالْحبَال الْوَاِثَقةْفَمِنَ الْحَمَاقَةِ أَنْ تَصِيدَ غَزَالَةً ….. وَتَسِيبَهَا بَيْنَ الْخَلاَئِقِ طَالِقَـةْ
ولأن “شيخنا” قد طلبَ في خاتمة “التحفة” أن من رأى خطأ أو سبق قلم أن ينبهه عليه فأود ، إتماماً للفائدة، التنبيه على أمور لعلها تجد لها مكاناً في الطبعة الثانية من “التحفة”. من هذه الأمور أنه لم يُذكر “بالتحفة” البلدة التي ولد بها الشيخ، وعبارة أن “أكل لحم الابل دون بقية أجزائه” من نواقض الوضوء تحتاج إلى إيضاح لما شاب العبارة من لبس إذ بالمثال يتضح المقال، ووردت “بالتحفة” آيات من القرآن الكريم وأحاديث نبوية بها عبارات يصعب فهمها إن لم تشرح بهوامش الصفحات التي وردت بها، كذلك من المهم أن يُحددُ المذهبُ الذي اعتمد عليه الشيح فيما يتعلق بفقه الطهارة والصلاة وغيرها، وكذلك لو أمكن تشكيل “اللآلئ المنظومة في إعتقاد أهل السنة والجماعة” حتى تسهل قراءتها وتفهم معانيها، كذلك أرى ضرورة الترقيم واستعمال النقط والفواصل بين الجمل ليزول اللبس ويتضح المعنى، وحبَّذا لو وُضِعَ فهرس “للأعلام” و”المصطلحات الشرعية المهمة” حتى يسهل الرجوع إلى محتويات “التحفة”.
—————هوامش—————
(1) لمزيد من التفاصيل عن “المطارحات الشعرية” لدى “شعراء الأحساء” راجع كتاب “كانت أشبه الجامعة: قصة التعليم في مقاطعة الأحساء في عهد الملك عبدالعزيز، دراسة في علم التاريخ الاجتماعي، ص/ 365 وما بعدها، ط/1419هــ، إصدار دارة الدكتور آل ملحم للنشر والتوزيع، الرياض.


الناشر: جريدة اليوم

– العدد:9724

تاريخ النشر: 29/01/2000م

رئيس دارة الدكتور آل ملحمللتحكيم والاستشارات القانونيةد/محمد بن عبداللطيف آل ملحم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.