وقفة مع أطول ملحمة شعرية..!! (1)

لقد نشرت رثاءا بعنوان “ومات شاعر موهوب”(1) وكان هذا الرثاء في الشاعر محمد بن عبدالله العمر الملحم الذي توفاه الله منذ عام تقريبا. ولقد عهد إلي ورثة الشاعر بكل ما خلفه من تراث شعري سجله الشاعر بنفسه في عشرات المجلدات المخطوطة. ولدى مطالعتي لتلك المجلدات عثرت على قصيدة من ثلاثة عشر الف بيت تقريبا. وكان عنوان هذه القصيدة “الدر المكنون في شتى الفنون”. وتعتبر هذه القصيدة لطولها أكبر ملحمة شعرية عرفتها، حسب علمي، لغة الضاد. وفي القصيدة غزارة. وللغزارة طعم خاص عند صاحب الملحمة، غزارة في المعاني الشريفة وغزارة في الخيال الخصب وفيالقدرة على تطويع الشعر لكل ما يريد قوله للأخرين. وختم الشاعر ملحمته بأبيات منها:
ثمار العبادة قد أينــعت …… على كل لون لمن يرغبونومن بين أثمارها إخـوتي …… صلاة على خاتم المرسلينختمت بها عقد ملحـمتي …… عساها بهذا الختام تكونلدى الله مقبولة وكفـى …… وذاك الذي أرتجيه يكونفإن هو من بهـا فأنــا …… من الفائزين الكرام أكونوظني بـربي جميـل ولا …… يخيب من هم به يحسنون
وتحتوي هذه القصيدة على علوم ومعارف ومسائل وأخبار وشؤون شتى في أمور الحياة وفي العقيدة الاسلامية وقيمها وآدابها. والقصيدة “نونية”. وحبرها الشاعر على روي وقافية واحدة تقاربت على نغم البحر المتقارب المتقارب فقربت إلينا فلسفته للحياة في شتى جوانبها، كأنك ترى الشاعر رحمه الله يعوم على بحر من العلوم، وينثر الدرر غزيرة برغم ندرتها في الوجود . ولقد استخدم الشاعر كل تفعيلات هذا البحر ذى الصور المتعددة. وفي هذا يقول الشاعر:
وهذى مشاعرنا شعرنا …… وهذي خواطرنا والشجوننعبر عنها بهذا القريض …… على كل فن زهى في الفنونولا سيما البحر هذا ففي …… ترانيمه كل لحن حنــونتجـاذبني فيه أمواجـه …… يسارا تقـاذفني ويمــينفأفرح حينـا بأنغامـه …… وأبكي مع اللحن فيه الحزينفقاربنـا متقاربنـــا …… نسافر فيه فنعم السفــيننسافر فيه فتون الهـوى …… فسره أبداع سر تعــون
واستهل الشاعر ملحمته بمقدمة طللية أو غزلية على عادة الشعراء القدامى في الوقوف على الأطلال والتغني بالآثار أو التغزل بالمحبوبة بما يحلو من نسيب أو مداعبة أو عتاب أو حنين. وأقتطف من هذه المقدمة ما يلي:
أحب النخيل وأهوى العيون …… وشدو البلابل فوق الغصونوأهوى الجداول وقت الضحى …… وأهوى الجداول وقت السكونتراءى بهن خيال الغصـ …… كمثل السيوف بأيدي القيون(2)كمثل المرايا لبسن الضحى …… وقرن الاصيل(3) البهي الفتونحبيبة قلبي تلك التي …… على كل حين لعيني تزينتجمع فيها الهوى كله …… فقصر عن وصفها الواصفونفما “هند” منها ولا “أمها” …… وليس سواها من العالمينيقاربن من لا أقول اسمها …… وإني لباسم حبيبي ضنينفيا فرحتي إن تلح لفتة …… أفوز بها حين تلتفتينوحين تنادين باسمي رضا …… وحين علي إذن تغضبينفيا من تعيشين في مهجتي …… وإني معنى(4) بها كل حينأتدرين أني أسر الهوى …… وأنت الخلية لو تعلمينوذكراك في خافقي لم تزل …… فهل أنت لي ساعة تذكرينلئن لم تكوني ذكرت الهوى …… وعهد الهوى عبقري حنونولم تذكري “الحقل”(5) عهد الصبا …… وموطن ذكرى هوانا الحنونولم تذكري الباب “باب الهوى”(6) …… ولم تذكرى حسنهن الفتون
وأيامنــا الحالمــات التي …… مررن كأعجل حلم يكونفـإني تذكـرت أيامنـــا …… وإني وفي لها لا أخــونولست بسال عهود الهـوى …… ومن ذا عليه الغرام يهونأأنسى وأسلو عيون الحـمى …… وبرء سقامي تلك العيونأأنسى “البحيرة”(7) تلك التي …… سبحت على ضفتيها السنينوأنسى “البحير”(8) وماء به …… يروق ببهجته الناظريــن”وأم خريسان”(9) ناطقــة …… بها ذكريات صباي الأمـين”وأم نسيم(10) نسيمــاتها …… داوي جراح فؤاد حزيـنفمرحى مواطننا هــذه …… ومرحى بجناتها والعيــونوأهلا بها في الدنا كــلها …… كأكبر وآحاتها تنظــرون
وفيما عدا العنوان الكبير الذي وضعه الشاعر لملحمته لم يحاول نفس الشاعر أن يضع عناوين فرعية للموضوعات التي احتوت الملحمة عليها. وهي موضوعات متنوعة

