من أوراقي المبعثرة :الثابت والمتغير في الشعر (3)

ولأن الشعر العربي الموزون فهو الشعر الذي ما زال ولا يزال حيا في ضميرهم ووجدانهم ومشاعرهم، وله تأثيره ورنينه في أسماعهم وقلوبهم. وعلى سبيل المثال، لولا شعر ابن مقرب لظلت صفحة مشرقة من تاريخ الأحساء بصفة خاصة وتاريخ الجزء الشرقي من بلاد العرب بصفة عامة ي ذمة الاريخ. ويقول الأستاذ الأديب عمران محمد العمران في دراسة قيمة له عن الشاعر ابن مقرب: لديوان ابن مقرب أهمية أخرى لا تقل عن أهميته الشعرية. فالقارئ لهذا الديوان يخرج منه بفكرة شاملة للحياة السياسية بالبحرين في زمنه، كما أنه يمكن للباحث في شعر هذا الشاعر أن يتلمس من خلاله بعض صور الحياة العامة المعاصرة له. إن شعر ابن مقرب يكاد يكون وحده – بالنسبة لتاريخ الدولة العيونية خاصة وتاريخ الجزء الشرقي من بلاد العرب عامة – هو أحد المصادر المباشرة التي تمدنا بوصف كامل للصراع على السلطة والحكم في تلك الحقبة من الزمن مما نجزم معه أ،ه لولا شعر ابن مقرب لضاع ذلك التاريخ أو معظمه.(1)وفي نفس المعنى يقول الدكتور علي بن عبدالعزيز الخضيري عن ابن مقرب ما يلي: إن الحركة الأدبية في نجد وشرق الجزيرة العربية كادت أن تكون نسيا منسيا طوال الف عام على وجه الريب لولا ظهور شاعر ينتمي الى الأسرة العيونية، وهو علي بن المقرب العيوني (572هـ – 630هـ) الذي كان له الفضل ي تدوين تاريخها، وتسجيل أحداثها في شعره الغزير الذي يعد مرجعا هاما في التاريخ السياسي لهذه البلاد ، وبعطي صورة واضحة مميزة عن الشعر العربي في قلب الجزيرة العربية آنذاك.(2) والأدباء الرواد العرب في عصورنا الحديثة عاشوا على موائد زهير بن أبي سلمى، والنابغة الذبياني، وحسان بن ثابت، والبحتري، والمتنبي، وبشار بن برد، وأبونواس، وابن الرومي، وأبو تمام، والفرزدق، وشوقي، ومعروف الرصافي، وحافظ ابراهيم، وعمر أبوريشة، وغيرهم.وكلنا لانردد في مجالسنا ومحافلنا وأنديتنا الا أشعار هؤلاء العمالقة، ومن سار على نهجهم من الشعراء المعاصرين. الثابت في الشعر العربي هو ثابت منذ عهد الخليل وقبله. والمتغير في الشعر العربي له شواهد تدل على أصالة هذا الشعر وحيويته وشفاية جرسه ورقة موسيقاه وعمق تأثيره، ومن هذه الشواهد كل ما طرأ على هذا الشعر من تحولات في مذاهبه وفنونه عبر العصور التي مرت عليه والتي تزيد على ستة عشر قرنا.والثابت والمتغير في التجربة الشعرية معروف بداهة لدى المشاركين في مسيرة التجربة وهم محبروا الشعر ونقاده ومتذوقوه وذلك منذ أن تبلورت معالم هذا الشعر في العصور الأخيرة من العهد الجاهلي، بل وحتى قبل أن تعرف ثوابت هذا الشعر على نحو منهجي ذي أصول وقواعد معلومة.(3) وكان من نماذج هذا الشعر المعبرة عن معالم تطوره في العهد الجاهلي مثلا قول لبيد بن ربيعة:-
ألا كل شيء ما خلا الله باطلا ….. وكل نعيم لا محالة زائلوكل أناس سوف تدخل تدخل بينهم ….. دويهية تصفر منها الأناملوكل امريء يوما سيعلم غيبه ….. إذا حصلت عند الإله الحصائل
وقول صلاءة بن عمر (الأفوه الأودي):-
لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ….. ولا سراة إذا جهلهم سادواتهدي الأمور بأهل الرأي ما صلحت ….. فإن تولت فبالأشرار تنقادواإذا تولى سراة الناس أمرهم …… نما على ذلك أمر الناس فازدادوا
وقول زهير بن أبي سلم:-
رأيت المنايا خبط عشواء من تصب ….. تمته ومن تخطيء يعمر فيهرمومن لم يصانع في أمور كثيرة ….. يضرس بأنياب ويوطأ بمنسمومن يجعل المعروف من دون عرضه ….. يفره، ومن لا يتق الشتم يشتمومن يك ذا فضل فيبخل بفضله …… على قومه يستغن عنه ويذممومن هاب أسباب المنايا ينلنه ….. ولو نال أسباب السماء بسلمومن يجعل المعروف في غير أهله ….. يعد حمده ذما عليه ويندمومهما تكن عند أمريء من خليقة ….. وإن خالها تخفى على الناس تعلم
وقول طرفة بن العبد البكري:-
فما لي أراني وابن عمي مالكا ….. متى أدن منه ينأ عني ويبعدوظلم ذوي القربى أشد مضاضة ….. على النفس من وقع الحسام المهندستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا ….. ويأتيك بالأخبار من لم تزود
وقول المثقب العبدي:-
فأما أن تكون أخي بصدق ….. فأعرف منك غثي من سمينيوالإ فاطرحني واتخذني ….. عدوا أتقيك وتتقيني
وقول لبيد بن ربيعة يرثي أخاه :
بلينا وما تبلى النجوم الطوالع …… وتبقى الديار بعدنا والمصانعفلا جزع إن فرق الدهر بيننا ….. فكل امرئ يوما به الدهر فاجعوما الناس الا كالديار وأهلها …… بها يوم خلوها وراحوا بلاقعوما المرأ إلا كالشهاب وضوئه …… يحور رمادا بعد إذ هو ساطعوما المال والأهلون إلا ودائع …… ولا بد يوما أن ترد الودائعوما الناس إلا عاملان فعامل …… يتبر ما يبني وآخر رافعفمنهم سعيد آخذ بنصيبه …… ومنهم شقي بالمعيشة قانعلعمرك ما تجري الضوارب بالحصى …… ولا زاجرات الطير ما الله صانع
وقول عمرو بن كلثوم:
أبا هند فلا تعجل علينا ….. وأنظرنا نخبرك اليقينابأنا نورد الرايات بيضا ….. ونصدرهن حمرا قد رويناورثنا المجد عن عليا معد ….. نطاعن دونه حتى يبيناكان سيوفنا منا ومنهم …… مخاريق بأيدي لاعبيناألا لا يجهلن أحد علينا …… فنجهل فوق جهل الجاهلينابأي مشيئة عمر بن هند …… تطيع بنا الوشاة وتزدريناوقد علم القبائل من معد …… إذا قبب بأبطحها بنينابأنا المطعمون إذا قدرنا …… وأنا المهلكون إذا ابتليناونشرب إن وردنا الماء صفوا …… ويشرب غيرنا كدرا وطينالنا الدنيا ومن أمسى عليها …… ونبطش حين نبطش قادريناملأنا البر حتى ضاق عنا …… وماء البحر نملأه سفيناإذا بلغ الرضيع لنا فطاما ….. تخر له الجبابر ساجدينا

