وكان التعليم هاجسه – ناصر بن حمد المنقور
الناشر: جريدة الجزيرة – العدد:12766تاريخ النشر: 11/09/2007م
الرابط: http://archive.al-jazirah.com.sa/2007jaz/sep/11/fe9.htm
وكان التعليم هاجسه – ناصر بن حمد المنقور بقلم الدكتور : محمد بن عبد اللطيف آل ملحم
*****
انطلق الاخوة الثلاثة خارج مسقط رأسهم: اتجه (الأول) و (الثاني) إلى (مقاطعة الأحساء) للاستقرار بها، أما (الثالث) فقد انطلق إلى (منطقة الحجاز) ومن ثم إلى (المملكة المصرية) لمواصة تعليمه بهما، ومن ثم توجه إلى (منطقة نجد) لبدء نشاطه التعليمي.
وترك الاخوة الثلاثة في البلدان التي استقروا بها بالمملكة بصمات يعتد بها وبقيت أثراً يذكر لهم.
والإخوة الثلاثة بحكم السن: هم (عبدالمحسن)، وسعد، وناصر، أبناء حمد المنقور، وكانت ولادتهم في (حوطة سدير).
غادر (عبدالمحسن) (حوطة سدير) إلى الأحساء حيث استقر بها، وتلقى تعليمه الابتدائي في مدرستها الابتدائية، وتخرج فيها في عام 1362هـ، ومن ثم زاول التعليم بها حتى أصبح مديراً للمدرسة نفسها، وهي المدرسة التي (كانت أشبه بالجامعة)، (راجع كتابي كانت أشبه بالجامعة)، ومن ثم صار مديراً لمدرستها الثانوية في عام 1373هـ. وكان للأستاذ (عبدالمحسن) أيادي بيضاء في العملية التعليمية في (الأحساء) نوهت عنها بعد وفاته في 2- 3-1427هـ في مقالة تأبين بعنوان: (ورحل رمز من رموز مدرسة الأحساء الابتدائية التاريخية) نشرتها في جريدة (اليوم)، في العدد رقم 12044 وتاريخ 9-4-1427هـ.
ولقد اقتفى (سعد) أثر أخيه إذ (بعد أن غادر مسقط رأسه متنقلاً هنا وهناك في أنحاء المملكة) توجه (إلى الأحساء) في عام 1368هـ، واستقر بها ولم يبرحها لدرجة أنه أصبح، حقيقة، أحد أبنائها الأوفياء. مارس الأعمال الحرة في الأحساء، إلى الآن، حتى أصبح أحد رموزها. وللأخ الصديق (سعد) صداقات واسعة مع رجالات الأحساء بما فيهم الكثير من أبناء أسرتي وهو من وجهاء الأحساء المعتبرين. وكان ولا يزال كريم النفس طيب المعشر، محدثاً لبقاً لا تمل الاستماع إليه.
أما الأخ الأصغر (ناصر) وهنا بيت القصيد، فقد تلقى مبادئ التعليم في مسقط رأسه بما في ذلك قراءة القرآن الكريم على يد معلمين بها. وبعد أن شب عن الطوق توجه إلى (منطقة الحجاز) لمواصلة تعليمه الحديث هناك إذ كما هو معروف آنذاك كان التعليم الحديث في بدايات تأسيس الدولة السعودية الثالثة مقصورا على منطقة الحجاز، ومقاطعة الأحساء. أما منطقة نجد فلقد جاء التعليم الحديث فيها متأخراً لأسباب تاريخية معروفة.
عين ناصر بعد تخرجه من كلية آداب جامعة فؤاد الأول (بالمملكة المصرية) وعودته للمملكة في وزارة الخارجية لفترة قصيرة في وظيفة (ملحق) ومن ثم تقلد عدة مناصب رئيسة بوزارة المعارف بدأها معتمداً للتعليم في نجد في عام 1373هـ، وانتهى به المطاف بالوزارة نفسها ليكون مديراً عاماً للتعليم بها في عام 1376هـ، ومن ثم مديراً عاماً للوزارة في عام 1377هـ وذلك بالإضافة إلى تقلده إدارة جامعة الملك (سعود) في عام 1378هـ بمسمى (مدير الجامعة بالنيابة) بعد وفاة مديرها الأول الدكتور عبدالوهاب عزام. ومن ثم ترك أبو أحمد وزارة المعارف ليعين وزير دولة لرئاسة شؤون مجلس الوزراء في عام 1380هـ، وبعدها وزيراً للعمل والشؤون الاجتماعية.
