ومات شاعر موهوب “محمد بن عبدالله آل ملحم”

فجعت ـ كما فجع غيري من الأقارب والأصدقاء والمحبين بالأحساء ـ بفراق شاعر موهوب. وخفف من هول الفاجعة في نفسي قول الله سبحانه وتعالى:ـ (وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا).عز علي ـ كما عز على أسرته الصغيرة وأقاربه وأصدقائه ومحبيه ـ هذا الفراق، ولكنها إرادة الله، ولا راد لقضاءه وقدره، قال الله تعالى: (كل نفس ذائقة الموت). وقال سبحانه وتعالى: ( ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها). صدق الله العظيم. في ظهر يوم الخميس الموافق السابع من شهر ذي الحجة عام 1408 هـ أنتقل إلى رحمة الله الشيخ والأديب والشاعر/ محمد بن عبدالله بن حمد العمر الملحم قريبي، ورفيق صباي، وصديقي.تغمد الله الفقيد برحمته، وأسكنه فسيح جناته، وألهم الله أسرته وأقاربه وأصدقاءه ومحبيه الصبر والإحتساب والسلوان، إنا لله وإنا إليه راجعون.عشت مع الفقيد بحكم القربى منذ الصغر في “فريق آل ملحم ” بالنعاثل بمدينة الهفوف حاضرة الأحساء وتعلمت مع الفقيد قراءة القرآن الكريم في الكتاتيب عند الشيخ/ثابت، ومن ثم دخلت معه المدرسة الإبتدائية بالهفوف. ولم يكمل الفقيد الدراسة الإبتدائية حيث أدخله والده ـ رحمه الله ـ في المعهد العلمي بالأحساء بعد إفتتاحه في عام 1374 هـ وبعد تخرجه من المعهد إلتحق بكلية الشريعة بالرياض. وعلى إثر تخرجه من الكلية عمل بمهنة التدريس بمدينة الخبر، ومن ثم بالهفوف حاضرة الأحساء، حتى وافاه الأجل المحتوم.عشت مع الفقيد صغيرا، فيافعا، فشابا، ومن ثم إفترقنا لطلب العلم إلى حين وأتذكر أنه بعدما شب عن الطوق بدت عليه ملامح ذكاء مصحوبة برغبة جامحة لحفظ الشعر وإنشاده حيث كان ـ رحمه الله ـ يملك صوتا جميلا أخاذا.وقد تتسائل أيها القارئ العزيز، لماذا أرثيه ؟ وتساؤلك هذا في محله ! كنت أعرف الفقيد، كلما كنت بالأحساء أو كلما زارني بالرياض حيث أقيم، محبا للشعر عاشقا له. ولكن الذي ماكنت أعرفه عن الفقيد، والذي كان محل ذهولي بعد وفاته، أنه خلف وراءه رصيدا شعريا ضخما سجله بنفسه في عشرات المجلدات المخطوطة. وهو شعر لم ير النور بعد. وتكرم علي ورثته ـ وكل ذلك من باب الثقة في ـ حيث سلموا لي كل ماخلفه من تراث أمانة عندي، وبعد مطالعتي، للدواوين المخطوطة، على عجل توقف نظري على ديوان عنوانه “ديوان أسرتي ” ودفعني فضولي لتصفح هذا الديوان فوجدته كله غاية في الجمال، وروعة في الأدب، وسمو في الأخلاق ووقع نظري في هذا الديوان على قصيدة من زهاء ثمانين بيتا بعنوان “زوجتي ” لماذا لاتشاركني، أيها القارئ العزيز، في قراءة بعض من أبياتها: ـ
شريكتي مسرتي ….. وفرحتي وترحتيومسكني وسكني ….. وموئل الذريةتصون مني نظرتي ….. حقا وسوء الخطرةمليكة لمنزلي ….. تديره بحكمةوصى عليها المصطفى ….. بأبلغ الوصيةأم البنين والبنات …… أصل تلك الدوحةأحبها من كل قلبي ….. من سويدا مهجتيوأسأل الله لها …… دوما دوام الصحةوأقتدي في ذلك ….. بمرشد البريةوخيركم خيركم ….. لأهله في السنةطوبى لمن أكرمها ….. مقدرا للعشرة وطول أيام اللقا ….. تزيد من محبتيوالطيب يزداد إذن ….. طيبا بطول المدةضربت في الحب المثال ….. واضحا “منيرتي”قمت بحق الأسرة ….. خير قـيام الـبرة
