أدباء وأديبات من الخليج العربي (1)الدكتور محمد بن عبداللطيف آل ملحم بقلم عبدالله بن أحمد الشباط
تربطني بمعالي الدكتور “محمد بن عبداللطيف آل ملحم” صداقة مواطنة تمتد إلى ما قبل ثلاثين عامًا تحدَّثت عن بعض من ملامحها في كتاب (هجر واحة الشعر والنخيل) .. ولقد شغلَته الوظيفة عن استغلال مواهبه الأدبية وتكريس ذكرياته ومحفوظاته في كتبٍ يطالعها الجميع، ويستفيد منها عامة القراء .. فأنت إذ تقرأ للدكتور “آل ملحم” تَحِسُّ أنك أمام طاقة أدبية تنشر عبيرها على الماضي والحاضر .. وإن كانت في غالبيتها لا تعدو نطاق المحلية مع جنوح إلى الالتزام بذلك المسلك القانوني الذي استنفذ الكثير من سنوات دراسته.
وقبل الولوج إلى عالمه الأدبي أجد من اللاَّئق أن أقدمَ للقراء تعريفًا مختصرًا بهذا الأديب.فهو من مواليد الأحساء عام 1357هـ، وبعد أن قرأ القرآن الكريم التحق بالمدرسة الإبتدائية حيث نال شهادتها عام 1371هـ.تابع دراسته حتى نال الشهادة الثانوية عام 1377هـ من المدرسة الثانوية بالرياض ـ أما اللِّيسانس في الحقوق فقد نالها من كلية الحقوق بجامعة القاهرة، ثم واصل دراسته حتى حصل على الدكتوراه من جامعة ييل Yale في “الولايات المتحدة الأمريكية”، ثم تقلَّب في الوظائف الحكومية والمراكز الهامة بالدولة حتى تم ترشيحه وزير دولة بمجلس الوزراء من عام 1395هـ إلى عام 1416هـ حيث تفرَّغ للعمل الخاص.
وقد صدرت له عدة كتب باللغتين العربية والإنجليزية، وكان في طليعة كتبه باللغة العربية كتاب (كانت أشبه بالجامعة) عن بداية التعليم النظامي بالأحساء في العهد السعودي .. وهو كتاب امتزج فيه التاريخ بالذكريات الخاصة في أسلوب سلس ممتع حاز على تقريظ العديد من رجال الفكر والأدب الذين شَهِدُوا بما لهذا الأديب من مقدرة على استنهاض الذكريات العذبة، وما تخلَّلها من شخصيات كان لها الفضل في إذكاء الروح الأدبية لدى أبناء الجيل الذي دارت حلقات الكتاب حوله، إلى جانب ما تميز به من التوثيق والحرص على ترسيخ المسميات التي كادت أن تنمحيَ من الذاكرة، وكان من بين من اثنوا على هذا الكتاب ـ الوثيقة ـ معالي الدكتور عبدالعزيز الخويطر .. الذي كتب عن الأحساء كتابة هي الثناء والتقدير لدور الأحساء الرائد، وأسرها العلمية، وعلمائها الذين كان لهم الفضل في حمل شعلة الثقافة إلى أنحاء العالم الإسلامي حيث كانت مدارسهم وأربطتهم ملتقى لطلاب العلم من “فارس”، و”الصومال”، و”موريتانيا”، و”إمارات الخليج العربي” آنذاك.