العلاقات العامة (2)

كتاب الأستاذ الدكتور البدر “أسس العلاقات العامة وتطبيقاتها” مهم في خصوص الموضوع الذي تطرق الكتاب له. وخرجت من مطالعتي له بثلاث أفكار أساسية. تتعلق الفكرة الأولى بالنهج الذي سلكه المؤلف في عرض عملية العلاقات العامة من الناحية التاريخية والعلمية. وتتعلق الفكرة الثانية بمحاولات المؤلف الناجحة في بلورة معالم ما يمكن أن يسمى بعملية العلاقات العامة من منظور إسلامي. وتتعلق الفكرة الثالثة بحيوية فكرة العلاقات العامة وقدرتها على استيعاب كل جديد.وأشبع المؤلف الفكرة الأولى بحثا وتوثيقا. وهذا ليس بمستغرب عليه لتمكنه من عملية العرض والطرح من الناحية العلمية. واكتسب الدكتور البدر هذه المهارة من خلال ممارسته للعملية الصحفية منذ كان طالبا بقسم الصحافة بكلية الآداب بجامعة القاهرة. وكذلك بعد تخرجه من الكلية. ولمسات هذه الممارسة جلية في اسلوبه الشيق. وهو الأسلوب الذي استخدمه في تأليف أسس العلاقات العامة وتطبيقاتها والكتاب معد أساسا لطلاب العلاقات العامة بالجامعة. ولهذا الغرض العلمي استخدم المؤلف في طرح أفكاره أسلوب العرض الموضوعي المجرد دون أن يفرض على الطالب توجهات معينة ذات طابع شخصي. أي أن المؤلف اعتمد تقديم أفكاره عن الموضوع الذي يعالجه بكل أمانة وتجرد وموضوعية دون أن يحاول فرض وجهة نظر معينة تاركا له. وهذا نهج طيب تقتضيه الحرية الأكاديمية. والأمثلة المعبرة عن هذا الأسلوب المحايد ملموسة في أكثر من فصل من فصول الكتاب.وعن الفكرة الأولى التي أشبعها المؤلف بحثا وتوثيقا فأعني بها ذلك النهج الذي كما سبق أن ذكرت سلكه المؤلف في عرض عملية العلاقات العامة من الناحية التاريخية والعلمية.ومن الناحية التاريخية تمكن المؤلف من إعطاء تصور تاريخي لبدء العلاقات العامة منذ نشأة الإنسان وعبر التجمعات الإنسانية التي اتخذت أشكالا على رأسها القبيلة، ثم مجتمع المدينة، ثم حضارات مجتمع المدينة كالحضارة الآشورية، والحضارة الفرعونية، والحضارة اليوانية، والحضارة الرومانية، ومن ثم الحضارة الإسلامية. وحينما كانت الحضارة الإسلامية في عز مجدها وشموخ عظمتها كان العالم الغربي كله في قرونه الوسطى يغط في نوم عميق تحيط به أجواء أمية متغشية وجهالة لا حدود لها.خلال هذه العهود أو الحضارات يقول الدكتور البدر بأن العلاقات العامة كمحتوى لعبت أدوارا فعالة وإن لم تتبلور معالم محددة لها.ففيما يتعلق بالحضارة الفرعونية يقول المؤلف:أما قدماء المصريين فقد اهتموا بالسيطرة على أفكار الجمهور وتحريك مشاعره واتبعوا في ذلك شتى الأساليب التي منها تأليه الفرعون، وتقديس الكهنة، وتشييد المعابد الضخمة والقبور الشاهقة على شكل الأهرامات التي لا تزال ماثلة للعيان دليلا على حضارة متقدمة، كما يمكن أن ينظر إليها على أساس أنها من المعجزات التي أتى بها الإنسان. كل ذلك من أجل إظهار هيبة الحكام وعظمتهم للتأثير على عقول الناس وأفكارهم. وما الثروة الهائلة من الآثار الفرعونية في مصر وفي متاحف العالم إلا شاهد على ذلك. كل الفراعنة ينشطون في ممارسة الإعلام، خاصة في فترات الحروب، لتعبئة المعنويات اللازمة لإحراز النصر. كما كانت النقوش على الحجارة وواجهات المعابد تشيد بالإنتصارات الحربية للحكام وإنجازاتهم المختلفة. أما في أوقات السلم فكان الإعلام ينشط للأغراض الدينية والإجتماعية. فقد استخدمت أوراق البردي في النشرات التي يصدرها فرعون مصر وأمراؤه لمحاربة أشياء ضارة يراد الإبتعاد عنها، والإشادة بأفكار أخرى يريد الحكام نشرها بين الناس.