ولابن الوردي إلى جانب ديوانه، نثر ونظم وأراجيز في مختلف الفنون والعلوم كالنحو والفقه وخواص الأحجار وبحور الشعر. ويعكس نظمه ونثره صورة الحياة الأدبية في عصره. كما يعكس في الوقت نفسه ملف هذه الحياة الأدبية من ناحية الموضوعات التي تناولها أدباء وعلماء عصره. ومن ناحية إشارته في نثره وشعره إلى رموز الأدب والثقافة في عصره وفي عصور ما قبله. ومن يتأمل شعر ونثر ابن الوردي سواء في مجال المقامات أو في الرسائل الإخوانية أو رسائل الإجازات أو رسائل التهاني والتعازي والمديح والتقريض أو قصائد الغزل يجد أن معظم أعماله تتميز بالخصائص التالية:1- تسجيل أو توثيق أحداث عصره من الناحية الإجتماعية والأدبية سواء من ناحية موضوعاتها أو من ناحية أبطالها. وفي هذا الخصوص اعتاد ابن الوردي أن يشير في نثره ونظمه إلى رموز الحركة الأدبية والدينية المعاصرين له وإلى مؤلفاتهم. وكذلك إلى من سبقوه وإلى مؤلفاتهم وذلك في مجال الشعر والفقه والنحو واللغة.2- ضمن نثره وشعره آيات من القرآن الكريم وعلوم أخرى على رأسها الفقه والنحو والعروض والتاريخ. وكان أسلوبه في هذا الخصوص يقتصر على استخدام مصطلحات هذه العلوم في تصنيع وتكلف ظاهرين للعيان. وغرضه من هذا الإستخدام إبراز مدى هيمنته وتمكنه من هذه العلوم، ومثل هذا الإستخدام ظاهرة عامة في عصره.3- استعمال الأساليب البلاغية والمحسنات اللفظية ذات الطبيعة الإصطناعية وبما تمثله من ركاكة في التعبير أحيانا ومن غموض في التعبير أحيانا أخرى.4- استخدام السجع بكثرة لدرجة أصبحت فيها مظاهر التكلف والتعسف ظاهرة للعيان.5- أظهر ابن الوردي مدى إعجابه بشعراء عمالقة سابقين عليه مثل المتنبي والمعري وأبوتمام والنابغة الذبياني. وتجلى هذا الإعجاب في الإقتباس من شعرهم في نثره وشعره.ولوضع هذه الخصائص في إطارها الصحيح لابد من ذكر نماذج لها من نثر وشعر هذا العالم.اعتاد ابن الوردي منح إجازات (أي شهادات) علمية لمن يتعلم على يديه، أو لمن يقرأ على يديه أحد مؤلفاته، أو مؤلفات أحد العلماء في عصره أو قبل عصره. ومن نماذج هذه الإجازات “الإجازة” المذكور نصها أدناه، وهي “الإجازة” الممنوحة لأحد طلبته الممدعو “تقي الدين أبو بكر” الذي قرأ على يديه الكتاب الموسوم بـ “البهجة الوردية في نظم الحاوي” في فقه الشافعية. ومن خصائص هذه الإجازة التي حررها ابن الوردي ما يلي:-استخدام اسلوب السجع بها، وادخال عبارات بها لا معنى لها ولا لزوم وتضمينها مصطلحات فقهية مصطنعة وكذلك أسماء كتب فقهية مع الإشارة إلى حديث نبوي.ومن المصطلحات الفقهية التي ذكرها: كتاب الطهارة، باب المياه، إحياء الموات، باب الرد بالعيب، زكاة المعدن والنبات، خيار المجلس، الإستسقاء، المفلس، الوصايا، فرائض العبادات، الجرح في الشهادات، الصلاة، الجنيات، العتق، العفو من القصاص. ومن كتب الفقه: كتاب البهجة الوردية في نظم كتاب الحاوي، والحاوي هو كتاب الحاوي الصغير في الفقه الشافعي من تأليف نجم الدين عبدالغفار بن عبدالكريم القزويني المتوفي عام 665 هـ. وكتاب الأم للشافعي. أما الحديث الذي أشار إليه ابن الوردي في هذه الإجازة فهو ما ورد في مسند الإمام أحمد بن حنبل قال: حدثنا حسين الأشقر، حدثنا أبو كدية عن عطاء عن أبي الضحى عن ابن عباس قال: أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم وليس في العسكر ماء، فأتاه رجل فقال: يارسول الله ليس في العسكر ماء، قال: هل عندك شيء؟ قال: نعم: قال:فأتني به، قال: فأتاه بناء فيه شيء من ماء قليل، قال: فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابعه في فم الإناء، وفتح أصابعيه، قال: فانفجرت من بين أصابعه عيون وأمر بلالا فقال: ناد في الناس: الوضوء المبارك.ويقرأ نص هذه الإجازة كما يلي:أما بعد حمد الله الذي زاد أهل العلم شرفا ورقيا، وجعلهم خلف السلف فحبذا سلفا وخلفا تقيا، والصلاة على نبيه محمد الذي جعل في حربه وسلمه الموت والحياة، وسجل لعترته المنيفة “كتاب الطهارة” و”أنبع من أصابعه الشريفة” “باب المياه” وعلى آله الذين فتح لهم باب الولاء “لإحياء الموات” وأغلق عنهم باب الرد بالعيب لما زكا معدنهم وطاب نباتهم فهذه زكاة المعدن والنبات وهي صحبة المعدودين من خيار المجلس المقصودين للإستسقاء وصرف القبض عن المفلس وعلى تابعيهم الذين عقلوا الوصايا وأدوا فرائض العبادات وحسنت منهم السير فنزه تعديلهم عن الجرح في الشهادات صلاة تعقب الجنايات بالمسابقة إلى جنة وحرير وتوجب القضاء بالعتق والعفو من القصاص وحسن التدبير فقد قرأ على المولى تقي الدين أبو بكر أمده الله بالرفعة والرقي ونفع به الناس فما أحوجهم إلى التقي من كتابي البهجة مواضع متفرقة، بتدبير حسن وعبارة مطلقة وتفهم للدقائق ووقوف على الأسرار والحقائق وبحث عن غوامض ومهمات وتنبه لفوائد وتتمات آذن ذلك منه بذهن وقاد وفكر صحيح منقاد زاد به البهجة بهجة وكم أبدى من بنت فكر تعتضد من الأم بإملاء الحجة منها والله تعالى يضاعف علو قدره ويجمل نظراءه ببقائه فقد سبقهم أبو بكر بشيء وقر في صدره.ولابن الوردي جواب على رسالة وصلته من صديق وفيها يمدح صقرين من الصقور. سمى ابن الوردي نفسه في هذه الرسالة بـ “المملوك” كما هي عادته في معظم رسائله. وضمن هذه الرسالة أبياتا من القرآن الكريم هي:- قال تعالى “إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب”- وقال تعالى “وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه”كما استخدم بنفس الرسالة مصطلحات نحوية بتكلف ظاهر. والغرض من ذلك إظهار تمكنه من علم النحو ومن هذه المصطلحات: المنصوب والرفع والخفض والكسر كما أشار إلى تشبيهات ابن المعتز الذي تولى الخلافة ليوم واحد وهو أديب وشاعر ويقرأ نص الرسالة (المملوءة بالتشبيهات والتورية والكنايات ) كما يلي:”وينهي وصول الصقرين، فسر العبد بهذين الحرين اللذين تحن الجوارح إليهما من وجهين ويعز على “ابن المعتز” أن يذكر لهما في تشبيهاته شبيهين. فوقع الصقرات من المملوك بموقع يفوق النسر. وتأمل نحوهما فإذا هما “منصوبات” لبناء ما ارتفع وانخفض من الصيدد على الكسر مقلهما حمر كسيوفه. وأجنحتهما مسبلة كغمائم بره على رعاياه وضيوفه. ومخالبهما كالمناجل لحصاد أعمار أعدائه وأعمار الطير. ومناقيرهما كالأهلة المبشرة له ولأوليائه بكل خير. فلسان حال كل منهما يقول لمرسليه تفرقوا فكسبي أجمعكم أجمعكم، ويخطف لهم الخطفة، ويعود بسرعة فبينما يتطيرون بغيبته “وقالوا طائركم معكم”. فما أحسن ما يرجع كل واحد منهما من افقه، وقد التزم طائره في عنقه كم ذللا من الطير من حرون، وكم أهلكا في الوحش من قرون فما أحق هذا الجبر بمقابلة الثناء عليه وأن يمد المملوك لهاتين اليدين كلتا يديه ومن كرامات مولانا أن أصبح جابر الكاسرين فمرحبا برسوله الذي إن قدم رسول بأيمن طائر فقد قدم هو بأيمن الطائرين، والسلام.”