وتتعدد موضوعات وأغراض ملحمة الدر المكنون. ويصعب على في هذا البحث العابر تصنيفها أو الإحاطة بها. وع هذا فبالإضافة إلى ما حاولت الكشف عنه من مكنون فإن هذه المحاولة ستكون غير ناجحة إذا لم أنوه عن أمرين هامين قد طبعا الملحمة بطابع خاص. ويتعلق الأمر الأول بالموقف الذي حدده شاعر الملحمة لنفسه في علاقته بربه سبحانه وتعالى. وكان موقف الضعيف أمام القوي. أما الأمر الآخر فهو موقف المربي والمذكر والواعظ. وهو موقف حددته بعض القصص والمحاورات التي أوردها الشاعر في ملحمته والتي استهدف منها النصيحة والموعظة.
وبخصوص الأمر الأول فإن الشاعر كان أمام الله سبحانه وتعالى في موقف الخائف والزاهد والمذنب والمؤمن والمتوكل والذليل.استمع إليه في هذا الدعاء والإستغفار:
إلهي إني من المذنبين ….. وأنت علي قدير مكينومالي سوى بابكم بارئي ….. إليه قصدت مع القاصدينلك الملك وحدك يا مالكي ….. فأنت الذي تهب المالكينلك الكون وحدك يا فاطري ….. فأنت الذي أوجد العالمينإلهي ثبت على الدين قلبي ….. بقبري وأخراي أنت المعينإلهي أهدني وجميع الورى ….. ولا تجعلنا من الممترينوأصلح شؤوني وذريتي ….. ومن هم يلوني والمؤمنينإلهي وفق لما ترتضي ….. لكيما أكون من الأسعدينوحقق رجاي بتوفيقكم ….. فأنت الموفق أنت المعينفإن تم هذا فهذا المنى ….. لقد طاب عيشي وإني أمين
ويقول في مكان آخر بالملحمة:
فيا رب تمم علينا القوى ….. بعافية ارحم الراحمينوصرف قوانا على طاعة ….. بفضلكم أكرم الأكرمينوأصلح لنا ديننا إنه ….. به عصمة أمرنا أجمعينودنيا كذلك أصلح بها ….. معاشا يكرمنا كل حينوآخرة تلك فيها لنا ….. معاذ يقي أبد الآبدينويا رب واجعل لقاك لنا ….. ألذ من الما لدى الظامئينوأشهى من الأكل يا ربنا ….. على الجوع دوما لدى الجائعينوأنعم علينا بخاتمة ….. بها نبلغ الخلد في الفائزينفهذا المرام وهذا المنى ….. وأنت المجيب لمن يسألون
ويقول الشاعر في مكان آخر من الملحمة:
وإن العقيدة في واحد ….. هو الله لا غيره تعبدونتعالى عن الند سبحانه ….. فليس له من نظير يكونفوا عجبا كيف يعصى الإله ….. وكيف له يجحد الجاحدونوفي كل شيء له آية ….. تدل عليه ألا تعقلونتباركت يا من بريت الوجود ….. وأبدعت فيه جميع الشئونوأودعت فيه الجمال الذي ….. تحير في نعته الناعتونفهذي الطبيعة تسبي النهى ….. ويحتار في حسنها الواصفونتجمع فيها صنوف الجمال ….. وحسبك منه جمال العيونوآيات ربي لا تنتهي ….. وليس إليها الورى ينتهونفسبحان من قد أشاد السماء ….. بغير عماد لها تنظرونوزينها بالنجوم التي ….. تراءى بها بهجة الناظرينتنور في الليل آفاقه ….. وتهدي الحيارى من السائرين
فسبحانك الله من خالق ….. لك الخلق والأمر والعالمونوسبحانك الله من رازق ….. لك الكل مفتقر أجمعونتباركت ربا بريت الجمال ….. وأمرك ما بين كاف ونونإذا ما أردت لشيء له ….. تقول بأمرك كن فيكون
وأما الأمر الثاني والذي طبع الشاعر ملحمته به فهو أسلوب الحوار الذي استخدمه مع أصدقائه على شكل أسئلة وأجوبة، وكذلك مجموعة القصص التي ساقها واستهدف منها الموعظة والنصيحة. استمع إليه، على سبيل المثال، في هذه المحاورة:-
