ورد بمحاضرتي الموسومة بـ ” أدبيات البترول ” التي ألقيتها “بنادي المنطقة الشـرقية الأدبي” فـي 19/3/1413هـ أن مجـال هـذه “الأدبيات” يكمن في تلك التحولات الاجتماعية التي كانت محل رصد الكثير من رواد الثقافة والأدب من مواطنين وأجانب. ومن هذه التحولات تلك التغيرات التي طرأت على أوضاع الزراعة حيث كان التعلق بها قبل عصر “البترول” أقوى منه بعد عصر البترول. وكانت “الزراعة” بما تمثله من بيئة خضراء ومياه جارية تشد أصحاب الأحاسيس المرهفة من أدباء وعلماء، وبالأخص مـلاك المزارع والبساتين الذين تعـوَّدوا على التجمع في ساحـات مزارعهم وبساتينهم فَيَحْلُوا لهم السمر والأحاديث الجميلة. وبعد تفجر البترول أصبحت هذه التجمعات، كما يقول المثل، في خبر كان، وأخذت المشقة تحل محل البساطة، وابتعد الناس عن الزراعة بقدر اقترابهم من مظاهر المدنية التي كانت وليدة تدفق فجائي لثروات ما كانت في الأصل متوقعة.وعلى ضوء ما سبق تبادر إلى ذهني سؤال ربما تبدو الإجابة عليه بديهية للغاية . والسؤال هو: أيهما أهم النخلة أم البترول؟الكل [ما عدا كاتب هذه السطور] سيجيب :ـ البترول، البترول، البترول. وواقع الحال يؤيد الكل. مع أن دوام الحال من المحال؟ ولله في خلقه شؤون.المفاضلة في أيامنا المعاصرة بين “النخلة” و”البترول” صعبة، وتجد الصعوبة مكانها في التأثير الفجائي [الخارج على مقاييس “العقلانية”] للبترول كمادة استراتيجية.والسؤال الذي يطرح نفسه هو: هل ما حدث خلال “قرن واحد” [بدأ اكتشاف البترول في منطقتنا في السنوات الأولى من القرن العشرين ] هو المعيار المرجح لأهمية البترول وذلك بالنظر لما له ـ وحتى الآن ـ من تأثيرات مفاجئة على حياة البشر؟والنخلة باعتبارها رمز الزراعة [وهنا بيت القصيد،] هل توارى تأثيرها عن الأنظار خلال “قرن” البترول المنصرم. والله سبحانه وتعالى قال مخاطباً الصديقة “مريم بنت عمران” قبل عشرين قرناً: ( وهـزي إليك بجـذع النخلة تساقط عليك رطباً جنيا ). سورة “مريم”، الآيه 25النخلة أهم شجرة فاكهة في عالم الزراعة على الإطلاق. وظلَّت النخلة ولا تزال في عالم الاقتصاد الزراعي المحافظ مصدر غنى ووجاهة وسلطة.ونتاج النخلة في المصطلح الاقتصادي الحديث “مادة” إستراتيجية في وقت السلم والحرب على حد سواء، وهو مخزون أمني سهل الإنتاج والتناول بلا منازع. ولم تحظ مادة استراتيجية في شبه الجزيرة العربية على مر العصور بمثل ما حظيت به النخلة باعتبارها سيدة الأشجار، أو أم الأشجار، أو أميرة الصحراء، على حد رأي بعض الكتاب … وكانت النخلة ـ من حيث نتاجها ـ أهم مصدر تمويلي لعمليات تكوين المملكة العربية السعودية.والنخلة مصدر غذاء دائم ومتجدد.ونتاج “النخلة” وهو “التمر” كان ولا يزال أفضل ما يقدمه “العربي” في خيمته أو في بيته لضيوفه، كما أن التمر من خير ما يحمله معه في رَحْلِهِ وحله. وللنخلة مشتقات من طبيعة صناعية وتحويلية ليس هذا المقال مكان حصرها.وبالفعل قبل تفجر البترول كانت النخلة محل الصدارة لدى سراة القوم.أما بعد تفجر البترول فالصدارة أصبحت لهذا المعدن الأسود السائل.وتوارت النخلة عن الأنظار بسبب “البترول” لتحتل المكان الثاني، إن لم يكن المثوى الأخير في عالم الاقتصاد الزراعي.
ـــــــــــ
أيهما أهم: النخلة أم البترول ؟ 1ـ 2
الناشر: جريدة اليوم
– العدد:9746
تاريخ النشر: 20/02/2000م
*رئيس دارة الدكتور آل ملحمللتحكيم والاستشارات القانونية