في أوراقي تكملة لمقالتي ذات الحلقتين التي عنوانها: أيهما أهم النخلة أم البترول؟ والمنشورة في جريدة “اليوم” في العدد رقم 9746 وتاريخ/14 ذوالقعدة/1420هـ والعدد رقم 9753 وتاريخ 21/ذوالقعدة/1420هـ. وتتناول هذه التكملة الحديث عن “النخلة” سيدة الأشجار، ويتعرض هذا الحديث للارتباط الوثيق بين اكتشاف البترول وتدفقه في “مقاطعة الأحساء” كما كانت تسمى وقت اكتشافه وتدفقه وبين اهتمام جلالة الملك “عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود” يرحمه الله بالزراعة وأهلها في شتى أنحاء المملكة. وفي هذا الشأن يتحدث كتاب “وزارة الزراعة والمياه” المئوي “تحد وإنجاز عبر مائة عام” عن حقائق منها أن الدلائل تشير إلى الاهتمام بأمور الزراع والزراعة في بداية تأسيس “المملكة العربية السعودية”، وأن هذا الاهتمام كان يسير جنباً إلى جنب مع بقية التوجهات المبكرة الرامية إلى بناء المرافق العامة والأساسية. وتجلَّى هذا الاهتمام في متابعة جلالة الملك “عبدالعزيز” يرحمه الله الشخصية لأحوال الزراع والزراعة، واستفساره عن الأمطار والسيول وخاصة في الجهات التي كانت تتعرض للجفاف، كما كان يهتم بعمليات مكافحة الآفات الزراعية وكان أخطرها الجراد، وكانت توجيهات جلالته تقضي بتقديم كل ما من شأنه توفير التسهيلات والمساعدات المفيدة للزراع وذلك قبل أن يحين الوقت المناسب لإنشاء جهاز يختص بإدارة شئون الزراعة في هذه البلاد.وما ذكره كتاب “وزارة الزراعة” المئوي تؤكده حقائق منها سياسة الانفتاح التي تبناها الملك “عبدالعزيز” في المجال الزراعي حيث فتح أبواب المملكة لبعثات وخبراء عرب وغير عرب للبحث وإجراء الدراسات الأولية للإمكانات الزراعية والمائية في شتى أنحاء المملكة. ومن هذه البعثات: “البعثة الزراعية الأمريكية”، و”فريق الري الأمريكي”، و”فريق المهندسين الأمريكي”، و”البعثة الفنية الزراعية العراقية”، و”البعثة الزراعية السورية”، و”بعثة المساحة الجيلوجية الأمريكية”، و”البعثة الفنية الزراعية المصرية”. ومن هؤلاء الخبراء السيد “كارل تويتشل” المكلف بالبحث عن مصادر المياه في الجزئين الغربي والأوسط من المملكة. وبين يدي كتابان: الأول من إعداد السيد “كارل تويتشل” تحت عنوان “المملكة العربية السعودية”: مصادر المياه في المملكة العربية السعودية” ترجمة الأستاذ “شكيب الأموي”، والثاني من تأليف السيد ” حسين محمد بدوي” بعنوان “كتاب الزراعة الحديثة بالمملكة العربية السعودية”. وصدر الكتابان منذ نصف قرن تقريباً. ولم يصل إلى علمي عما إذا كانت بقية البعثات الزراعية الأخرى قد نشرت تقاريرها في مطبوعات متداولة.وقبل أن أتناول ما تعرض له الكتابان بخصوص “النخلة” لعله من المهم إعطاء فكرة عامة عن الكتابين، وعن مؤلفيها، ولماذا ألَّفا هذين الكتابين؟من الحقائق المسلم بها أن البحث عن الماء كان الشغل الشاغل للكل في بدايات تأسيس المملكة العربية السعودية. والله سبحانه وتعالى يقول في كتابه الكريم: “وجعلنا من الماء كل شئ حي”. ولا تزال هذه الحقيقة ماثلة أمام أعيننا حتى أيامنا المعاصرة رغم ما حبا الله به هذه الديار من نعم لا تعد ولا تحصى.ومن أجل البحث عن الماء دعت الحكومة السعودية السيد “شارلس ر. كرين” [وهو سياسي أمريكي مخضرم ذو صلات قوية بالإمام يحيي إمام اليمن] لزيارة المملكة ومساعدتها في البحث عن كمات كافية من الماء وعلى الأخص إذا أمكن اكتشاف آبار ارتوازية جارية في الحجاز ونجد. فما كان من السيد “كرين” إلا استدعاء السيد “كارل تويتشل” الذي كان “باليمن” وكلفه بالبحث عن مصادر المياه في مناطق محددة من المملكة فانتهى به الأمر إلى وضع دراسات ضمَّنها كتاباً يحمل العنوان المذكور سلفا. وتضمن الكتاب معلومات قيمة عن الحقبة التي عايشها بالمملكة حيث تطرق لنواحي الحياة العامة السياسية والاجتماعية. يتحدث السيد “تويتشل