ويواصل “ابن دريد” في ذكر بعض الشخصيات العربية في قصيدته ومنهم “عمرو بن عدى اللَّخمي” و”الملكة “نائلة” الملقبة “بالزَّباء”.يقول “ابن دريد”:ـ
وَقَدْ سَمَا عَمْرُو إِلَى أَوْتَارِهِ ….. فَاحْتطَ مِنْهَا كُلَّ عَالِي الْمُسْتَمَىفَاسْتَنْزَلَ الزَّبَاءِ قَسْرَاً وَهْـيَ مِـنْ ….. فَاحْتطَ مِنْهَا كُلَّ عَالِي الْمُسْتَمَى
وكما ذكرتُ في الحلقة السابقة تمكنت “الزباء” من الفتك “ِبجُذيمة الأبرش” قاتل أبيها. وكان “لِجُذيمة” ابن أخت هو “عمرو بن عدي اللَّخمي” وقد تولى الملك فيما بعد حيث كان أول ملوك اللَّخميين بعد قتل خاله. وبعد قتل “جُذيمة” أخذت الشكوك تساور “الزباء” من الثأر منها، فيُقال أنها سألت “كاهنة” عن مستقبلها، فأخبرتها “الكاهنة” أنها ستموت أمام رجل أوصافه مثل أوصاف “عمرو بن عدي” ابن أخت الملك المقتول، وأن حتفها على يدها. لذلك استعلمت “الزَّباء” عن كل حركات وسكنات “عمرو” وما يفعله ليلاً ونهاراً تصويراً ورواية. وكان من درجة حرصها على حياتها أنها اتخذت لها نفقاً أجرت عليه الماء من “الفرات” وذلك من قصرها إلى قصر أختها للهرب من خلاله عند الضرورة. هذا ما كان من شأن “الزباء”. اما ابن أخت الملك المقتول فقد قال “قصير بن سعد اللَّخمي” له بعد أن أحاطه علماً بكل ما كانت “الزَّباء” قد فعلته:ـ ألا تطلب بثأر خالك؟ فقال:ـ وكيف أقدر على “الزَّباء” وهي أمنع من عقاب الجو. وكان يقال عنها:ـ أعز من “الزَّباء”. فقال له قصير:ـ أثائرٌ أنت؟ قال:ـ بل ثائرٌ سائرٌ. ثم قال “قصير” له:ـ اجدع أنفي، واقطع أذني، واضرب ظهري حتى تؤثِّر فيه، ودعني وإياها. رفض “عمرو” فعل ذلك على رواية. وفعل “قصير” بنفسه ذلك. لذا قيل في الأمثالـ “ِلأمر مَّا جدع قصير أنفه”. وتمكن “قصير” بما تمتع به من ذكاء ومكر أن يتقرب إلى “الزَّباء” مدعياً أن “عمرو” قد فعل به ما تَرَى. لذلك أصبح “قصير” محل ثقتها لدرجة أنه زَيَّنَ لها أن له أموالاً كثيرة في “العراق” ويرغب منها أن تساعده على نقلها إلى مملكتها. بعثته “الزَّباء” ليحمل ما له من مال في العراق. ذهب إلى “العراق” وأخبر “الملك “عمرو” بما كان من أمره، فجهزه “عمرو” بكل ما طلبه، وعاد إلى “الزَّباء” التي منحته ثقتها، فأخذ يتاجر باسمها أكثر من مرة. وفي المرة الأخيرة، ولكي يحقق مأرب الملك “عمرو”، جهز “قصير” قافلة محملة بأوعية تسمى “الجواليق” أو “الغرائر”. ولكنه هذه المرة بدلاً من وضع بضائع داخل هذه الجواليق خبَّأ فيها رجالاَ مسلحين، وأخذ معه “عمرو”. دخلت القافلة المدينة، واكتشف الحرس، على رواية، الرجال الذين كانوا بداخل الجواليق فتمكنوا من قتلهم. وفي رواية أخرى، أن “قصير” طلب من “الزَّباء” أن تخرج لتشاهد “القافلة”. فلما خرجت أبصرت الإبل تكاد قوائمها تنوخ في الأرض من ثقل أحمالها، فقالت يا “قصير”:ـ
مَا لِلْجِمَالِ مَشْيُهَا وَئِيداَ ….. أَجَنْدَلاً يَحْمِلْنِ أَمْ حَدِيدَا أَمْ صَرَفَاناً بَارِداً شَدِيـدأ ….. أَجَنْدَلاً يَحْمِلْنِ أَمْ حَدِيدَا
وفي رواية يقال أن “قصيراً” قال في نفسه:ـبَلِ الرِّجَالُ قُبَّضاً قُعُودُا