وترك (أبو أحمد) الوطن ممارساً للعمل الدبلوماسي حيث كان سفيراً للمملكة في بلدان وممالك من أهمها (اليابان)، و (السويد)، و (المملكة المتحدة) و (أسبانيا) لمدة تزيد على ثلاثين عاماً.
يعتبر معالي الأستاذ ناصر، كما ذكر عنه محبوه ومعاصروه من الأعلام الذين لهم بصمات واضحة في مسيرة التعليم الحديث، ناهيك عن الدبلوماسية التي كان ابن بجدتها. ولم تكن لي علاقة رسمية حينما كان في المجال الدبلوماسي الذي خاض غماره في الفترة التي كنت فيها (وزيراً) ما عدى لقاءات مجاملة لا تتعدى المرتين أو الثلاث مرات خلال المدة التي قضاها في العمل الدبلوماسي.
ولكي أكون بعيداً عن عبارات المجاملات التي تقتضيها أحوال التأبين، ولكي أكون قريباً من أرض الواقع في شأن معرفتي بهذا الرجل الذي أكن له كل محبة وتقدير، وهي معرفة ذات فضل كان لها الأثر الكبير في شأن مسار حياتي التعليمية المبكرة، وهو فضل كذلك لا يداخلني الشك أنه قد أزجاه للعشرات إن لم يكن للمئات من الطلبة أمثالي الذين كانوا في رياض التربية والتعليم الناضرة آنذاك.
وكان أبو أحمد كما سأروي فيما يلي من سطور، متعاطفاً مع الأحساء، ناهيك عن معرفته لأحوالها، لدرجة أنني تصورت أنه كما لو كان مولوداً بها، ومن أبنائها البررة. والسبب معروف وهو استقرار أخويه الذين يكبراه سنا في أرض (هجر)، أرض الخير والعطاء، إذا كانا يزودان أخيهما بأخبار البلدة التي قررا، عن رغبة صادقة، الاستقرار بها منذ أن وطأت أقدامهما أرضها.. ولهذا سيكون تعاطف (أبو أحمد) مع الأحساء الذي نوهت عنه سلفا هو المظلة الأساس التي ستتخلل هذا التأبين بظلها ذي الوقفات المختصرة.
الوقفة الأولى:
اضطرتني ظروف نوهت عنها في كلمتي في اللقاء الخامس للرعيل الأول من خريجي مدرسة الأحساء الأولى المنشورة بجريدة (اليوم) (العدد رقم 12320 وتاريخ 19-2-1428هـ) أن أترك مسقط رأسي (الأحساء) لمواصلة دراستي. ومن هذه الظروف أنه لم يكن بالمدرسة الثانوية (الوحيدة) بالأحساء في عام 1376هـ (قسماً دبياً لعدم توفر النصاب، وكان النصاب أن يكون طلبة القسم بحد أدنى ثلاثة طلاب كما اشترط معتمد المعارف بالمنطقة الشرقية آنذاك أستاذنا (عبدالعزيز بن منصور التركي) يرحمه الله لكي يفتح القسم، فالتحقت بمدرسة الرياض الثانوية الوحيدة بمدينة الرياض وذلك لوجود قسم أدبي بها بحد أدنى ثلاثة طلاب كنت ثالثهم عند افتتاح القسم، والطالبان هما: (محمد المبيريك) و(سليمان الجاسر). وبدون فتح القسم كان الخيار للطالبين التوجه لمنطقة الحجاز لمواصلة تعليمهما بها. وكانت المدرسة تحتل غرفاً كانت في الدور الأول بالضفة الشرقية بشارع الوزير، وكانت تلك الغرف في حقيقة الأمر، بمثابة مخازن لمتاجر الشارع نفسه، وكانت الغرف تطل على (صيدلية تمر) في الضفة الغربية للشارع نفسه، وهي صيدلية كبيرة ربما كانت الوحيدة بالرياض آنذاك. وكان مدير المدرسة الذي قابلته طالباً الالتحاق بالمدرسة هو أبو عادل الأستاذ (أحمد الجبير) خريج دار التوحيد بمكة المكرمة. ولقد استقبلني (أبو عادل) أيما استقبال. وقصة مقابلته لي تحتاج إلى تأريخ وليس هنا محلها. وأتذكر أننا عند نزول الأمطار كنا نحن الطلبة أثناء الفسح نبقى في غرف الدراسة نفسها. وبعد التحاقي بالمدرسة أجرت لي وزارة المعارف ولغير من الطلبة مكافأة كانت تسمى آنذاك مكافأة (طالب مغترب) وكان مقدارها مائة وخمسون (150) ريالاً في الشهر. وكانت المفاجأة، إلى حد ما عند حدود الكفاف. وعلمت أن معالي الأستاذ (ناصر) الذي كان وقتها (مديراً عاماً للتعليم بالوزارة) هو الذي قرر إجرائها أو شارك في إجرائها.
ولقد زرته في مكتبه بالوزارة التي كانت تشغل أحد القصور المبنية بالطين لأشكره بعد تعريف نفسي له بأنني من الطلبة المغتربين القادمين من ثانوية الأحساء، وكان معه بالمكتب الفسيح على ما أتذكر الأخ الصديق (عبدالله العبدالعزيز النعيم) الذي كان في عنوان شبابه، وكان يشغل آنذاك وظيفة (المدير العام للتحريرات) بالوزارة، وكان يعرض على معاليه، عند دخولي للمكتب بعض الأوراق.
الوقفة الثانية: انتقلت (مدرسة الرياض الثانوية) الوحيدة من غرف أو مخازن شارع الوزير إلى بيت بحي (شلقة) مقابل لمقبرة الحي نفسه. ويقع الحي خلف شارع الوزير من جهته الغربية. وكان البيت مقر المدرسة الجديد مملوكاً (لابن جبر) والبيت مبني من الطين، وذو غرف متعددة، وبه فناء (أي حوي) واسع. وكانت تقام بوسطه حفلات نادي المدرسة الأسبوعية، وكان معالي الأستاذ ناصر قد حضر أحد هذه الحفلات، كما كان يحضرها الأستاذ المربي (عثمان بن ناصر الصالح) مدير معهد الأنجال يرحمه الله. وكان البيت أشبه ما يكون بالقصر وكنت رئيساً لمجلس طلبة المدرسة بالانتخاب بتاريخ 11-7- 1376هـ ولا أزال أحتفظ عندي إلى الآن بسجلات هذا المجلس وكذا لائحته التنفيذية الداخلية. وكان أعضاء المجلس الممثلون لفصولهم وقت رئاستي للمجلس الزملاء التالية أسماؤهم: (عبدالعزيز بن فهد الدوس، وعبدالله السليمان السعيد، وعبدالعزيز بن حسن العيار، وناصر الرجعان، ومقبل الخلف، وعبدالعزيز البديع، وصالح الزيد، وعبدالعزيز بن حماد، وإبراهيم الجربوع، ودخيل علي الدخيل، وسعود محمد غيث) وفي أحد اجتماعات المجلس كان على جدول أعماله قضية خلاف بين طالب وأحد المدرسين، وتطور الخلاف حيث انحاز بعض الطلبة إلى زميلهم. رأى المجلس أن يحلا الخلاف حلاً سلمياً، وشكل لجنة من خمسة طلاب من داخل المجلس وخارجه كان الغرض منها تهدئة الطلاب لكي يعودوا إلى مقاعد الدرس للدراسة. لم يحل الخلاف، وأضرب طلاب الفصل الذي كان مقيداً به الطالب الطرف في الخلاف. تناهت أخبار الإضراب إلى معالي الأستاذ (ناصر) الذي توجه في الحال إلى المدرسة. التقى بمدير المدرسة وبي باعتباري رئيساً لمجلس الطلبة. وبعد أن تعرف على المشكلة توجه، وكلانا معه، إلى الفصل حيث كان الطلبة به. وحينما دخل معالي الأستاذ ناصر الفصل حل وجوم على الطلبة عند رؤيته، وكان يرحمه الله متجشماً، كما كان في حيوية ونشاط متناهيين. ألقى على الطلبة كلمة كم أتمنى الآن لو كانت مسجلة آنذاك.
