جواثا، من الناحية التاريخية، هي قاعدة الأحساء ومناط عظمتها وموئل مجدها.وجواثا، من الناحية الأثرية، رمز تاريخ وحضارة. وحضارة “جواثا” لم يكشف النقاب عنها بعد ذلك منذ العهد الجاهلي القديم وحتى الآن. وبالرمال للمحب دليل.وجواثا اسم محبب الى نفس كل مسلم حيث كانت في العهد الاسلامي الأول قلعة اسلامية مجيدة. وكفاها من الدنيا أن كان حظها أن أول جمعة في تاريخ الاسلام خارج المدينة المنورة قد صليت بها.وفي عهد الردة قال عبدالله بن حذف عن طائفة من المسلمين محاصرين بقلعة جواثا أبياتا من الشعر سرت، في عالم الشعر العربي الاسلامي، مسرى البرق إلى مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم:ألا أبلغ أبا بكر رسولا ….. وفتيان المدينة أجمعينافهل لكم إلى وم كرام ….. قعود في “جواثا” محصريناكأن دماءهم في كل فج ….. شعاع الشمس يعشي الناظريناكلنا على الرحمن إنا ….. وجدنا النصر للمتوكلينا
وكانت “جواثا” في العهد الجاهلي مدينة عامرة بالتجارة والزراعة والسياحة، وكانت تمر بها القوافل للتبضع والاستجمام. ويقول عن “جواثا” مؤرخ الأحساء الأستاذ عبدالرحمن الملا بأنها كانت مركزا هاما لأجود أنواع التمور وأطيب النخيل. وكانت القوافل تقصد جواثا بأنواع السلع من كل مكان، وتعود منها محملة بأنواع البضائع وأطيب التمور. وسكن بهذه المدينة بنو عبدالقيس إحدى قبائل العرب المعروفة آنذاك. وذكر امروء القيس “تجواثا” في أكثر من قصيدة. وفي قصيدة بائية له قال عنها:
ورحنا كأنا من “جواثا” عشية ….. نعالي النعاج بين عدل ومحقبنمش بأعراف الجياد أكفنا ….. إذا نحن قمنا عن شواء مضهبإلى أن تروحنا بلا متعتب ….. عليه كسيد الردهة المتاوبوراح كتيس الربل ينغص رأسه ….. أذاة به من صائك متحلبحبيب إلى الأصحاف غير ملعن ….. يقدونه بالأمهات وبالأبفيوما على بقع دقاق صدوره ….. ويوما على سفع المدافع ربربكأن دماء الهاديات بنحره ….. عصارة حناء بشيب مخضب
وقال أمرؤ القيس عن “منتجع جواثا” في قصيدة أخرى:
وظل صحابييشتوون بنعمة …. يصفون غارا باللكيك الموشقورحنا كأنا من “جواثا” عشية ….. نعالي النعاج بين عدل ومشنقورحنا بكابن الماء يجنب وسطنا ….. تصوب فيه العين طورا وترتقيوأصبح زهلولا يزل غلامنا ….. كقدح النضي باليدين المفوقكأن دماء الهاديات بنحره ….. عصارة حناء بشيب مفرق
وقال أبو تمام عن “جواثا” في قصيدة مديح ذات صور شاعرية:
قف بالطلول الدارسات علاثا ….. أمست حبال قطينهن رثاثاقسم الزمان ربوعها بين الصبا ….. وقبولها ودبورها أثلاثافتأبدت من كل مخطفة الحشا ….. غيداء تكسى يارقا ورعاثاكالظبية الأدماء صافت فارتعت ….. زهر العرار الغض والجثجاثاحتى إذا ضرب الخريف رواقه ….. سافت برير أراكة وكباثاسيافة اللحظات يغدو طرفها …… بالسحر في عقد النها نفاثازالت بعينيك الحمول كأنها …… نخل مواقر من نخيل “جواثا”
