موقفي من الشعر الحر:
منشور بالملحق الأدبي والفني بجريدة الرياض، العدد 2806 بتاريخ 4 شعبان 1394هـ الموافق 22 أغسطس 1974م. بقلم: الدكتور محمد الملحم، عميد كلية التجارة ـ جامعة الرياض.
سألني أحد الطلاب بالكلية عن سبب امتناعي عن الكتابة عما يسمى “بالشعر الحر” والذي نسبة ما ينشر منه على صفحات جرائدنا ومجلاتنا تفوق نسبة ما ينشر مـن “الشعر العربي”، وعـن الرد على الدردشة الرقيقة التي أوردتها جريدة “الرياض” في ملحقها الأدبي بتاريخ 6/7/1394هـ وتاريخ 20/7/1394 فأجبته بأنه ليس هناك داع لهذا الرد، ولا فائدة منه ما دام ان موجة هذا الشعر لاتزال في عنفوانها. كما ذكرتُ له بأن من شأن أيِّ رد إثارة الجدل من جديد حول هذا اللون من الكلام، وأنه سبق لي أن تعرَّضت له باقتضاب في كلمة قصيرة بعنوان “درس في الإعلام” نشرتُها في مجلة “اليمامة” الصادرة بتاريخ 21/2/1994م، كما ذكرت له أيضا بأن أي جدل من هذا النوع سيخدم في المحل الاول رغبات منتجي ما يسمى “بالشعر الحر” الذين يسعدهم أن يجدوا إنتاجهم محل اهتمام خاص من الكل، وإن كان من الانصاف أن أذكر أن معظم هؤلاء المنتجين مبرزون في أكثر من فَنٍّ من فنون الأدب العربي كفن الشعر الموزون المقفى، وأنه من اللاَّزم علينا جميعا كقراء أن نشجعهم على مواصلة العطاء. وسألني نفس الطالب عما إذا كنتُ أحبر الشعر العمودي أي الشعر العربي، فأجبته بالنفي، وإن كانت لي فيه محاولات غير جادة، وأضفت بأنني أحب قراءة الشعر العربي، وأحب أن أستمع اليه، وباعتباري أحد المستهلكين له فإني أبحث عنه دائما لاشتريه. وقلت لمحدثي بأن صفة الشاعر يجب، في رأيي، أن لا تطلق ألاَّ على الذين تمكنوا، بجدارة واستحقاق، من تجسيم أدب أمتهم، ومن إبراز خصائصه واظهار اصالة معدنه. وهنا تساءل هـذا الطالب بأن أحـد دعاة الشعر الحر في رده على ما نشرتُه في مجلة “اليمامة” قد قرَّر بأن ما يسمى “بالشعر الحر” لا يخلو من الموسيقى ومن المضامين الثقافية والفكرية والانسانية، فأجبته بأن هذا صحيح. كما أجبته بأن كل فنون الكلام كالنثر الفني، والمقامات، والقصة، والمقالة والمسرحية والرواية، والشعر الموزون المقفى وما يسمى “بالشعر الحر” تتضمن موسيقى ومعاني ثقافية وفكرية وإنسانية. ولكن لكل فن من هذه الفنون خصائصه ومميزاته، وتتحدَّث كتب الأدب العربي قديمها وحديثها عن هذه الخصائص والمميزات. ومن خصائص الشعر الذي عرفتُه وتعرفه الأمة العربية الوزن والقافية. وهاتان الخاصيتان لا تتوفران فيما يسمى “بالشعر الحر” الذي قد يكون فنا من فنون الكلام ولكنه ليس بشعر وفقًا لمقاييس الشعر التي قررها العرب وهذا هو المهم، وقد يكون شعرًا في آداب الأمم غير العربية، وهو لاشك كذلك. ولما لم يفهم الطالب ما ذكرتُ استرسلتُ في حديثي قائلاً له بأن “الكلمة” مهما كان وضعها وموضعها من الكلام لا بد من اشتمالها على مضمون ومعنى وإلاَّ كانت مجرد لغط. وما دامت فنون الكلام ـ من نثر وشعر وقصة ومقالة ومسرحية ـ تتكون من كلمات، وكل كلمة ذات مضمون ومعنى فإنه لا يختلف اثنان في أن جميع فنون الكلام، بما فيها ما يسمى بالشعر الحر” ذات مضامين فكرية وثقافية وانسانية. “ولقد عرف العرب فنون الكلام ومنه فن الشعر.