كلمة أب لأبنائه تحفها عاطفة جياشة، وتتخللها في الوقت نفسه قسوة وتحذيرات. وختم كلمته ببيت شعر حفظته آنذاك في الحال. ويقرأ البيت كالتالي:
وقسى ليزدجروا ومن يك راحماً
فليقسو أحياناً على من يرحمُ
هدت الأحوال بالمدرسة بعد مغادرة معاليه لها، وحقق ما كان الطلبة يطالبون به آنذاك، وكنت كلما أتذكر أو أردد، هذا البيت، أو أسمعه من آخر أتذكر مناسبة حفظي له، والذكريات صدى السنين الحاكي.
الوقفة الثالثة: تخرجت في (مدرسة الرياض الثانوية) في عام 1377هـ وتسلمت شهادة التخرج في 25 محرم 1378هـ وكان ترتيبي الثاني – شعبة الآداب، على مستوى المملكة، وكان عدد الطلاب الناجحين خمسة وتسعون (95) طالباً. (راجع الوثيقة المنشورة في هذا التأبين). وبعد تخرجي من الثانوية كتبت في استمارة الالتحاق بالجامعة رغبتي في دراسة الحقوق في كلية حقوق جامعة القاهرة. وقبل تخرجي من المدرسة الثانوية بشهور تأسست جامعة الملك سعود بموجب المرسوم الملكي رقم 17 بتاريخ 21 ربيع الثاني 1377هـ، كما صدر مرسومان آخران بإنشاء كلية (للآداب) وأخرى (للعلوم) وكان قراري وقتها إما دراسة (الحقوق)، فإن لم أمكن، فالالتحاق بإحدى الوظائف العامة التي كانت متاحة بكثرة آنذاك. وبالمناسبة كنت وقتها إلى جانب كوني طالباً بمدرسة الرياض الثانوية، موظفاً (ببلدية الرياض) أشغل وظيفة وقت العصر بمرتب قدره أربعمائة (400) ريال بقسم المحاسبة وهو قسم كان يرأسه رجل فاضل أمين هو (سالم الخريجي) يرحمه الله، وكان معي زميلا آخر يعمل معي بالبلدية عصراً. وكانت مهام الوظيفة بالبلدية متعددة وكنت أتنقل بين أقسام البلدية, ولقد استفدت كثيراً من العمل بها. كان الدوام بالبلدية على فترتين: فترة صباحية حتى صلاة الظهر، وفترة مسائية تبدأ من صلاة العصر إلى وقت الغروب. وقبل تخرجي في المدرسة كنت أداوم عصراً فقط. وبعد تخرجي واصلت مزاولة عملي (ببلدية الرياض) في فترتي الدوام صباحا وعصراً. وكنت وقتها أتجسس الأخبار عن أية معلومة عن شأن الابتعاث للخارج. لقد كنت وكما يقول المثل على أحر من الجمر عن شأن مستقبلي علمت فيما بعد أن (وزارة المعارف) قد شكلت لجنة بالوزارة، وكان الغرض من هذه اللجنة مقابلة خريجي الثانوية من شتى أنحاء المملكة الذين يرغبون الدراسة بخارج المملكة. لم أسر بالخبر وساورني الشك حول تحقيق رغبتي للخارج حيث لا حول لي ولا قوة، وليس لدي من الإمكانيات المادية الذاتية ما يعينني على مواصلة الدراسة (بمصر) محققاً رغبتي رغم تفوقي الدراسي. تركت