كنتُ على متن إحدى طائرات “الخطوط الجوية العربية السعودية” المتجهة من لندن إلى الرياض مساء يوم الجمعة الموافق 21 من شهر محرم الحرام عام 1417هــ، وكان الطيران بحق ممتعاً ومريحاً للغاية، وتناولتُ أثناء الطيران بعض المجلات والصحف لقراءتها بما في ذلك مجلة “أهلاً وسهلاً” العدد 6 ــ محرم /صفر 1417هــ التي تصدرها “السعودية” كل شهرين. ولدى تصفحي للمجلة وقع نظري على مقالة ذات طابع تاريخي تحت عنوان “تاريخ المواصلات: المواصلات البحرية في المملكة ومراحل تطورها في عهد الملك عبدالعزيز” بقلم الدكتور “محمد بن عبدالله السلمان”.وقرأت المقالة التي استهلها الكاتب بقوله:”كان عهد البلاد السعودية بالمواصلات البحرية قديما ومنذ مئات السنين وذلك نتيجة لوقوع المملكة العربية السعودية على جهتين من البحار، فمن الجهة الشرقية تطل على الخليج العربي، وبالغرب تطل على البحر الأحمر بساحله الطويل، فنشأت لذلك العديد من المواني التي استخدمت لغرض النقل البحري. والساحل الشرقي للمملكة يتألف مــن شاطئ أكثره رملي وتقع عليه عـدة موانئ منها: القطيف والجبيل ورأس تنورة وكذلك الدمام والخبر، أما الساحل الغربي للمملكة فهو أكثر استقامة من الساحل الشرقي وأطول منه، غير أن فيه بعض الشعاب المرجانية التي قد تعيق سير الملاحة وتهددها، ومع ذلك فإن موانئ هذا الساحل كثيرة: مثل جيزان والقنفذة والليث ورابغ وأملج وينبع والوجه لكن ميناء جدة يعتبر أهم تلك الموانئ على الاطلاق”.وبعد الانتهاء من قراءة المقالة وجدتُ أنها غير شاملة للموضوع الذي تَطَرَّقَتْ إليه، وبها بعض القصور إذا ما قورنت بعنوانها الشامل “المواصلات البحرية في المملكة ومراحل تطورها في عهد الملك عبدالعزيز”.أغفل الكاتب حتى الإشارة ــ مجرد الإشارة ــ إلى أول ميناء سعودي على الإطلاق في عهد الملك “عبدالعزيز” أَلاَ وهو “ميناء العقير” ذو الصيت المعروف والشهرة التاريخية. ويقع ميناء العقير على ضفاف “الخليج العربي” الغربية. ولميناء العقير تاريخ يعرفه “ياقوت الحموي” و”الأزهري” و”الصاغاتي” والكثير من جغرافي العرب ومؤرخيها منذ العهد الجاهلي وحتى عصورنا الحديثة. وبالعقير كساحل آثار مطمورة تشهد على عظمة ماضيه وإن كان لم يكشف النقاب عنها بعد. وبه ميناء كانت له أهمية بالغة على مر العصور لكل من الأحساء ونجد. إذ هو منذ القدم ثغرهما، وعن طريقه كانت البضائع والخدمات تنقل إليهما من البلدان العربية الواقعة بشرق جزيرة العرب وبلدان “فارس” و”الهند” و”سرنديب” و”سومطرة”. وتكفي الإشارة إلى ما أورده علامة الجزيرة الشيخ “حمد الجاسر” من وصف “ابن الزجاج” في رسالة له إلى ديوان “الخلافة العباسية” من أن “العقير”: دهليز “الأحساء”، ومصب الخيرات منه إليها، وكثرة الإنتفاعات التي جل الإعتماد عليها”. ومنذ استرداد جلالة الملك “عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود” “الأحساء” في عام 1331 هـ وحتى بدايات السبعينيات من القرن الهجري الماضي كان ميناء “العقير” هو الثغر المهم إن لم يكن “الوحيد” من حيث الأهمية “للمملكة العربية السعودية” على شواطئها الشرقية. وعاصر هذا الميناء أمجاداً إذ على ضفافه في العهد السعودي حط الرواد الأوائل الباحثون عن البترول رحالهم فيه. واتخذ اسمه (أي اسم ميناء العقير) مسمى لإتفاقية سعودية بريطانية شهيرة لصالح المملكة وُقِّعَتْ على ضفافه في بداية الأربعينيات من القرن الهجري الماضي. وبالأمس كان ميناء العقير هو بوابة الأحساء ونجد البحرية. وفي هذا الخصوص يروي الأستاذ المربي “عثمان الصالح” أن للملك “عبدالعزيز” رحمه الله ــ بعد استرداده الأحساء ــ عن ميناء “العقير” مقولة مشهورة هي: “الآن عرفتُ أن لي دولة وملكا، وقد ملكتُ منفذاً بحرياً على العالم”. ويضيف الأستاذ “الصالح” بأن ميناء “العقير” هو ميناء المنطقة الوسطى (أي منطقتي نجد والقصيم).