أنا الكتاب…!وأنت تعرف – – يا صديقي من أنا …!إذا كانت المرناة ووسائل التسلية الأخرى من مسموعة وقروءة قد باعدت بيني وبينك فذلك، على كل حال، إلى حين.بيني وبينك – يا صديقي – جفوة سببها المرناة.وبيني وبينك – يا صديقي – جفوة سببها البث المباشر.وبيني وبينك – يا صديقي – جفوة سببها أمور لا أول لها ولا آخر ومنها: “الفيديو، و”الكيبل”، و”الكاسيت”، ومن قبلها كان البث المسموع ووسائل ترفيه أخرى. أمور لم أسمع عنها من قبل.أنا الكتاب، طود شامخ وجبل شاهق. لن تهزني هذه الأمور حيث هي بالنسبة لي كالزبد…!أنا رفيق سرير نومك، بل أنا أقرب إليك من زوجك. أنا الذي أجلب اليك النوم حينما تكون في حاجة اليه.حينما تضعني بالرف – يا صديقي – أجد الكآبة تحيط بي لبعدي عنك. كما أجد نفسي في ظلمات بين دفتين. ورغم هذا لا أتألم ولا أتضجر، لا أشكو ولا أتملل. بل، أظل صابرا، صامتا حتى يصلني الفرج حينما تدعوني إليك مرة أخرى. حينئذ آتيك طائعا مسرورا، رير العين.أنا الكتاب: لو تعلم، صديقك المخلص.أنا الكتاب: لو تتبصر، جليسك المؤنس.إنا كنت – يا صديقي – جاهلا، ففي مكنتي إزالة عار الجهل عنك.وإن كنت – يا صديقي – عالما، فمهمتي، لو طالعت صفحاتي، تذكيرك بما تعلمه، ومن ثم تزويدك بما لاتعلمه.وإن كنت – يا صديقي – شاعرا، فبين دفتي من الخيال ما يوسع أفقك لتزيد من إبداعك.أنا الكتاب: قريب منك ساعة النداء. وأكثر من هذا، إذا تصفحتني تحدثت إليك بكل صدق وأمانة. لا أخافك، ولا أرجو عفوك. وشأني معك هو شأن المثل القائل: صديقك من صدقك لا من صدقك.أنا الكتاب: لا أعرف المجاملة أو المحابة. ما في مكنوني أبثه اليك حتى ولو لم يتفق مع أفعالك وطباعك سواء أكنت كذابا، أو صدوقا، أو نماما، أو مغتابا، أو فاعل خير، أو من أهل التقوى والصلاح.أنا الكتاب: مرشد ومعلم. إن أدمنت مصاحبتي ستأخذ مني ثقافة، وأدبا، وعلما.أنا الكتاب: أنيسك في الوحدة. في إمكاني إزالة جو الوحشة عنك، وتحويل جو الهم من حولك إلى جو أنس ومسرة… إن وقرت رفقتي ستجد مني ما يسرك. وإن أهملتني فسأظل، مع ذلك، حبيبك الودود وقت الرخاء والشدة.أنا الكتاب: في جعبتي الفكاهة، والجد، والهزل، والقصة رة، والموعظة، والعبرة، والقول الحسن، والعلم النافع، والمثل السائر، وبيت الشعر الجميل، وأخبار الأولين، وأخبار الأذكياء، والحمقى، والمغلفين.أنا الكتاب: في جعبتي ألوان السرور، والامتاع، والمؤانسة.أنا الكتاب: لو هجرتني – يا صديقي – فسأظل قريبا منك. ولو ألقيتني جانبا فلن أغضب، ولن أتكدر، لأن ما تفعله حيالي هو، في رأيي، مجرد سحابة صيف حيث أني صفيك رغم الجفوة والهجران .أنا الكتاب: ولا فخر! خير أنيس وخير جليس. كنت في الغابر من الازمان محل الصدارة عند علية القوم، وكذلك عند أدبائهم وعلمائهم وشعرائهم وحتى صعاليكهم.مدحني أديب الأمة العربية أبو عثمان عمرو بين بحر الجاحظ بما أعجز عن وصفه. ومن هذا المديح قوله: (1)الكتاب نعم الذخر والعقدة، والجليس والعمدة، ونعم النشرة ونعم النزهة، ونعم المشتغل والحرفة، ونعم الأنيس ساعة الوحدة، ونعم المعرفة ببلاد الغربة، ونعم القرين والدخيل والزميل. والكتاب وعاء ملىء علما، وظرف حشي ظرفا، وإناء شحن مزاحا، إن شئت كان أعي من باقل، وإن شئت كان أبلغ من سحبان وائل، وإن شئت سرتك نوادره، وشجعتك مواعظه، ومن لك بواعظ مله، وبناسك فاتك، وناطق أخرس، ومن لك بطبيب أعرابي، ورومي وهندي، وفارسي يوناني، ونديم مولد، ونجيب ممتع، ومن لك بشيء يجمع الأول والآخر، والناقص والوافر، والشاهد والغائب، والرفيع والوضيع، والغث والسمين، والشكل وخلافه، والجنس وضده.