ولابن الوردي في رسالة شعرية ونثرية عرف فيها نفسه بـ المملوك كعادته وبنثر الرسالة سجع وبه ازدواج ووجه ابن الوردي الرسالة إلى قاض القضاة بحلب، وضمنها أبياتا من شعر المتنبي والنابغة الذبياني وامريء القيس ومصطلحات عروضية مثل البسيط ونحوية مثل المعرب والمبني وعلم والتنكير والتعريف وكتب فقهية في مذهب الإمام الشافعي ككتاب الشامل في فروع الشافعية للصباغ المتوي عام 477 هـ، وكتب أدبية وتاريخية ونحوية ككتاب نهاية الإرب في فنون الأدب” للنويري، وكتاب البيان والتبيين للجاحظ وكتاب المقرب في النحو للمبرد وآيات قرآنية.ومن أبيات الرسالة الشعرية والنثرية:
سلام كنشر الروض باكرة الحيا …. وألطف من مر النسيم وأطيبعلى أريحي مذ سمعت بذكره ….. أغالب فيه الشوق والشوق أغلبعظيم الندى كهف الردى غائظ العدى ….. إمام الهدى نائي المدى متقرببسيط الندى حاوي النهاية شامل ….. بإيضاحه معنى البيان مقربوإن له في تركه الحكم راحة ….. ولكن قلوب الناس والله تتعبفمن ذا سواه في الورى لا تمله ….. على شعث أي الرجال المهذب
ومن نثر الرسالة الشعرية النثرية:وينهي وصول ابن الأخ مغمورا بإحسانه المعهود ومبرورا من لطفه وعطفه بـ “شاهد ومشهود” مصقورا بثنائه “المعرب” على مبني ظله المحدود مسرورا بتعريف رسمه الذي علمه كما قيل غير محدود … ثم إنه بلغ المملوك التحية التي عجز المملوك عن رد أحسن منها أو مثلها وفهمه لطائف وألطافا كان المملوك متيما من قبلها فواعجبا لأمه كيف ما حملته فـ انتبذت به من أهلها مكانا شرقيا … فلقد ذكر المملوك مفصل جمل من إحسانكم صدق فيها وزكى، وأنشد هو وأمه بلسان السرور قفا نضحك والمملوك ينشد من خجله قفا نبك فلا والله ما في زماننا من يجاريكم ولا في بحار الندى من يباريكم ويا خجل المملوك مما حكاه الحسين من الإحسان إليه وما يضيع أجر المحسنين وإن حصل التقصير في المكافأة عليه، فالله المسؤول أن يعطف قلب مولانا لمعاودة منصبه الشريف ويحلي الشهبا منه بعد مرارة التنكير بآلة التعريف ويعزها بالأحكام الشافعية التي ما أهملت في بلد إلا خيف عليه أن ينكب ولا عطل منها قطر إلا قطرت فيه الدموع بل سكبت وحق لها أن تسكب … ومهما نسي المملوك فلا ينسى ما وصفه ابن الأخ مما شمله من صدقات المقر الأشرف الأعرق الأعرض المولى حقا المتصدق صدقا … الذين زين الله زينة الكواكب سماء مجده …فعلى المولى دام ظله وعلى مولانا لا عدم فضله، تحية أبد الدهر وإلى لقائهما لهفة غدوها شهر ورواحها شهر وعلى من تحوط عنايته من أهل العلم والدين، والمحبين فيه والمتودين سلام يخص الغالية ونفحة هي بالود حاضرة وبالثناء بادية.
الناشر: جريدة اليوم
– العدد: 7273
تاريخ النشر: 14/05/1993م