من صفات الفقيد. وهي صفات يجمع عليها أقاربه وأصدقاؤه ومحبوه بالأحساء وماحولها:ـ التواضع. عدم حب الشهرة أو تصنع المظاهر. ملاطفة زائريه. دماثة الأخلاق. اللباقة في الحديث. المرح حتى أن الإبتسامة لاتكاد تفارق شفتيه. حب الجدل المبني على الإقناع ومقارعة الحجة بالحجة. هواية صناعة الخير. إصداء النصح في الأمور الدينية لمن يعرف ولمن لايعرف. التأثر بالعمل الطيب، التذكير في المساجد والتوصية برعاية القربى وصلة الرحم، والبكاء عند تلاوة آيات من القرآن الكريم. إجتمعت في الفقيد كل هذه الصفات. ولهذه الصفات أصداء واسعة في شعره. ونشرت جريدة اليوم في عددها الصادر يوم الخميس الموافق الثاني والعشرين من شهر ذي الحجة من عام 1408 هـ رثاءا في الفقيد بقلم الشاعر/ حسن عبدالرحمن الحليبي مدرس اللغة العربية في معهد الأحساء العلمي التابع لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية تحت عنوان “رحمك الله يافقيد العلم والأدب ” وجاء في قصيدة الرثاء أن الفقيد كان يتسم بالصدق والصراحة وقول الحق حيث لاتأخذه في الله لومة لائم. كما كان الفقيد كثير الخشوع والبكاء حينما يسمع آية من القرآن، أو حديثا، أو كلمة وعظ، أو إرشاد، أو وعيد. ومما جاء في مرثية الأستاذ الحليبي مايلي:ـ
ركن من الأدب الرفيع تهدما ….. نجم مضيئ قد خبا وتحطمايا أيها القمر المنير فأنني ….. أجد الحياة اليوم بعدك علقمادفنوا رفاتك في التراب وغيبوا ….. تلك السماحة والنداوة باسمايامن زرعت الحب في أعماقنا ….. حتى أقمت بكل قلب مأتمايابلبلا ترك الخميلة ثاويا ….. هلا تعود إلى الخميلة بعدماياما صدحت على الرياض وزهرها ….. وملأت بالأمس الحقول ترنماواليوم تسكت لاترد بكلمة ….. مالي أراك اليوم تصمت دائما ؟اللـه يجزيـك الخلـود بجنة ….. فيهـا ترى المولى الكريم مكرمـا
كما نشرت جريدة اليوم في عددها الصادر يوم الثلاثاء الرابع من شهر محرم عام 1408 هـ رثاءا للإستاذ/ سعد عبدالرحمن البراهيم أمين الغرفة التجارية الصناعية بالأحساء في الفقيد حبر في قصيدة جاء فيها: ـ
أأندب القلب أم أستنهض القلما ….. وقد أقام الأسى في ذين واستلماأم أستحدث القوافي وهي واجمة ….. وكم أهاجت قريضا شيقا وفمامحمد غاب عن دنيا رماه بها ….. داء عضال وقاسى صابرا ألماوراح يطوي بأفياء الصبا بردا ….. “يا آل ملحم ” حيوا ساكن الرجماما مات إلا الذي ماتت فضائله ….. أما الفقيد فكم في ذا المجال سماورحـت عنـا ولـم تخرج لـنا كتبا ….. مـما نظمت عسى ماقلت قد عـلما
حبر الفقيد الكثير من القصائد: في الدعوة إلى الله، وفي تبيان فضل الإسلام ورجاله، وفي مدح الرسول صلى الله عليه وسلم وآله وصحبه، وفي حث الشباب على التمسك بالعقيدة الإسلامية والعمل بها، وفي ذكريات له مع أصدقائه ومحبيه، وفي التذكير بأمجاد الدولة السعودية وقادتها ورجالاتها، وفي مدح مسقط رأسه “الأحساء” حيث تغنى بجمال الطبيعة فيها، وبمفاتنها، ونخيلها، وعيونها، ورطبها، وفواكهها، وماضيها، وحاضرها. ولن أبالغ إذا قلت أن من سيفرغ من قراءة ماحبره من مدح “الأحساء” من شعر، فيما بعد، سينعته بـ ( شاعر الأحساء الكبير ( وللفقيد قصائد كثيرة في النقد الإجتماعي وفي السياسة والحب والغزل والفخر والرثاء.وحضر الفقيد مجالس الأدباء التقليدية بالأحساء يتبادل مع مرتاديها أحاديث السمر والشعر والأدب، ولقد تأثر بهذه المجالس فحبر بسببها وعنها الكثير من القصائد.وكان الفقيد يتعاطف بكل جوارحه وأحاسيسه ووجدانه مع الشعر العربي الموزون المقفى حيث كان لايرى له بدلا، كما كان ضد الشعر الحر، حيث يرى أنه مجرد عبث. ومما حبر في هذا الخصوص قصيدة مطولة أقتطف منها:ـ
أنا لا أمل الشعر إلا أن يكون الشعر نظماعقدا تناسق شكله وضعا وأوزانا وحجماتلك القوافي والموازين التي تعطيه طعما*******أنا لا أمل الشعر إلا أن يكون الشعر نظماوأحبه عبدا ولست أحبه ( حرا ) تسمىنعم القيود قيوده تعطيه تمييزا أهمافيظل يلتزم الطريق على المدى فنا وحكما ويظل للغة الجميلة موردا عذبا وجمايحمي حماها دائما ماحاول( الجهال ) هدماأنا لا أمل الشعر إلا أن يكون الشعر نظما*******فالشعر تلك حدوده وقيوده بدءا وختماوالنثر ذلك ماعداه لكل شيئ كان ( اسما ( فإذا تروم الشعر فاعرف نهجه واسلكه لزماإن كنـت قـد أوهـبته وهـبا وإلا دع عـنك وهما