وتقع “جواثا” حاليا في شمال الأحساء واحة المملكة العربية السعودية الأولى. وتحيط بـ “جواثا” قرى المقدام والحليلة والكلابية. وتزايدت شهرة مدينة “جواثا” على سائر المدن العربية (فيما عدا مكة المكرمة والمدينة المنورة) عند ظهور الاسلام. وكان أهل “جواثا” من أسبق الناس في بلاد العرب من خارج مكة المكرمة والمدينة المنورة إلى اعتناق الاسلام حيث تشرف وفد من أهلها، وهو وفد بني عبدالقيس، بزيارة الرسول صلى الله عليه وسلم في عاصمة دولة الاسلام الأولى، المدينة المنورة. وعاد وفد بني عبدالقيس أدراجه بعد تشرفه بلقاء رسول الحق والهداية الى بلاد هجر (الأحساء حاليا) حيث أسسوا بمدينتهم “جواثا” مسجدا لهم وصلوا فيه صلاة الجمعة. وكان أول مسجد في تاريخ الاسلام تصلي به صلاة جمعة خارج المدينة المنورة. ويكفي هذا فخرا لـ “الأحساء” بلاد “هجر” أو “البحرين” كما كانت تسمى آنذاك. وقال شاعر بني عبدالقيس الأعور الثريني مفتخرا بدخول قومه الاسلام. ويا له من فخر:
والمسجد الشرقي كان لنا ….. والمنبران وفصل القول في الخطبأيام لا مسجد للناس نعرفه ….. إلا بطيبة والمحجوج ذو الحجب
وشهدت مدينة “جواثا” بعد اعتناق أهلها الاسلام أحداثا ومعارك، ودخلت هذه القلعة العظيمة بسبب تلك الحوادث والمعارك التاريخ من أوسع أبوابه، وهو تاريخ في خصوص مدينة “جواثا” جليل عظيم. وتحدث المؤرخون وكتاب السير والأدباء عنها وعن مسجدها على مر العصور بما فيه الكفاية. ولن أكرر هنا ما أورده هؤلاء عن مدينة “جواثا” ومسجدها لعدم لزومه بيد أن مقتضى الحال يتطلب مني هنا مجرد نقل نصوص ثلاثة أحاديث، من بين أحاديث أخرى، ورد الأول في صحيح البخاري، كما ورد الثاني والثالث في مسند الامام أحمد بن حنبل وذلك لما لها (أي لهذه الأحاديث) من انعكاسات حيوية لما سأورده من أشعار عن “منتجع جواثا”.قال الامام البخاري رحمه الله في صحيحه: حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا أبوعامر العقدي، حدثنا ابراهيم بن طهمان، عن أبي جمره الضبعي، عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما قال: أول جمعة جمعت، بعد جمعة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، في مسجد عبدالقيس بـ”جواثا” من البحرين.وقال الامام أحمد بن حنبل رحمه الله في مسنده: حدثنا يحي عن شعبة، حدثني أبو جمرة وابن جعفر قال: حدثنا شعبة عن أبي جمرة، قال: سمعت ابن عباس يقول: أن وفد عبدالقيس لما قدموا المدينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ممن الوفد؟ أو قال: القوم؟ قالوا: ربيعة، قال: مرحبا بالوفد، أو قال: القوم غير خزايا ولا ندامى، قالوا: يا رسول الله، أتيناك من شقة بعيدة، وبيننا وبينك هذا الحي من كفار مضر، ولسنا نستطيع أن نأتيك إلا في شهر حرام، فأخبرنا بأمر ندخل به الجنة ونخبر به من وراءنا، وسألوه عن أشربة؟ فأمرهم بأربع، ونهاهم عن أربع، أمرهم بالايمان بالله، قال: أتدرون ما الايمان بالله؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: شهادة أن لا اله الا الله وأن محمدا رسول اله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وأن تعطوا الخمس من المغنم، ونهاهم عن الدباء، والحنتم، والنقير، والمزفت، قال: وربما قال: والمقير، قال: إحفظوهن، وأخبروا بهن من وراءكم. وورد بمسند الامام أحمد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا لعبدالقيس فقال “اللهم اغفر لعبدالقيس” وقال: “يا معشر الأنصار أكرموا إخوانكم فهم أشبه الناس بكم في الاسلام، أسلوا طائعين، غير مكرهين، ولا موتورين”.
الناشر: جريدة اليوم
– العدد:6969
تاريخ النشر: 14/07/1992م