هل اعزي أدباء محافظة الاحساء ومثقفيها؟هل اعزي من بقي على قيد الحياة من رعيله؟ هل أعزي أسرة آل مبارك في رحيل عميدها؟ هل اعزي استاذي ورفيق الدرب الدكتور عبدالله بن علي آل مبارك؟ هل اعزي الصديق مازن واخوته واخته في وفاة والدهم؟
بعد نجاحي في مدرسة الهفوف الابتدائية في عام 1371هـ سمعت من بعض لداتي او بعض اساتذتي في المدرسة عن خبر مؤداه من أن شابا من أسرة «آل مبارك» لم يذكر لي اسمه آنذاك قد تخرج في «جامعة الازهر» في المملكة المصرية، وانه يعد ، حسب علمي آنذاك، اول خريج جامعي من بلدة «هجر».سررت للخبر. واشتاقت نفسي لمقابلة ذلك الخريج لعلي اقتفي اثره، ولم اره. وعلمت وقتها كذلك، وانا خريج مدرسة ابتدائية حاصل على الشهادة فيها، ان هذا الخريج الجامعي يطمح، لو سنحت له الفرصة، ان يؤدي خدمة لبلدته في حقل التربية والتعليم.لم تتحقق امنيته لظروف علمت عنها وقتها، فخسرته بلدة «هجر» وشاءت ارادة الله سبحانه وتعالى ان تحتضنه بلدة «جدة» معينا بها معتمدا للتعليم. ولا يداخلني الشك من انه لو ظل في «الاحساء» لتخرج على يديه رجال، بل ولاثراها، مع مرور الزمن، بعلمه وادبه.وظل الحنين الى «هجر» ان لم يكن على الاصح الى اهلها هاجس اول خريج جامعي من ابنائها حيثما حل او ارتحل، وكأن مقولة «وما حب الديار..» ماثلة امام عينيه.ولم التق بهذا الشاب الجامعي منذ عام 1371هـ والى حين، وان كنت على صلة وثيقة برموز اسرته:منهم من كان رفيق دربي،ومنهم من علمني،ومنهم من كان يكبرني سنا فكان بمثابة الاب المربي.
غيبت السنون «ابا مازن» عني في مشوار حياة حافلة كرسها لخدمة وطنه،خارج الديار في سفارة متنقلة هنا وهناك ممثلا للمملكة. وان كنت خلال تلك السنين اسمع نتفا من الاخبار عن مشوار الحياة تلك.وخلال تلك السنين، كانت بلدة «هجر» امام ناظري «ابي مازن». كانت في مخيلته حتى وهو في الغربة. كانت «هجر» عروسه في حله وترحاله يشدو بها، ويتحدث عنها، كما ذكر لي من التقى به لدرجة ان كان الحنين اليها على اشده عنده حيثما ألقت به عصا الترحال او استقر به المقام.كان شغله الشاغل ان يخدم مسقط رأسه واهلها. ولقد تحقق له ذلك بعدما تقدمت به السنون.
ومن حسن الصدف انني التقيت به في منزل احد اقاربي وهو «محمد بن عبدالرحمن بن عبدالله آل ملحم» الموظف بوزارة المالية والاقتصاد الوطني ـ يرحمه الله ـ بالرياض بعد ان عينت وزيرا في حكومة جلالة الملك خالد بن عبدالعزيز ـ يرحمه الله ـ فاذا هو (أي ابو مازن) في حالة سرور، وقد غمرني بعاطر ثنائه مشفوعا بما كان لديه من تجارب كان محور الحديث في ذلك اللقاء.وبعد مشاق التنقل في سفارة في بلدان عربية وغير عربية استقر به المقام في وزارة الخارجية رئيسا للدائرة الاسلامية فيها.وفي مدينة «الطائف» حيث اعتادت الحكومة ان تمضي شهور الصيف فيها توطدت علاقتي بأول خريج جامعي من بلدة هجر.كنا نلتقي في ليالي رمضان المبارك وحتى وقت السحور، وكان بمعيتنا احد اقاربي وهو «عبدالعزيز بن عبدالله العلي الملحم» يرحمه الله الذي كان يعمل آنذاك في المراسم الملكية.تكررت اللقاءات. وكانت لقاءات ذات وهج وبهجة لا نحس بالوقت فيها حتى الهزيع الاخير من الليل.
كان «ابو مازن» ذا ذاكرة تختزن من العلوم العربية وآدابها ما يمكن ان اشبهها «بكلية آداب متنقلة».كنت أغبطه على ما اكتسى به من خلق وادب وعلم، وكنت اتحدث معه، بل واجادله، وكان المنطق يسعفه، ناهيك عما بذاكرته من الحكم والامثال، وكم كنت اتمنى لو تم تسجيل ما كان يدور بيننا من احاديث.وكان «ابو مازن» خلال تلك اللقاءات ذا ادب جم، وتواضع.وكان يستمع، وكان يعترض، وكان ذا سيطرة على لغة الضاد حينما يتحدث، ملما بمداخلها ومخارجها.وكان الشأن العام واعني به «الشأن العربي الاسلامي» ملازما له حينما يتحدث، ولا يمكن ان يلام في ذلك لان ذلك الشأن كان محور عمله حينما كان في سفارة متنقلة هنا وهناك، وحتى بعدما استقر به المقام في وزارة الخارجية يدير دفة دائرة الشؤون الاسلامية فيها.
