الرائعة الشعرية عنوان العبقرية الشعرية،
والعبقرية الشعرية سمة قد تتوفر لأمة دون أخرى وذلك على الرغم من أن لكل أمة مهما كان حظها من الذكاء الفطري شعر تتميز به، وبه تتحدد هويتها وذاتها.والشعر من أدوات الاستمتاع الذهني وإشباع اللذة الفكرية، شأنه شأن المادة التي لا غنى عنها لبقاء الحياة لدى الكائن الحي بصرف النظر عن كنهه ونوعه وجنسه.تشدني المقولات السابقة إلى حقيقة أنني من المتذوقين للرائعة الشعرية حينما تجري بلفظها وجمالها ومعانيها وإيقاعها الموسيقي في مجالها عديم النهاية دون أن يعتريها زيادة أو نقص. وهي في جريانها تمنح من شعاعها على مدار الزمن أنماطا من الدفء الفكري من أجل الاستمتاع الذهني والاشباع الفكري.ونماذج الرائعة الشعرية في شعرنا العربي في مختلف عصوره تستعصي على الحصر. وسبق أن عرضتُ لبعض من هذه النماذج، (1) وهي نماذج من نتاج عصور مختلفة. ومن هذه النماذج قصيدة يُقْرَأُ البيت التالي منها:ـ
يَـا ظَبْيَةً أَشْبَهَ شَيْء بِالْمَهَـا ….. تَرْعَى الْخُزَامَى بَيْنَ أَشْجَارِ النَّقَا
هذا البيت حسب القدر المتيقن من الأقوال هو مطلع القصيدة. ومحبر هذه القصيدة ربما لم يكن ليتوقع أن يكون لقصيدته، عند تحبيرها وقبل نشرها، شأن كبير في عالم التجربة الشعرية. وبالرغم من هذا كان لهذه القصيدة شأن كبير بصرف النظر عما إذا كانت سابقة في فنها أو مسبوقة.والقصيدة من فن الشعر المقصور. ولم يتطرق كثيرٌ من الشعراء لهذا الفن كسائر فنون الشعر الأخرى. ولكن تقديمها لمتذوقي الشعر العربي في عهد محبرها كان بمثابة المنهج الجديد لمن يرغب أن ينسج على منوالها متجاوباً أو معارضاً.. ولذلك ما أن عُرِفَت هذه القصيدة حتى كانت، وبالفعل، علماً بارزاً في لغة الضاد. وقال عنها بعض الدارسين أنها:ـ هي إحدى القصائد المشهورة بين الشعراء والعلماء والأدباء والمثقفين، وما من أديب في القديم والحديث إلا مَرَّ بها واطلع عليها، ورأى بعض القدامى ضرورة استظهارها حتى تكتمل للأديب ثقافته الأدبية … واتفق علماء الأدب في القديم على الإعجاب بها واللهج بها، وسبب ذلك أن القصيدة متينةٌ في بنائها، قوية في نسجها، رائعة في أسلوبها، جميلة في معانيها، حافلة بألوان الثقافة والمعرفة والتجارب الشعورية، والمشاعر الإنسانية ، وحكم العرب وآدابها. (2)ومطلع القصيدة يعبر عن لوحة فنية متكاملة كما تعرفُها مقاييس الفن التشكيلي في عالمنا المعاصر! فما بالك بالعالم الذي ولدت فيه القصيدة.واحة خضراء ذات أشجار مختلفة الثمار، تتخللها كثبان رملية نقية متعددة الألوان، تعلوها سماء زرقاء من تحتها سحب خفيفة تتمايل الشمس من بينها ذات اليمين وذات الشمال. وفي وسط هذه الواحة المعشوشبة ظبية ترعى. هكذا تتداعى هذه التصورات في ذهن فنان عالمنا المعاصر لو حاول رسم معالم هذه الواحة وخطوطها العريضة في لوحته. وفي وسط هذه اللوحة، أو في أحد زواياها حسبما يترآى لهذا الفنان، تقف “ظبيته” ترعى الخزامى بين أشجار النقا. وبالرغم من تكامل هذه اللوحة يجد هذا الفنان أنه غير قادر على جعل “الظبية” في لوحته في حالة “حركة.” أي بمعنى آخر أن هذا الفنان مهما تمكَّن من فنه فإنه غير قادر على إبراز عملية الرعي في حالة “حركة” في لوحته حينما يقف المشاهد أمام اللوحة متأملاً ومستمتعاً وربما ناقداً .واللغة أقدر من عمل الفنان في مثل هذه الأحوال على تصور الحالة. الفنان يرسم اللوحة بكل أبعادها ولكنها تظل في حالة سكون. أما اللغة فترسم الحالة في حالة “حركة” في ذهن القارئ وكأنه يشاهدها ببصره أو يتصورها بحسه حسب الأحوال.وهكذا تكون الرائعة الشعرية باعتبارها نتاج العبقرية الشعرية ظاهرة للعيان ولو في بيت واحد.