والشعر الذي عرفوه وعُرِفُوا به هو الشعر الموزون المقفى. ولقد تجسد هذا الشعر، من الناحية الدينية والثقافية والحضارية، في آداب الامة العربية. كما عبر بواسطته روَّاد الشعر العربي عما يجيش في وجدان هذه الأمة، وما يتلاءم مع عقليتها، ويتناسب مع حسها، بل وتصورها للأمور من حولها وفي البيئة التي تعيش فيها وعاشت فيها. كما تمكَّن الرواد العرب في آداب اللغة العربية وعلومها من وضع الأسس العلمية والأشكال الفنية للصناعة الشعرية والتي استخدمها الشعراء العرب في تحبير الشعر الذي يفهمه الأنسان العربي، ويطرب له، ويتجاوب معه بالفطرة والسليقة، بل ويعيش معه عن طريق العاطفة والتفاعل، ولقد حفظ لنا التراث العربي الاسلامي قديمه وحديثه ذخيرة حية من هذا الشعر. وإلى هذا الحد نبهتُ هذا الطالب إلىحقيقة مهمة وهي أن ما يسمى “بالشعر الحر” يعاني، في تصوري، من مشكلة حضارية ذات علاقة بآدات الأمم وعلومها. كما يعاني من ما يمكن أن أسميه بمشكلة الانتماء الثقافي. وتأبى، في تصوري، حضارة العرب وآدابها العربية والاسلامية أن تتقبل هذا الكلام، ولآأن تستقبله بالأحضان. كما يعز ويصعب على هذه الحضارة الشامخة والتي تبلورت خلال تاريخ العرب الطويل أن ترغم الإنسان العربي على تقبل هذا اللون من الكلام وتذوقه وهضمه والتفاعل معه. ويكفي أن أشير في هذا الخصوص إلى ما أورده “ابن الاثير” في معرض تقسيمه للكلام إلى منظوم ومنثور من أن الأشعار لدى العرب أكثر، والمعاني فيها أغزر. ويعزو “ابن الاثير” سبب ذلك إلى أن العرب الذين هم أهل الفصاحة جل كلامهم شعر، ولا يوجد الكلام المنثور في كلامهم إلاَّ يسيرًا، ولو كثر فإنه لم ينقل عنهم، بل المنقول عنهم هو الشعر، فأودعوا أشعارهم كل المعاني. كذلك يذكر “ابن خلدون”: في مقدمته الشهيرة، وهو الخبير بأحوال الأمم وحضاراتهم وآدابها وملامح مجتمعاتها من أن لسان العرب وكلامهم إلى فنَّين في الشعر المنظوم وهو الكلام الموزون المقفى، وفي النثر وهو الكلام غير الموزون. وكل واحد من الفنَّين يشتمل على فنون ومذاهب في الكلام. ويقول “ابن خلدون” في مكان آخر من مقدمته بان “هذا الفن من فنون كلام العرب وهو المسمى بالشعر عندهم. ويوجد في سائر اللغات، إلاَّ أننا الآن إنما نتكلم في الشعر الذي للعرب فإن أمكن أن تجد فيه أهل الألسن الأخرى مقصدهم من كلامهم، وإلاَّ فلكل لسان أحكام في البلاغة تخصه، وهو في لسان العرب غريب النَّزعة، عزيز المنحى إذ هو كلام مفصل قطعًا متساويةً في الوزن متحدة في الحرف الأخير من كل قطعة من هذه القطعات”. ويقول المؤرخ الكبير أيضا بأن فن الشعر كان شريفًا عند العرب، ولذلك جعلوه ديوان علومهم وأخبارهم وشواهد صوابهم وخطئهم وأصلاً يرجعون إليه في الكثير من علومهم وحكمهم ولا يستطيع، في رأيي، أن يحظ ما يسمى “بالشعر الحر بهذه الميزة التي تحدث عنها ابن خلدون. وما يسمى “بالشعر الحر”، وهو كلامٌ له مضامين فكرية كسائر فنون الكلام الأخرى، كذلك له موسيقى ولكنها ليست كموسيقى الشعر العربي ولخلوه من الوزن والقافية فانه يفقد كل خصائص الجمال والإثارة التي تتوفر في الشعر العربي. ومهما قيل عن هذا اللون من الكلام وعن الدور الذي من الممكن أن يلعبه في الحياة الأدبية العربية فان نغماته ـ إذا كانت له نغمات ـ ستظل عاجزةً عن دغدغة سمع الانسان العربي وحسه، ناهيك عن عدم قدرة هذا الانسان على حفظه، أو على التفاعل معه حينما يسمعه. وقد يكون من نافلة القول لآأن أشير إلى المكانة الخاصة والفذة التي يحتلها شعرنا العربي في حياتنا الخاصة والعامة، وفي مجالس أنسنا وسمرنا. وفي نهاية حديثي مع محدثي تعهَّدت له بأن بكون هذه آخر مـرة تحدث فيها عن ذلك اللَّون من الكلام.
الناشر: جريدة الرياض
– العدد:2806
تاريخ النشر: 22/08/1974م