أما “عمرو” قد وصل إلى باب النفق فعرفته “الزَّباء”، عندها مصَّت “الزباء” فص خاتمها الماسي الذي كان مسموماً وهي تقول:ـ “بيدي لا بيد عمرو”. فأصبحت مقولتها مثلاً مشهوراً. وقتلها “عمرو” بالسيف، وأخذ من مدينة “الزباء” ما أخذ ومن ثم رجع إلى “العراق”. ما سبق مجرد لمحات عابرة عن ظواهر “مقصورة بن دريد” الحضارية في تاريخ العرب،. وهي ظواهر انتقائية الغرض منها إبراز بعض الممارسات العربية في الذود عن الكرامة في لغة أصيلة ذات شموخ دُرَرُهَا أمثالٌ عانقت الزمن في سريانه من عصر إلى عصر ومن جيل إلى جيل.أما علوم اللغة العربية من نحو وصرف وبيان وبلاغة في “المقصورة” فحدث ولا حرج. من يقرأها يجد نفسه أمام قاموس محيط الولوج في أعماقة ليس من السهل. مفردات المقصورة مجرد رموز تحتاج إلى تفكيك وشرح وتوضيح لمعرفة دلالات معانيها بغرض تحديد غرض الشاعر من استخدامها. ولعلي لا أبالغ إذا قلت أنه قل أن تجد قصيدة مثل “المقصورة” لم يتناولها الأدباء منذ زمان تحبيرها وحتى اليوم شرحاً وبحثاً الهدف منه تسهيل معرفة مفرداتها بمفردات أدنى إلى القصد وأقرب إلى المرام.وعلى سبيل المثال احتار محمد بن هشام اللَّخمي [أحد شراح المقصورة] في تحديد المقصود من “المها” التي وردت في مطلع القصيدة [يَا ظَبْيَةً أَشْبَهَ شَئٍ بِالْمَهَا]. يقول في هذا الخصوص:ـ(المها) جمع مهاة ـ وهي الشمس … قال الشاعر:ـ
ثُمَّ يَجْلُو الظَّلاَمَ رَبٌ رَحِيمٌ ….. بِمَهَاةٍ شُعَاعُهَا مَنْثُورُ
والعرب تشبِّه وجه المرأة بالشمس في الإشراق، قال أبوحية:ـ
فَأَلْقَتْ قِنَاعاً دُونَهُ الشَّمْسُ وَاتَّقَتْ ….. بِإَحْسَنِ سِرْبَالٍ وَكَفٍ وَمِعْصَمِ
و(المهاة) أيضاً ـ الدُّرة، والعرب تشبِّه المرأة بها في الضياء، قال الربيع بن ضبع الفزاري:ـ
كَأَنَّهَا دُرَّة مُنَعَّمَةُ ….. مِنْ نِسْوَةٍ كُنَّ قَبْلَهَا دُرَرَا
وقال النابغة:ـ
أَوْ دُرَّةٌ صَدَفِيَّةُ غَوَّاصُهَا….. بَهِجٌ مَتَى يَرَهَا يَهِلُّ وَيَسْجِدُ
و(المهاة) أيضاً من بقر الوحش، والعرب تشبِّه المرأة بها لحسن عينها ومشيتها. قال الشاعر:ـ
لهَاَ مِنْ مَهَاةِ الرُّسْلِ عَيْنٌ مَرِيضَةُ ….. وَمِنْ وَرَقِ الرَّيْحَانِ خُضْرَةُ شَارِبِو(المهاة) أيضاً البلورة، والعرب تشبه المرأة بها في البياض فيحتمل أن يكون أبوبكر [الدُّريدي] يرحمه الله شبَّه هذه المرأة التي نَسَبَ بها، وَجَعَلَهَا ظبية على الإتساع بالشمس في إشراقها، وبالدرة في ضيائها وبريقها، وببقرة الوحش في عينيها ومشيتها، أو بالبلورة في بياضها ونصاعتها، إذ لا دليل في البيت على واحدة مما وصفنا بعينها إلاَّ أن الأظهر ـ والله أعلم بمراده ـ أن يريد بالمها ـ بقر الوحش ـ شبَّه المرأة بها لحسن عيونها، وَجَعَلَهَا ظبيةً على الإتساع لطول جيدها. وأخذ هذا من قول زهير:ـ
تَنَازَعَهَا الْمَهَا شَبَهٌ وَدُرٌ …… النُّحُورُ وَشَاكَهَتْ فِيهَا الظِّبَاءُ
شاكهت: شابهت، قال الأصمعي:ـ قوله تنازعها المها أراد أن فيها من البقر شبهاً، ومن الدر شبهاً، ومن الظباء شبهاً، فالذي يشبهها من البقر العيون، ومن الدر صفاء اللمون، ومن الظباء طول الأعناق، وقد بين ذلك جرير بقوله:ـ
لَوْلاَ مُرَاقَبَةِ الْعُيُونِ أَرَيْنَنَا ….. مُقْلَ الْمَهَا وَسَوالِفِ الآرَامِ
وقال ذو الرمة:ـ
وَتَحْتَ الْعَوَالِي فيِ الْقَنَا مُسْتَظِلَّةٌ ….. ظِبَاءٌ أَعَارَتْهَا الْعُيُونُ الْجَاذِرُ
راجع (محمد بن هشام اللخمي، الفوائد المقصورة في شرح المقصورة، ص/110 ـ 113، تحقيق أحمد عبد الغفور عطار، ط/1400هـ.ـــــــــــــــــــــــــ * رئيس دارة الدكتور آل ملحم للتحكيم والاستششارات القانونية
الناشر: جريدة اليوم
– العدد:10100
تاريخ النشر: 08/02/2001م