وكانت أهم أمنية للفقيد في حياته هي الصلاة ـ داخل الكعبة المشرفة بمكة المكرمة والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجرة الشريفة ـ بالمسجد النبوي بالمدينة المنورة. وقد تحققت له هذه الأمنية قبل سنوات قليلة من وفاته. وسجل لهذه المناسبة قصيدة من مائتين وعشرين بيتا تحت عنوان ( الرحلة المقدسة ) ولماذا لاتقرا معي أيها القارئ العزيز الأربعة أبيات الأولى منها فقط: ـ
شوقي إلى تلك الربوع يطول …. أني بها أحظى وكيف وصولهبت على جدى نسيمات الرضى ….. فتتحقق المطلوب والمأموللبى فؤادي عندما نادى الهوى ….. سير حمولك أيها الموصولقـرب الوصال وحـان أبان اللقا ….. ممن تـحب وجـاءك التنـويل

عرفت الفقيد صديقا نصوحا، ومحدثا لبقا، ومجادلا كبيرا، وشاعرا مرهف الحس والوجدان. وكنت أحس، حينما أتحدث معه، براحة نفسية، وسعة بال، وانسجام وجداني، وكنت في السنين الأخيرة أصحبه معي ـ كلما زرت الأحساء ـ لحضور بعض المناسبات العائلية وغير العائلية. ولقد فقدت، بعد فراقه، الشيئ الكثير.وروى لي من أثق به أنه قد حضر للصلاة عليه ودفنه بمقبرة ( أم زرينيق ( بالهفوف بالأحساء، مساء ذلك الخميس، خلق عظيم. رحمك الله يا أبا عبدالله، وكما كنت محبا لك أثناء حياتك، فإنه من حقك علي، أن أواصل محبتي لك بعد وفاتك، وأرجو من الله أن يساعدني على احتضان تراثك الذي خلفته وراءك. وهو تراث سأتولاه، إن شاء الله، بما هو جدير به من عناية وذلك لكي يقرأه أقاربك وأصدقاؤك ومحبوك ومن لا يعرفونك.


الناشر: جريدة الجزيرة

– العدد: 5814

تاريخ النشر: 29/08/1988م

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.