ثم أتبع ذلك الكتاب بكتابٍ عنوانُه (حماد الراوية الثاني عبدالله بن فهد بوشبيب) الذي جاء في فصله الثاني ما أوضحه المؤلف:(سأطلق على (أبوشبيب) أكثر من اسم في هذا الكتاب:”تارة سأسميه باسمه الحقيقي ـ عبدالله بن فهد بوشبيب ـ واختصارًا “أبوشبيب”،وتارة سأسميه “حماد الراوية الثاني” ـ وهو الاسم الأكثر استخدامًا في هذا الكتاب،وتارة سأسميه “راوية الأحساء”،وتارة سأسميه “هزار الأحساء وبلبلها الغريد”،وتارة سأسميه “شادي الأحساء”،وتارة أخرى سأسميه “صداح القوافي”).من هو هذا الذي حظيَ من المؤلف بهذه التسميات التي تتنافسُ في التقدير؟ولد حماد الراوية الثاني في التاسع من شهر شعبان عام 1317هـ بالهفوف ـ درس القرآن الكريم، وتعلق بحفظ الشعر، وقراءة كتب الأدب، وكان طيلة حياته زينة المجالس يشدو فيها بعذب الأشعار، ومختار الأدب إلى أن توفيَ بمسقط رأسه في السادس من شهر رمضان عام 1403هـ.كان رحمه الله راوية للشعر العامي والفصيح، يمتاز بذاكرةٍ لا يتخللها الخلط أو التداخل، ولقد أحسن أديبنا الكبير “محمد آل ملحم” في رصدِ حياة هذا الراوية ومجالسه ومحفوظاته.ويمتاز هذا الكتاب أنه يقدم تعريفات لكل الشعراء الذين شدا ذلك الهزار بأشعارهم، كما يقدم تعريفات لكل الأشخاص الذين التقى بهم وأنشدهم، وعندما مات رثاه كثير من الأدباء وفي مقدمتهم “الشيخ الأديب عبدالله بن محمد بن خميس”، والدكتور “محمد آل ملحم” ـ مؤلف الكتاب، والشاعر “محمد بن عبدالله آل ملحم”، والشاعر “سعد بن عبدالرحمن البراهيم”.وأنا هنا لن أمضي الوقت في الحديث عن أثر واحد من آثار هذا الأديب حيث أن للدكتور “آل ملحم” الكثير من الإسهامات الأدبية حيث ذكر الدكتور أن له حوالى تسعة كتب تحت الطبع، إلى جانب البحوث والمقالات في المجلات والصحف المحلية.ويمتاز أسلوب الدكتور “محمد آل ملحم” بالشفافية والبساطة المباشرة خصوصًا عندما يتعلق الحديث بمن يكن لهم الود كحديثه عن ابن عمه الشاعر “محمد بن عبدالله آل ملحم” عندما اختطفه المنون فكتب مؤبنًا لينساب حديثه من القلب إلى القلب:”فجعتُ ـ كما فُجِعَ غيري من الأقارب والأصدقاء والمحبين بالأحساء ـ بفراق شاعر موهوب، وخفَّف من هول الفاجعة في نفسي قول الله تعالى: (وما كان لنفس أن تموت إلاَّ بإذن الله كتابًا مؤجلاَ).عَزَّ عليَّ ـ كما عزَّ على أسرته الصغيرة وأقاربه وأصدقائه ومحبيه ـ هذا الفراق ـ ولكنها إرادة الله، ولا راد لقضائه وقدره، قال الله تعالى [كل نفس ذائقة الموت].. وقال سبحانه وتعالى [ولن يؤخر الله نفسًا إذا جاء أجلها].في ظهر يوم الخميس الموافق السابع عشر من شهر ذي الحجة عام 1408هـ انتقل إلى رحمة الله الشيخ الأديب الشاعر/ “محمد بن عبدالله بن حمد [العمر خطأ] آل ملحم” قريبي ورفيق صباي وصديقي.تغمد الله الفقيد برحمته، وأسكنه فسيح جناته، وألهم الله أسرته وأقاربه وأصدقائه ومحبيه الصبر والإحتساب والسلوان . إنا لله وإنا إليه راجعون.