وبعد ترجله من عمله عاد الى مسقط رأسه ليحقق ما كان يطمح اليه بعد تخرجه في الجامعة في عام 1371هـ، وكان طموحه ان ينخرط كالجندي في حقل التربية والتعليم. ولكن فات الاوان. وبحكم السن لم يتمكن من تنفيذ ما كان يطمح اليه لمزاولة أي عمل نمطي في حقل التربية والتعليم ما عدا محاضرات كان يلقيها استاذا غير متفرغ بجامعة الملك فيصل، وان كان قد حقق ما كان يطمح اليه في مهمة اكبر وذلك حينما افتتح ناديا ادبيا في منزله مساء كل احد، وبامكانياته الذاتية المتاحة، وذلك في وقت كانت «هجر» تفتقر فيه الى ناد ادبي عام، فكان نادي «ابي مازن» مغنى قلوب، ومأوى افئدة، ومسرح افكار ومنتدى سمار. وكان الحراك الثقافي ديدن النادي المنزلي مما جعله يكتسب سمعة وشهرة في فترة قياسية.وتحدث الكثير ممن ارتاد نادي «ابي مازن» لدرجة اعتباره فاكهة ناديه، وعازف نايه بما كان ينثره فيه مما في جعبته من فرائد الادب وغرائبه.وبسبب عوامل ثلاث كانت لذلك النادي تلك الشهرة التي تجاوزت حدود «محافظة الاحساء». واول هذه العوامل ان «ابا مازن» افتتح ناديه في واحة الاحساء الغنية بمغانيها، ومفاتن نخيلها السامقة، ومباهج الطبيعة فيها، ناهيك عما كانت تحتضنه الواحة من مخزون ادبي. وثاني هذه العوامل انه فتح هذا النادي المنزلي وسط مجلس لاسرته، وهو مجلس شبه يومي اعتادت اسرته على فتحه منذ حين وكان ذلك المجلس بمثابة الميدان الواسع الفسيح الذي تمكن فيه «ابو مازن» ان يجعل ناديه الخاص يجول فيه ويصول. اما العامل الثالث فهو استقطاب النادي للكثير ممن ادركتهم حرفة الادب الذين وجدوا في نادي «ابي مازن» املهم الوحيد. والذين ادركتهم حرفة الادب كثر في «محافظة الاحساء» وما جاورها، يستوي في ذلك من هم بمؤسسات التعليم العام والعالي، او من هم قد تقاعد عنها، او من هم خريجو دور وعظ او ائمة مساجد.
كان «ابو مازن» رزين الحصاة، زكنا، أريبا، سريع البديهة، مرح المحيا، ومحبا للمداعبة، ولا انسى موقفا طريفا له في مأدبة عشاء اقيمت في منزل اسرته على شرف صاحب السمو الملكي الامير نايف بن عبدالعزيز النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء وزير الداخلية حينما علق، وبلطف، على حديث لي اثناء تناول الطعام، وكان تعليقه محل استحسان.وكنت ازور «ابامازن» بمنزله بين الحين والآخر حينما اكون بالاحساء وذلك بعد ان اقعده المرض عن مزاولة نشاطه، وكل مرة ازوره فيها اجد منزله لا يخلو من طلبة علم. وكان يذكر لي ان لديه مخطوطات يرغب مني الاطلاع عليها، وانه يحاول ـ اذا أسعفته صحته ـ نشرها، وحال بينه وبين ذلك كبر السن، والان هي مهمة ابنه «مازن» ليحقق ما كان يطمح اليه والده، وانا على يقين ان علما نافعا تحتوي عليه تلك المخطوطات.
وانني اعزي نفسي لفقد شيخنا احمد بن علي بن عبدالرحمن آل مبارك السفير والاديب، كما اعزي كل من ذكرتهم اعلاه بعد ان أبحر.وانني اذ اشاطر الزميل والصديق العزيز الدكتور راشد بن عبدالعزيز المبارك ألم الصدمة عند العلم بالمصاب، فانني استأذنه في نقل فقرات معبرة مما خطه يراعه بعنوان «الفقد الكبير» (.. ومع ان الموت هو القادم الذي لا شك في وصوله، والغائب المحتم لقاه، ومع ان الايمان بقضاء الله الذي لا يرد، وقدره الذي لا يحد، يعمر قلب المؤمن الا ان ذلك لا يمنع الشعور بصدمة الحدث وبلاغة الجرح وألم المصاب، ومن بين مواجع الدهر يبرز الموت اشدها ألما واكبرها فجيعة، لانه السفر الذي لا عودة منه، والفراق الذي لا لقاء بعده في هذه الدار، وبقدر مكانة الفقيد في نفوس اهله وذويه ومعارفه تتسع دائرة الالم، ويزداد عمق الجرح، لذلك فان مصاب اسرته ومحبيه مصاب جلل وجرحهم لفقده طويل اجل).وكان ابو مازن عميد اسرة آل مبارك، وان من تقاليد هذه الاسرة الكريمة تنقل العمادة بين ابنائها وذلك فيمن تتوافر فيه الكفاءة والمكانة العلمية والادبية مع شرط الاقامة بالبلدة.رحم الله ابا مازن، واسكنه فسيح جناته، وألهم ذويه الصبر والسلوان و (إنا لله وإنا اليه راجعون).
الناشر: جريدة اليوم العدد: 13470تاريخ النشر: الأحد 1431-05-18هـ الموافق 2010-05-02م
رابط المقال في الموقع الأصلي
وفي الفقيد أبي مازن : من أعزي؟