وفي خصوص العلاقات العامة في ظل الشريعة الإسلامية يقول المؤلف:فالشريعة الإسلامية تتضمن جميع الأصول الأخلاقية السليمة التي يستند إليها في العلاقات العامة الممارس حاليا. فالدين – في نظر الإسلام – هو المعاملة. والمعاملات جزء أساسي من الشريعة الغراء التي تأمرنا بإتقان الصنعة، والأمانة، والصدق، والوفاء بالوعود والعهود والإلتزامات. وأن يحب الإنسان لأخيه ما يحب لنفسه، وأن نعامل الناس بالحسنى. بينما يحرم الدين الإسلامي الغش والخداع والنصب والإحتيال وأكل أموال الناس بالباطل.وعلى الرغم من شموخ الحضارة الإسلامية وقدرتها على العطاء إلا أنها قد تخلفت وبمشيئة الله إلى حين. عن مواصلة ركب التحولات العلمية التي بلورت بدايات ما عرف فيما بعد بالعصور الحديثة. وهي العصور التي من أهم معالمها ثورة العلم في العالم الغربي بدءا بالثورة الصناعية، وانتهاءا بغزو الفضاء. يقول الدكتور البدر في هذا الخصوص:أدت الثورة الصناعية التي اجتاحت أوربا في نهاية القرن الثامن عشر، ثم انتقلت إلى أمريكا، إلى تعقيد في العلاقات بين الناس. إذ أن هذه الثورة خلقت أوضاعا جديدة لم يكن للإنسان دراية بها. فإذا كان الإنسان على مر عصوره يمارس تبادل الخدمات على أسس فردية فإن الإنتاج أيضا كان يقوم على أساس فردي، أو على أساس تجمعات عائلية صغيرة تحكمها العلاقات الأبوية والنخوة والمروءة. لكن الثورة الصناعية بدلت ذلك فأصبح المصنع يتكون من خط للإنتاج يتكون من عدد أكبر من الناس لا تجمعهم صلة القرابة، ولا سكنى الجوار ولا تسمح الآلة بوقت تتولد فيه علاقاتهم وتنمو.وتتبع المؤلف العلاقات العامة كعلم من خلال تعريف العلاقات العامة، وتحديد أهدافها والتفريق بينها وبين علوم ومناهج أخرى تكون في مجموعها ما سبق أن سميته بالإستراتيجية الأيدلوجية. وحاول المؤلف النظر للعلاقات العامة كعلم حيث خصص فصلا مستقلا ذا عنوان إستفهامي هو “ما هي العلاقات العامة؟” وفي هذا الإطار بدأ المؤلف في محاولة وضع تعريف جامع مانع للعلاقات العامة إلا أنه بعد أن استعرض عدة تعريفات كشف عن صعوبة الإتفاق على تعريف محدد. ولا شك أن مصدر الصعوبة تكمن في أن العلاقات العامة كعلم لا تزال تحت مجهر البحث والتقصي باعتبارها ظاهرة جديدة في عالم الثورة الصناعية ذات الأبعاد التقنية المعقدة. على أن صعوبة تحديد تعريف متفق عليه للعلاقات العامة لم تمنع المؤلف من وضع تصور لعلم العلاقات العلاقات العامة عن طريق تحيد أهداف هذا العلم. وهذا نهج من طبيعة نمطية تشترك فيه سائر العلوم الأخرى. وفي ضوء تحديد أهداف هذا العلم فرق المؤلف بينه وبين علوم أو مجالات أخرى كالعلاقات الإنسانية والإعلام والتسويق والدعاية ووكالات النشر والتثقيف السياسي.وفي محاولة لوضع إطار عام للعلاقات العامة كشف المؤلف أن العلاقات العامة هي مسئولية المجتمع. وهو في هذا الخصوص يقول:تخطىء أي مؤسسة تعتقد أنها تستطيع الحصول على ثقة جمهورها من خلال إغراقه بالمعلومات عن إنجازات وهمية، أو عن أعمال خططت وسوف يتم تنفيذها إذ أن الحقيقة لابد أن تتضح. كما تخطىء أي مؤسسة تعتقد أن إدارة العلاقات العامة لديها عصا سحرية تستطيع بواسطتها خلق سمعة طيبة لتلك المؤسسة حتى وإن لم يتم تعاون بقية المسؤلين فيها. إن القول لابد أن يدعمه العمل. وإذا خالف العمل القول ضاعت الثقة/ ولا يفيد أن نقول كلاما حلوا ويعمل أحد أفراد المؤسسة شيئا مخالفا بحجة أن رجال العلاقات العامة هم المسؤلون عن تكوين السمعة الحسنة للمؤسسة ورعايتها.


الناشر: جريدة اليوم

– العدد:7207

تاريخ النشر: 02/03/1993م

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.