ولو قلت: أنكم تأكلون ….. لحومكم ولها تنهشونلقالوا: وكيف؟ فقلت لهم ….. ألستم بأعراضكم واقعينفإن اغتيابكم بعضكم ….. لأكل لأنفسكم لو تعونولو قلت: إنكم تهدمون ….. بيوتكم أي هدم مبينلقالوا: وكيف؟ فقلت لهم ….. بفأس النميمة لو تعلمونولو قلت: إنكم تقتلون نفوسكم ولها تذبحونبغير سيوف نظرتم لها ….. ولا من دم مرة تسفكونلقالوا: وكيف؟ فقلت لهم ….. أليس على بعضكم تكذبونولو قلت: إنكم تخربون ….. بيوتكم ثم لا تشعرونلقالوا: وكيف؟ فقلت لهم ….. بتربية الجيل لو تعلمونعلى غير سنة خير الورى ….. ألستم بذلك تعترفونولو قلت: إنكم تهلكون ….. نفوسكم ثم لا تبصرونلقالوا: وكيف؟ فقلت لهم ….. ألستم لأرحامكم تقطعونفإن القطيعة تهلك من ….. هم يقطعون ولا يصلونوهل كان يا قوم موجبها ….. سوى الشح لو أنكم تعقلونوحبكم المال هذا الذي ….. فتنتم به أفلا ترعوونولو تعلمون بأن الدنا ….. وما قد حوت لزوال تكونلما كنتم تقطعون بها ….. وشائجكم، بل لها تصلونفتوبوا إلى الله من فوركم ….. فإن المصرين لا يفلحون
وفي ختام هذا البحث عن ملحمة الدر المكنون أود إبداء بعض ملحوظات عنت لي أثناء المراجعة الأولية:1- لقد استهدفت من هذا البحث العابر هو التعريف بالملحمة وتقديمها للقارىء.2- لم يخرج شاعر الملحمة، لما قرر وضعها، عن أساليب الشعراء القدامى حيث سلك الشاعر نهجهم مقلدا لهم ومقتفيا لأثرهم روحا ومعنى.3- استخدم الشاعر في تحبير الملحمة كل صور تفصيلات بحر المتقارب. وبسبب استخدام كل هذه الصور فإن من سيقرأ هذه الملحمة بعد نشرها كاملة إذا كانت لديه حاسية شعرية ربما يتصور أن الشاعر قد خرج عن الروي والقافية وهو تصور غير صحيح لا سيما إذا أدرك هذا القاريء سلفا الفروق الواضحة بين صور تفعيلات البحر الواحد.4- من عيوب الملحمة التكرار الملحوظ في نهايات بعض الأبيات والتكرار كان من الضرورات لملحمة تجاوزت أبياتها الثلاثة عشر ألف بيت. والتكرار في حقيقة الأمر هو تكرار في اللفظ وليس في المعنى الذي استخدم اللفظ المكرر له. وفي عبارة أخرى لقد جاء تكرار اللفظ أحيانا بليغا في وقعه وتأثيره.5- لا تخلو الملحمة وذلك بالنظر لطولها من أبيات ذات صياغة ركيكة، وأبيات أخرى غامضة المعنى وأبيات أخرى هي والنثر سواء بسواء. ولهذا سوف تخضع كل أبيات الملحمة قبل نشرها كاملة لعملية مراجعة دقيقة.6- لم يحدد الشاعر الزمن الذي استغرقه في وضع الملحمة، كما لم يشر في أي جزء من أجزاء الملحمة للتاريخ الذي بدأ فيه كتابة أول بيت من أبياتها.7- يعد الشاعر على ضوء ما ضمنه في هذه الملحمة من توجيهات ونصائح وحماسة إسلامية من شعراء الدعوة الإسلامية. ولقد أبدى الشاعر قدرة فائقة في تطويع الشعر في سبيل الحث على التمسك بالعقيدة الإسلامية وإبراز عظمتها ومحاسنها بما دلل عليه من معين أمهات الكتب الإسلامية والمراجع الأدبية.8- لم أحاول في هذا البحث العابر التصدي للخصائص الفنية للملحمة أو القاء الضوء على أسلوب الشاعر وهل فيه تكلف أم لا؟9- لقد تعرض الشاعر في ملحمته للشعر عامة ولما يسمى بالشعر الحر أو المرسل خاصة. ولقد كال للشعر الأخير مر النقد. وهو موقف تبناه الشاعر ليس في هذه الملحمة فحسب وإنما في عشرات المجلدات الشعرية التي خلفها وراءه. استمع إليه يقول في الملحمة في هذا المعنى:
وما مرسل الشعر ذلكم ….. بشعر إذا أرسل المرسلونولكنه النثر في ضيغة ….. مشوهة عند ما يكتبون ولو نمقوا فيه ما نمقوا ….. فما الشمس في الليل قد يكونوشعري كما النثر اسكبه ….. بطيء القوافي التي تعلمونفعولن فعولن وغيرهما ….. قياس العروض الذي تعرفونفصوغوا القوافي على نمط ….. كهذا إذا رمتم تشعرونوإلا فخلوا القريض لمن ….. يجيدونه ثم لا تقربونومن ينشئون القوافي على ….. رسوم الأوائل هم يصلونتراثهم بجميع الدنا ….. فنعم الطريق الذي يصلون
انتهى البحث
المجلة العربيةالعدد:153التاريخ: شوال – 1410 هـ – مايو -1990 م
الناشر: المجلة العربية
– العدد: 153
تاريخ النشر: 01/04/1990م