الأمور تجري في أعنتها ما دمت لا أزال موظفاً ببلدية الرياض، إذ ربما أبقى بها موظفاً إذا لم ابتعث، واستسلمت لقضاء الله وقدره. وبعد أن تحددت مواعيد المقابلات لدى اللجنة التي كان مقرها الوزارة ذهبت لإجراء المقابلة. وكان أعضاء اللجنة (علمت عن ذلك فيما بعد) ثلاثة هم: معالي الأستاذ عبدالوهاب عبدالواسع، الذي كان وقتها مديراً للشؤون المالية بالوزارة، والأستاذ عبدالله بن ناصر الوهيبي الذي كان مديراً للتعليم وقتها بالوزارة، والدكتور أحمد علي الذي لا أتذكر المسؤولية الوظيفية المناطة به بالوزارة آنذاك. وكان مقر اللجنة بالدور الثاني بمبنى الوزارة بالقرب من مكتب مدير عام الوزارة. دخلت على (اللجنة) دون معرفة سابقة بأي من أعضائها، وأجريت المقابلة لي دون أن أتذكر الآن محتوى الأسئلة التي طرحت علي أثناءها، ومن ثم خرجت وأنا مشدود الذهن، وفي حيرة من أمري، لأن اللجنة، بعد مقابلتي، طلبت مني أن أنصرف دون أن أعرف ماذا قررت؟ وفي ردهة مبنى الوزارة بالدور الثاني، وهو ممر ضيق منحني يطل على فناء الوزارة الفسيح من جهة الشرق قابلت أو قابلني بمحض الصدفة معالي الأستاذ ناصر الذي أخبرني في الحال، وبدون مقدمات أنه سبق أن أتخذ قرار بالوزارة بابتعاثي إلى (الجمهورية العربية المتحدة) لدراسة الحقوق. أدخل هذا الخبر السرور علي، وأعاد الطمأنينة إلى نفسي وحمدت الله سبحانه وتعالى على ذلك. ولا أتذكر الآن أين توجهت وقتها، أو ماذا بعد سماع الخبر السار؟ وكل ما أتذكره أنني تقدمت بطلب استقالتي من (بلدية الرياض) لمديرها العام صاحب السمو الأمير عبدالله بن فهد الفيصل الفرحان آل سعود. سلمت لسموه بمكتبه طلب الاستقالة ولما علم بحالي قال لي سموه بالحرف الواحد: أنه يستغرب جداً أن يكون موظف عنده بالبلدية حاصلاً على الشهادة الثانوية! وقد أكد له ذلك موظف بمكتبه طويل القامة من أسرة (المشعل) لا أتذكر الاسم الكامل لهذا الموظف الآن. قال (المشعل) لسموه: إنه سمع عن خبر تخرجي مع آخرين في إذاعة مكة المكرمة ليلة أمس. وافق سموه على قبول استقالتي. ومنحني مرتب شهرين كمكفأة لي. وكان قراره بمنح المكافأة لمسة تقدير كان لها الأثر العميق في نفسي! وقد سلم لي خطاباً رغب مني تسليمه لأخيه (محمد) الذي كان بمصر، ولقد سلمته لسموه في مقر سكنه بالقاهرة برفقة معالي الدكتور (حمود بن عبدالعزيز البدر) وسمو الأمير المهندس (محمد) هو الآن بدرجة فريق وكان يرأس (المؤسسة العامة للصناعات الحربية) بالخرج حتى عهد قريب.