وبالنظر لما حظيت به هذه القصيدة من ترحيب لدى متذوقي الشعر على مر الجديدين ظلَّت ملء السمع والبصر في الأدب العربي، ونسج الكثير من الشعراء على منوالها.وهكذا تكفي “قصيدة واحدة” لشاعر ليعدُّ من فحول الشعراء لدرجة أن هذه القصيدة لتميُّزها قد سُمِّيَتْ في الأدب العربي بإسم قائلها. سميت أحياناً “بمقصورة ابن دريد” ، وأحياناً أخرى “بالدُّريدية” تخليداً لذكراه. وظل “ابن دريد” يخاطب “ظبيته” بعد أن رسم صورتها في ذهنه واصفاً أحواله التي أخذت في التردي مع مرور الزمن وتقدم السن. وهو في هذا الوصف قد أتى بالعجب العجاب. قدرة فائقة في التصوير عن طريق تذليل لغة طيعة أصيلة أسعفته مفرداتها العميقة المليئة وعباراتها السهلة الممتنعة للتعبير عن حاله.يقول “ابن دريد” متحدثاً عن حاله بعد أن تقدم به السن في لوحات معبرة:ـإِمَّا تَرَيْ رَأْسِيَ حَاكَي لَوْنُهُ ….. طُرَّةَ صُبْحٍ تَحْتَ أَذْيَالِ الدُّجَىوَاشْتَعَلَ الْمُبْيَضُّ فِي مُسْوَدِّهِ ….. مِثْلَ اشْتِعَالِ النَّارِ فِي جَـزْلِ الْغَضَافَكَانَ كَاللَّيْلِ الْبَهِيمِ حَلَّ فِي ….. أَرْجَائِهِ ضَوْءُ صَبَاحٍ فَانْجَلَىوَغَاضَ مَاءَ شِرَّتِي دَهْرٌ رَمَى ….. أَرْجَائِهِ ضَوْءُ صَبَاحٍ فَانْجَلَىوآضَ رَوْضُ اللَّهْوِ يَبْساً ذَاوياً ….. مِنْ بَعْدِ ما قَدْ كانَ مَجَّاجَ الثَّرىوضَرَّم النَّأْيُ الْمُشِتٌّ جَذْوَةً ….. مَا تَأْتلِي تَسْفَعُ أثْناءَ الْحَشَاواتَّخَـذَ التَّسْهيدُ عَيْنِي مَأْلَفَـاً …… لَمَّا جَفَا أَجْفانَهَـا طَيْفُ الْكَـَرى
ومن ثم أخذ يصور تعاسته أكثر فأكثر حيث قال:ـ
لَوْ لاَبَسَ الصَّخْرَ الأَصَمّ بَعْضُ مَـا ….. يَلْقَاهُ قَلْبي فَضَّ أصْلاَدَ الصَّفَاإذَا ذَوَىَ الغُصْنُ الرَّطِيبُ فَاْعَلَمَنْ ….. أَنّ قُصَاراهُ نَفَادٌ وَتَوَىإِنْ يَحْمِ عَنْ عَيْني الْبُكَا تَجُلُّدِي ….. فَالقَلْبُ مَوْقُوفٌ عَلَى سُبْلِ الْبُكَالَوْ كَانَتِ الأَحْلامُ نَاجَتْني بِمَا ….. أَلْقَاهُ يَقْظَانَ لأَصْمَانِي الرَّدى منْزِلَةٌ مَـا خِلْتُهـا يَرْضَى بِهَــا ….. لِنَفْسِـهِ ذُو أَرَبٍ وَلاَ حِجَـــاشَيْمُ سَحَابٍ خُلَّبٍ بَارِقُهُ ….. وَمَوْقِفٌ بَيْنَ ارْتِجاءٍ ومُنىفِي كُلّ يَوْمٍ مَنْزِلٌ مُسْتَوْبِلٌ ….. يَشْتَفُّ مَاءَ مُهْجَتي أَو مُجْتَوَىمَا خِلْتُ أَنَّ الدَّهْرَ يَثْنِيني عَلَى ….. ضَرَّاءَ لاَ يَرْضَى بِهَا ضَبُّ الكُدَىأُرَمِّقُ الْعَيْشَ عَلَى بَرْضٍ فَإِنْ ….. رُمْتُ ارْتِشَافاً رُمْتُ صَعْبَ الْمُنْتَسىأَرَاجِعٌ ِلي الدَّهْرُ حَوْلاً كَامِلاً ….. إِلَى الَّذِي عَوَّدَ أمْ لاَ يُرتَجَىيَا دَهْرُ إِنْ لَمْ تَكُ عُتْبَى فَاتَّئدْ ….. فَإِنَّ إِرْوَادَكَ وَالْعُتْبى سَوَارَفّهْ عَلَيّ طَالَما أَنْصَبْتَنِي …… وَاسْتَبْقِ بَعْضَ مَاءِ غُصْنٍ مُلْتَحَىلاَ تَحْسِبَنْ يا دَهْرُ أَنّي ضَارِعٌ ….. لِنَكْبةٍ تَعْرِقُني عِرْقَ الْـمُدَىرَضِيتُ قَسْراً وعَلى الْقَسْرِ رضِىً ….. مَـنْ كانَ ذَا سُخْطِ عَلَى صَرْفِ الْقَضَاإِنَّ الْجَديدِيْن إِذَا مَا اسْتَوْلَيَا …… عَلَى جَديدٍ أَدْنَيَاهُ لِلْبِلَىمَا كُنْتُ أَدْرِي والزَّمَانُ مُولَّعٌ …… بِشَتٍ مَلْمُومٍ وَتَنْكِيثِ قُوَىأَنَّ الْقَضَــاءَ قَاذِفِي فِي هُــوَّةٍ ….. لاَ تَسْتبِلُّ نَفْسُ مَـنْ فِيها هَــوَى
(1) راجع جريدة “اليوم” الأعداد رقم 7266 وتاريخ 16/11/1413هـ ورقم 7273 وتاريخ 23/11/1413هـ ورقم 7280 وتاريخ 30/11/1413هـ ورقم 7287 واريخ 7/12/1413هـ ورقم 7294 وتاريخ 14/12/141هـ.(2) وراجع الفوائد المحصورة في فوائد المقصورة، تخقيق أحمد عبدالغفور عطار، ص 25 وما بعدها، ط/1، 1400هـ.
تاريخ النشر: 25/01/2001م
* رئيس دارة الدكتور آل ملحم