وكذلك قال الجاحظ:وبعد فما رأيت بستانا يحمل في ردن، وروضة تنقل في حجر، ينطق عن المتى، ويترجم عن الأحياء، ومن لك بمؤنس لا ينام إلا بنومك ولا ينطق إلا بما تهوى، آمن من الأرض، وأكتم من السر، واحفظ للوديعة من أرباب الوديعة … ولا أعلم نتاجا … يجمع من السير العجيبة، والعلوم الغريبة، وآثار العقول الصحيحة، ومحمود الأذهان اللطيفة، ومن الحكم الرفيعة، والمذاهب القديمة، والتجارب الحكيمة، والأخبار عن القرون الماضية، والبلاد النازحة، والأمثال السائرة، والأمم البائدة ما يجمعه كتاب. ومن لك بزائر إن شئت كانت زيارته غبا وورده خمسا، وإن شئت لزم لزوم ظلك، وكان منك كبعضك. والكتاب هو الجليس الذي لا يطريك، والصديق الذي لا يقيلك، والرفيق الذي لا يملك، والمستمع الذي لا يستزيدك، والجار الذي لا يستبطئك، والصائب الذي لا يريد استخراج ما عندك بالملق، ولا يعاملك بالمكر، ولا يخدعك بالنفاق.وعن منافعي وأخلاقياتي تحدث الجاحظ قائلا : والكتاب هو الذي إن نظرت فيه أطال إمتاعك، وشحذ طباعك، وبسط لسانك، وجود بيانك، وفخم ألفاظك، وبجح نفسك، وعمر صدرك، ومنحك تعظيم العوام، وصداقة الملوك، يطيعك بالليل طاعتك بالنهار، وفي السفر طاعته في الحضر، وهو المعلإن افتقرت إليه لا يحقرك، وإن قطعت عنه المادة لا يقطع عنك الفائدو، وإن عزلت لم يدع طاعتك، وإن هبت ريح اعدائك لم ينقلب عليك…وقال بعض الحكماء واصفا مكانتي: “الكتب بساتين العلماء”.(2)ومدحني آخر فقال: “ذهبت المكارم إلا من الكتب”.(3)وقال ابن داحة: “كان عبدالله بن عبدالعزيز بن عبدالله بن عمر بن الخطاب لا يجالس الناس فنزل مقبرة من المقابر وكان لا يزال في يده كتاب يقرؤه، فسئل عن ذلك فقا: “لم أر أوعظ من قبر، ولا آنس من كتاب، ولا أسلم من الوحدة”.(4)أنا الكتاب. واسمح لي – يا صديقي – إذا كنت قد خرجت من صمتي الأزلي لأحدثك .أنا لا يهمني ما شغلت به الآن من مظاهر حديثة مؤقتة. ستعود لي مهما طال الزمن لأنني جامع الحكمة، ومستودع المعرفة، ومخزن العلوم.أنا الكتاب: أتحدث عن نفسي في عظمة وشموخ. وأنت – يا صديقي – كن مع المرناة ووسائل التسلية الأخرى. إنني لا أخاف منها. سأظل بجانبك رغم وجودها حواليك، ورغم انصراف حبك لها عني. إنه حب مؤقت، أما محبتي لك فهي أبدية.وأخير، هل تعرف – يا صديقي – عدوي الحقيقي. العدو الذي أخاف منه كثيرا. العدو الذي يحرمني من رؤياك للأبد. إنه المستعير! إنه أكثر خطورة علي من كل وسائل الترفية المؤقتة مجتمعة.وكم أتمنى عليك – يا صديقي – في سبيل محبتي لك أن تتذكر قول الشاعر حينما يطرق بابك مستعير:ألا يا مستعير الكتب أقصر ….. فإن إعارتي للكتب عارفمحبوب من الدنيا كتاب ….. وهل أبصرت محبوبا يعار
المستعير عدوي.حينما تعيرني له. لن يردني اليك. لن يردني.
—————هوامش:—————
(1) راجع الجاحظ المحاسن والأضداد ص/ 6و7, تحقيق فوزي عطوي , الشركة اللبنانية للكتاب للطباعة والنشر والتوزيع, بيروت 1969 هـ(2) المرجع السابق ص/6(3) المرجع السابق ص/6(4) المرجع السابق ص/6
الناشر: جريدة اليوم
– العدد: 7193
تاريخ النشر: 23/02/1993م