الوقفة الرابعة: كان معالي الأستاذ ناصر باعتباره مديراً عاماً لوزارة المعارف، ومن ثم مديراً لجامعة الملك سعود بالنيابة، يتردد على القاهرة لقضاء شؤون تتعلق بعمله وكان منها التعاقد مع أساتذة للجامعة، وأتذكر أنه كان عند زيارته لمصر، يتابع أوضاع مكتب الملحقية الثقافية التي كان يديرها الأستاذ المربي (أحمد بن محمد المانع)، كما كان يسهل أية عقبة تواجه الملحقية، ولكنه كان صارماً في شأن معين وهو عدم سماحة لأي طالب بأن يغير تخصصه الذي بعث أساساً من أجله، أو أن ينتقل من كلية إلى كلية أخرى. أقول هذا الكلام لأنني أعرف حالة رفض فيها مثل هذه الطلبات. وحل ذات مرة فضيلة الشيخ الجليل المحب لي محمد بن إبراهيم بن عبداللطيف المبارك (فقيه المذهب المالكي في الأحساء) في وقته والذي كنت على معرفة تامة به منذ الصغر، ضيفاً علي وعلى زميل السكن (حمود بن عبدالعزيز البدر) الطالب بقسم صحافة آداب جامعة القاهرة، وكنا نسكن بشقة بشارع الخطيب بالدقي، كان فضيلة الشيخ (محمد) ذا أخلاق دمثة متواضعاً، وقد قدم للقاهرة مرافقاً لابنه (عبداللطيف) في رحلة علاج بحلوان بجنوب القاهرة. طلب مني فضيلته في أحد الأيام لما علم عن وجود معالي الأستاذ ناصر بالقاهرة أن أرافقه لزيارته، وكان معاليه يسكن في (فيلا) بحي الدقي قريبة من ملحقية البعثات بحي الأورمان بالدقي. رافقت فضيلته إلى مقر معالي الأستاذ (ناصر) الذي احتفى بالشيخ محمد المبارك حفاوة بالغة، ورحب به أيما ترحيب. وكان الحديث الذي جرى بينهما ذا طابع ديني وإن كانت أحوال الأحساء وأهلها قد استحوذت على جزء كبير من الحديث، وكنت وقتها مستمعاً ملتزماً جانب الصمت، ولم أتفوه ببنت شفه حتى غادر فضيلته المقر وهو يثني ثناءً من قلبه عن اللطف وحسن اللقاء الذي حظي بهما من معاليه.
ولم ألتق بمعالي الأستاذ ناصر بعد تخرجي في (كلية الحقوق) في عام 1382هـ والتحاقي بكلية التجارة بجامعة الملك سعود في وظيفة (معيد).
الوقفة الخامسة:
وبعد أن التحقت بكلية التجارة لم ألتق بمعالي الشيخ (ناصر) إلا ثلاث مرات وذلك بعدما ترك العمل التربوي، ودخل في مهامه الحياة الدبلوماسية. كانت المرة الأولى في (جنيف) بسويسرا حينما كان جلالة الملك خالد بن عبدالعزيز -يرحمه الله- هناك في فترة استجمام. وكان اللقاء في فندق برسدانس Presidence كانت مناسبة اللقاء توجهي مساءً إلى الفندق لزيارة أستاذنا (عبدالعزيز بن منصور التركي) الملحق الثقافي بلندن القاطن بالفندق آنذاك. ومن باب الصدفة كان الأستاذ التركي بمعية معالي الأستاذ ناصر الذي استقبلني بحفاوة وترحاب بالغين كما هي عادته. تحدثت مع (أبو أحمد) في أمور عامة لها علاقة بأحداث الساعة آنذاك. وكان من ضمن الحديث أحوال (الأحساء) وأخبارها. كان يرحمه الله في حديثه على علم بأحوال الأحساء آنذاك ربما أكثر مني، وكرر لي أن (الأحساء) تحتاج إلى لفتة حانية من الحكومة. أقول هذا للحقيقة والتاريخ. ثمنت لمعاليه اهتماماته وحسه الوطني (ذو) الشفافية. وكانت المرة الثانية لقاءً عابراً به بالديوان الملكي بالرياض لم يتعد تبادل التحيات. وكانت (المرة الثالثة) لقاء بقصر أو فندق الكندرة بجدة حيث أخبرني أنه كلف من قبل سمو الأمير سعود الفيصل وزير الخارجية للقيام بمهمام وزير الدولة للشؤون الخارجية. لم يبق طويلاً بهذا المنصب حيث عاد إلى مقر عمله (بالمملكة المتحدة).