عشتُ مع الفقيد بحكم القربى منذ الصغر في “فريق آل ملحم” بالنعاثل بمدينة الهفوف حاضرة الأحساء، وتعلمتُ مع الفقيد قراءة القرآن الكريم في الكتاتيب عند الشيخ/ ثابت، ومن ثم دخلتُ معه المدرسة الابتدائية بالهفوف، ولم يكمل الفقيد الدراسة الإبتدائية حيث أدخله والده ـ رحمه الله ـ في المعهد العلمي بالأحساء بعد افتتاحه علم 1374هـ، وبعد تخرجه من المعهد التحق بكلية الشريعة بالرياض، وعلى إثر تخرجه من الكلية عمل بمهنة التدريس بمدينة الخبر، ومن ثم بالهفوف حاضرة الأحساء حتى وافاه الأجل المحتوم”.والدكتور “آل ملحم” عندما يتحدث عن أصدقائه تحس في حديثة تلك الحميمية المتفجرة الناطقة بكل معاني الود والوفاء.وبين يدي مقطوعة من ذكرياته يتحدَّث فيها عن زميله في المرحلة الجامعية عندما كان في القاهرة، وكان زميله الدكتور “حمود البدر” أمين عام مجلس الشورى يدرس الصحافة بجامعة القاهرة، ويتقاسم معه السكن: “مضى على صداقتنا أكثر من ستة وثلاثين عامًا .. تعرَّفَ بعضنا على بعض بمدينة الرياض في صيف عام 1378هـ. كان رفيق الدرب وقتها طالبًا في المرحلة النهائية بالمعهد العلمي السعودي بمكة المكرمة في عام 1378هـ، وكنت وقتها طالبًا في المرحلة النهائية بمدرسة الرياض الثانوية حينما كان مقرها بيت “ابن جبر” في 1378هـ .. قرَّرت الحكومة في ذلك العام، بعد نجاحنا، أن نواصل الدراسة بمصر، فاتفقنا على السفر سويةً.في مصر التحق صاحبي بقسم الصحافة بكلية الآداب، جامعة القاهرة، أمَّا أنا فقد التحقت بكلية الحقوق في الجامعة نفسها.وقرَّرنا أن نسكن معًا .. وكانت رغبتنا الجامحة أن نجاور الجامعة، وأن نذهب إليها مشيًا على الأقدام. وبصعوبةٍ بالغةٍ تحقق أملنا حيث وجدنا السكن المريح في شقة بشارع الخطيب بحي الدقي بالجيزة. وكما هو معروف تحتاج الدراسة في الغربة إلى استقرار نفسي، وإلى رفيق درب تشاطره ويشاطرك أحوال المسرة والألم .. كنا نتفق وكنا نختلف .. وهذه ظاهرة صحية. وكان من شأن اتفاقنا على بعض الأمور واختلافنا على أمور أخرى تقوية أواصر الصداقة بيننا.لعب الاستقرار النفسي والرفقة القائمة على التفاهم والمحبة والتسامح دورًا هامًا في نجاحنا الدراسي.
كان صاحبي هاويًا للصحافة، متعلقًا بها، كانت في روحه ودمه حتى قبل أن يلتحق بقسم الصحافة. وحينما كان طالبًا بالقسم كان يراسل بعض صحفنا السعودية من القاهرة لغاية في نفسه تمكَّن من تحقيقها بسهولة. وكنتُ أتصورُ أن ما يرغب في تحقيقه عن طريق مهنة المتاعب معجزة في حد ذاتها، وهي غاية نجح في الوصول إليها، وحينما أمسك بناصيتها وجد فيها خيرًا وبركة.كان رفيقي يحدد وقت المذاكرة، كما يعرف وقت الراحة، وكان صاحب رأي، وكان يحاور ولكن في أناة وصبر بأدب جم، وكان يستمع للرأي الآخر وحتى إن لم يقبله، فهو يحترمه”. هذا هو أديبنا الكبير الدكتور “محمد بن عبداللطيف آل ملحم” في تعريفٍ قصدتُ به تقديمه كوجهٍ بارزٍ من وجوه الفكرِ في “منطقة الخليج العربي”.
بقلم عبدالله بن أحمد الشباط. المصدر: المنهل: مجلة العرب الأدبية، العدد (569)، ص/74 ـ77، المجلد (61)، العام 66، رجب 1421هـ،أكتوبر 2000م.
المقالة: أدباء وأديبات من الخليج العربي (1) أدباء وأديبات من الخليج العربي (1)
الكاتب: عبدالله بن أحمد الشباط
الناشر: مجلة المنهل ,
العدد:659تاريخ
النشر: أكتوبر 2000م