عن مهمته قائلاً: وفي 30 مارس سنة 1931 تلقيت برقية من المستر “كرين” يسألني فيها أن أغادر إلى “جدة” بأسرع وقت ممكن لفحص الأراضي بحثاً عن الماء وعلى الأخص في مناطق طرق الحج … فوصلت جدة … وقد قطعت حوالي (1500) ميل في “الحجاز” فلم أجد دلائل جيولوجية تبعث على الأمل في تدفق آبار إرتوازية، فقدمت تقريراً على إثر ذلك لا يبشر بالخير عن وجود مياه. وبما أن إمكانيات العثور على الماء أصبحت قليلةً جداً فقد صرفت النظر عن القيام بمشروعات كبيرة في البلاد. ومن ثم أردف السيد “تويتشل” قائلاً: ونظراً لهذه الحالة فقد سئلت عما إذا كان باستطاعتي التفتيش عن موارد أخرى لزيادة الدخل زيادة محسوسة بعد أن أصبح من المفهوم أن تقاريري لا تبشر بأمل في زيادة تنتج عن مشروعات ري أو زراعة في “الحجاز”.وفي موقع آخر من الكتاب يتحدث المؤلف عن موقف نبيل للملك “عبدالعزيز” يرحمه الله يعترف فيه عن أسفه في أمل لم يتحقق. فيقول:ـ طلب إلي جلالة الملك … أن أسعى للقائه … وأعرب الملك عن شكره للمستر “كرين” الذي كان السبب في إرسالي وتقديمي هذه الخدمات التي قمت بها في “الحجاز”، وأعرب عن ارتياحه للعناية الفائقة التي بذلنها في عمل التقارير؛ كما أعرب [جلالته] عن أسفه لانهيار آماله في الآبار الارتوازية وإمدادات المياه العظيمة التي كان يرجوها للبلاد.وفي هذه التقارير كان السيد “تويتشل” يبدي لستعدادة عن البحث عن المعادن ذلك أنه وجد ـ من خلاله بحثه عن “الماء” ـ آمال واعدة عن إمكانيات معدنية هائلة من طبيعة سائلة وصلدة.وباعتباره ذا خبرة في شئون التعدين أفاد في تقاريرة الأولية أن إمكانيات التعدين في المملكة واعدة لوجود مستنقعات زيتية جافة قديمة العهد وفي وجود مناجم قديمة كذلك.وفي سياق حديثه عن المعادن والتعدين ذكر السيد “توتشل” حادثة ذات دلالة ملخصها أنه عاد إلى “اليمن”، وبعد اتمامه مهمة هناك غادر إلى موطنه أمريكا متوقفاً في طريقه في “جدة”، وتصادف حينئذ أن وجد بحاثة “تركي” كتلتين من تبر الذهب قرب “الطائف”، فرغب الملك “عبدالعزيز” منه أن يذهب ليشاهد الموقع لتقرير عما إذا كان ذهباً أصلباً حقيقيا، فأفاد أنه ذهب إلا أن جيلوجية وطوبوغرافية الأرض كانت لا تبشر إلا ببصيص من الأمل بتشغيل أية أدوات على نطاق تجاري واسع بحيث تدر في ذات الوقت ربحاً وافراً. وعن المعادن والتعدين في “مقاطعة الأحساء” يقول المؤلف”: طلب الملك “عبدالعزيز” مني أن أذهب عبر البلاد العربية لإفادته عن حتمالات موارد الماء والزيت في “مقاطعة الأحساء” بمحاذاة الخليج [الفارسي]، ومع أن ذلك يعني قطع ألف (1000) ميل في رحلة عبر أرض صعبة المسالك لم يطرقها أي أمريكي قبلي أبدا، فقبلت الدعوة في الحال.وكانت هذه الدعوة فتحاً للسيد “تويتشل” الذي استخدم مهاراته وخبراته في علم التعدين لتكون منطلقه في مجالي “البترول” و”النخلة” رمز الرزاعة.وقد تبنى السيد “تويتشل” خلال بحثه عن الزيت والماء سياسة [ارتقب وانتظر]، وشرح المقصود منها قائلاً: فطلب مني ابن سعود أن أرتب أمر استقدام جيولوجيين للزيت وحافرين للآبار فأوصيت بالتريث حتى تظهر نتيجة البئر الأولى في البحرين [إذ كانت تُجْرَى استكشافات أولية هناك] وذلك قبل الإقدام على عمل أي شئ يتعلق بالزيت في “الأحساء” ذلك أن الحقيقة الواقعة هي أن أعمال الاستكشاف والحفر باهظة التكاليف، وأنه إذا لم يدر بئر “البحرين” كميات تجارية كافية فقد يكون الأمر كذلك في “الحسا”، وأنه لو كانت بئر البحرين ناجحة بكمياتها فيكون معقولاً وجود كميات زيت تجارية أكثر في “الأحساء” وذلك لاتساع مساحتها وامتداد رقعتها.
ـــــــــــــــ
من أوراقي المبعثرة وعن النخلة أم البترول مرة أخرى 1 ـ 4 من أوراقي المبعثرة وعن النخلة
الناشر: جريدة اليوم
– العدد:9795
تاريخ النشر: 09/04/2000م
*رئيس دارة الدكتور آل ملحم للتحكيم والاستشارات القانونية