بين معالي الأستاذ ناصر وبين الأستاذ عبدالعزيز بن منصور التركي صداقة عميقة إن لم تكن حميمة وكان من ثمرات هذه الصداقة تطوير التعليم بمقاطعة الأحساء حينما كان التركي معتمداً للمعارف بمقاطعة الأحساء ومن ثم مديراً للتعليم بالمنطقة الشرقية وحتى انتقاله ملحقاً ثقافياً بلندن. كان الأستاذ التركي يتصيد الفرص لأخذ موافقة معالي الشيخ ناصر في كل ما تلبية احتياجات مدارس الأحساء وقرها لدرجة أن الشيخ (التركي) حينما يعلم على سبيل المثال عن توقف معالي الأستاذ ناصر بمطار الظهران للسفر لخارج المملكة كان الأستاذ التركي يتوجه للمطار بمعاملاته لأخذ موافقة معاليه عليها إذا كانت من اختصاصاته كمدير عام للوزارة وذلك رغبة من الأستاذ التركي في تخطي الروتين الحكومي واختصار الوقت.
وبالغرم مما ذكرته عن تعاطف معالي الأستاذ ناصر مع الأحساء ومحبته لأهلها إلا أنه لم يكن منحازا لها وحدها. وأنا متأكد أنه كان يعامل مناطق المملكة وقراها في مجال التعليم على حد سواء. وشواهد الحال تثبت أن كل من أثنى عليه، بعد رحيله يؤكد تفانيه وبأمانة في هذا المجال.
وقبل أن أختم أود أن اقتطف فقرات من رثاء صديق حميم (لأبي أحمد) وعمل هذا الصديق تحت قيادة (أبو أحمد) في جامعة الملك سعود، كما أنه قد خلفه في إدارة دفة الجامعة بمسمى وكيل الجامعة، ولعله أبلغ من غيره، حسب علمي، في تشخيص شخصية الفقيد هذا الصديق هو معالي الأستاذ الدكتور عبدالعزيز بن عبدالله الخويطر الذي عاصر الفقيد، وربما يكون الوحيد الذي يعرف الكثير عن توجهات (أبو أحمد) في حقل التربية والتعليم: يقول (أبو محمد) عن رئيسه (أبو أحمد): جاء نبأ وفاة معالي الأستاذ ناصر مؤلماً لأصدقائه وأحبائه ولعارفيه، لما يعرفونه عنه من خلق كريم تميز به فكان نموذجاً فيما يأتي وما يدع، عرف عنه اهتمامه الجاد بما يوكل إليه من عمل، مع لباقة متناهية، وحسن تصرف، ومع مقدرة متناهية في التغلب على المشاكل، وإرجاء الأمور إلى ما يريح ويفرح. كان – رحمه الله- إدارياً بارزاً ومنظماً متفوقاً لا يتولى عملاً إلا وترك بصماته الدائمة على أسس السير الإداري فيه، كل ذلك بإتقان وإبداع. كان مريحاً لمن يعمل معه لحسن تعامله مع من يعمل معه، ومن يراجعه، ومن يستشيره، ومن يستنجده. لديه ذكاء فطري صقله بالتجارب والحنكة النادرة، عرف عنه بالصبر، وشدة التحمل وسعة البال، لا يكاد أحد يذكر وجهه إلا مبتسماً، ويده إلا ممدودة بالخير). انتهى.
توفى الله (أبو أحمد) في 10-7-1428هـ ودفن بلندن تنفيذاً لوصيته كما أخبرني بذلك أخاه سعد وذلك حينما زرته معزياً في منزله الكائن في محافظة الأحساء – الهفوف – المثلث الذي كان يتقبل فيه العزاء.
رحم الله معالي الشيخ ناصر، وأسكنه فسيح جناته، وألهم ابنيه أحمد وهاني وابنته نورة وأخيه سعد وآل منقور بما فيهم الأخ الصديق المربي المحب عبدالعزيز بن محمد العبدالكريم المنقور الصبر والسلوان. {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}
(*)وزير الدولة وعضو مجلس الوزراء السابق