وللبحر، كما يعلم أهل الأحساء، سمارُهُ، ونواخذتُه، وشعراؤُه، وصيادُوا سمكه. يقول أديب الأحساء الأستاذ “عبدالله الشباط” عن أسماك “العقير” ما مؤداه أنها تعتبر من أجود الأنواع .. فطعمها لذيذ ونكهتها طيبة .. ويعود سبب ذلك إلى زيادة الملوحة في مياه البحر ونظافة المراعي البحرية لبعد الساحل عن المناطق السكنية وخلوه من التلوث.. ومن أشهر أسماك هذه المنطقة (ولا يزال القول للأستاذ الشباط) الكنعد والتونة والحاقول والدويلمي والهامور.والعقير اليوم أرض سياحية بكر. وهو بالنسبة لأهالي الأحساء من أهم المنتجعات السياحية، والكثير منهم، لا سيما ساكني القرى القريبة منه، يرتادونه ــ رغم بساطته ــ في المناسبات وأيام الأنس والمسرات.وتغنَّي السمار بالعقير، وضفافه الجميلة، وبحره الهاديء، وهوائه اللطيف، ونسيمه العليل، ولياليه المقمرة. وفي قصيدة طويلة بعنوان “منظر رائع” يقول الشاعر “محمد بن عبدالله بن حمد آل ملحم” في مطلعها:
بَيْنَ عَيْنَيَّ رُوَاً ….. مُسْتَمِرٌ وَضِيَاءوَدُنَاً عَائِمَةٌ ….. فِي شُمُوعٍ وَسَنَاوَعَلَى الشَّطِّ بَدَتْ ….. صُوَرٌ تَسْبِي النُّهَاجَلَّ مَنْ أَبْدَعَهَا …… تَمْلأُ النَّفْسَ هَنَا
وكان الشاعر “آل ملحم” يقصد بـ “منظر رائع” منظر شواطىء ورمال “العقير” الجميلة حيث يقول عنها:
يَا لَيَالِي وَصْلُنَا ….. فِي “الْعُقَيْرِ” وَالصَّفَاأَتْحِفِينَا مَرَّةً ….. بَلْ مِرَارَاً بِاللِّقَاإِنَّ فِيكَ سَلْوَةٌ ….. مِنْ ضَنَانَا وَالْعَنَانَتَلاَقَى عُصْبَةٌ ….. فِي شَواطِيكِ مَعَاحَيِّ يَا شِعْرُ مَعِي ….. شَطَّهُ وَالْمَلْعَبَاوَرِمَالاً عِنْدَهُ ….. مَائِسَاتٍ طَرَبَاحَيِّ يَا شِعْرُ مَعِي …… فِي “الْعُقَيْرِ” سَلَفَاهَذِهِ آثَارُهُمْ …… بَيْنَ عَيْنِي تُجْتَلَىيَا “عُقَيْرَ” الأَمْسِ فِي ….. خَلَدِي مِنْكَ سُدَىلَمْ أَزَلْ أَذْكُرُهُ …… لَكَ وَالذِّكْرَى كَفَىمَرْحَباً يَا شَاطِئاً ….. ضَمَّ أَلْوَانَ الْهَنَاحَسْبُكَ الْفَخْرُ بِأَنْ ….. قَالَ فِيكَ الْقُدُمَاكُلَّ قَوْلٍ طَيِّبٍ ….. وَتَغَنَّى الشُّعَرَا
وعن العقير وتاريخه كميناء قال الشاعر:
يـَـا “عُقَيْراً” لَــمْ يَـــزَلْ ….. فِيـــهِ آثَــارُ الْبِنَـــاقَائِمَاتٌ لَمْ تَزَلْ ….. شَاهِدَاتٌ لِلْعُلاَكُنْتَ دَوْماً لَمْ تَزَلْ ….. أَقْدَمُ الْبَحْرِ هُنَاهَمْزَةُ الْوَصْلِ الَّتِي ….. وَصَلَتْنَا الأَزْمُنَا
وعن الغوص وصيد اللؤلؤ بالعقير يقول الشاعر:
يَا زَمَانَ الْغَوْصِ فِي ….. لُجَج الْبَحْرِ مَضَىذَاكُمُ عَهْدٌ لَهُ ….. صِيتُ مَجْدٍ قَدَ جَرَىهَلْ تَرَى أَزْمَانُهُ ….. رَاجِعَاتٍ هَلْ تَرَى؟أَيُّهَا الْبَحْرُ الَّذِي ….. بِهِ غَاصَتْ أَهْلُنَاوَاجْتَلُوْا مَحَّاَرَهُ …… كَالْعَذَارَى فِي السَّنَامِنْهُ صَادُوا لُؤْلُؤاً ….. قَدْ كَفَاهُمْ مُؤَنَا
ومن المأمول أن تمتد يد الإصلاح الحكومية إلى العقير كمنتجع وإلى مينائه ذي الأهمية التاريخية، وفي هذا الخصوص حبر شيخ الشباب صديقي الأديب “محمد بن الشيخ عبدالله المبارك” إمام جامع الإمام “فيصل بن تركي” بحي “النعاثل بمدينة “الهفوف” حاضرة “محافظة لأحساء” قصيدة جميلة من أبياتها:ــ
إِنَّ الْعُقَيْرَ جَمِيلَةٌ ….. مَيْنَاؤُهَا عَبْرَ الأَثَرْفَمَتَى يُعَادُ بِنَاؤُهُ ….. وَمَتَى سَيُعْلَنُ ذَا الْخَبَرْ؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــوزير الدولة وعضو مجلس الوزراء السابق، ورئيس دارة الدكتور آل ملحم للمحاماة والتحكيم والإستشارت القانونية
09/1996م03/1417م
الناشر: مجلة أهلاً وسهلاً
,السنة:20,
العدد:9
تاريخ النشر: 09/1996م