—————هوامش:—————
(1) نشر الرثاء في جريدة “الجزيرة” السعودية، العدد (5814) ص8، الصادرة يوم الاثنين 27/محرم 1409هـ الموافق 29 آب (أغسطس) 1988م.(2) القيون جمع قين. ولعل المقصود هنا صانعوا السيوف أو العبيد السود.(3) قرن الاصيل هو وقت غروب الشمس.
(4) المعنى بتشديد النون من المعاناة. والمقصود ما يكابده الانسان من شوق.
(5) المقصود هنا “عين الحقل” الشهيرة في الاحساء. وكانت هذه العين تعتبر من حديث وفرة مائها وقوة تدفقه ثاني أكبر عين بالاحساء الا ان وفرة مائها وقوة تدفقه قد قل عن ذى قبل في هذه الايام.(6) باب الهوى نخل كبير ومن اشهر نخيل الاحساء ، ولقد شهد هذا النخل ماضيا مجيدا ولاهالي الاحساء فيه ذكريات عطره.(7) عين تقع في وسط نخيل السيفة بغرب مدينة الهفوف القديمة عاصمة الاحساء . وتقع هذه العين الان في وسط مدينة الهفوف وذلك بالنظر الى توسع المدينة من جهة الغرب. واسم العين المتعارف عليها هو “البحيرية”. وكان لهذه العين ماض مشهود حيث كانت بمثابة معهد السباحة لمعظم ساكني مدينة الهفوف من الجهة الغربية. وللشاعر ذكريات عطرة في هذا المعهد وقد حبر فيه الكثير من القصائد. (8) عين تقع بالقرب من عين “البحيرية” من جهة الشرق تماما. وكان يرتاد العين الكثير من النساء للأستحمام بها. ولقد اندثرت هذه العين وأصبحت طللا من الاطلال.(9) عين تقع شمال مدينة الهفوف القديمة.(10) نخل صغير كان يملكه والد الشاعر. ويقع هذا النخل في شرق حي “الكوت” أحد أحيا الهفوف القديمة.
—————

لمجلة العربيةالعدد:148التاريخ: جماد الأول – 1410 هـ – ديسمبر -1989 م

الناشر: المجلة العربية

– العدد: 148

تاريخ النشر: 01/12/1989م

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.