هذه النماذج وغيرها كثير، ويقول عنا الدكتور/ طه حسين في “حديث الأربعاء” : نحن نحب لأدبنا القديم أن يظل قواما للثقافة وغذاء للعقول لأنه أساس الثقافة العربية فهو إذن مقوم لشخيتنا، محقق لقوميتنا، عاسم لنا من الفناء في الأجنبي، معين لنا على أن نفرف أنفسنا”.(4)
يتبــع
———هوامش:———(1) راجع عمران بن محمد العمران، ابن مقرب: حياته وشعره، ص/153، مطابع الرياض، 1388هـ الموافق 1968م.(2) راجع دكتور علي بن عبدالعزيز الخضيري، علي بن مقرب العيوني، حياته وشعره، رسالة دكتوراه، ص/4، ط/1، مؤسسة الرسالة، بيروت، لبنان 1401هـ الموافق 1981هـ.(3) وضع الخيل بن أحمد الفراهيدي ثوابت الشعر على نحو منهجي ذي أصول وقواعد في القرن الثاني من الهجرة. راجع في هذا الخصوص السيد/احمد الهاشمي: ميزان الذهب في صناعة شعر العرب، ص/3، دار الكتب العالمية/بيروت، لبنان، 1399هـ الموافق 1979م.(4) الدكتور طه حسين، حديث الأربعاء، الجزء الأول، ص/13، دار المعارف بمصر، 17 يناير 1925م.


الناشر: جريدة اليوم

– العدد:6997

تاريخ النشر: 11/08/1992م

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.