كان القانون الدولي في الجانب المتعلق منه بالمحافظة على السلم والأمن الدوليين إسما على غير مسمى قبل نشأة الدولة القومية. وتبلور هذا المسمى في ظل قانون “عصبة الأمم” التي تكوَّن أعضاؤها من منظومة الدول القومية لدرجة كان هدفه الأسمى إبقاء الأحوال الأممية في عهده في حالة سكون دائم. وعلى النقيض من قانون “عصبة الأمم” تحولت معالم القانون الدولي في ظل قانون “الأمم المتحدة” الجديد وهو القانون الذي استهدف هو الآخر حماية مصالح المنتصرين الذين تجمعوا في مملكة “حق النقض”. وهي المملكة التي استهدفت هي الأخرى إبقاء الأحوال الأممية في عهدها في حالة سكون دائم. ولا تزال هذه المملكة تقاوم رياح التغيير.وفيما بين ذاك القانون ونقيضه لم تبق الأحوال الأممية على حالها كما أريد لها أن تكون. وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي وما ترتب على حربي “الخليج العربي” برز ما يُسمَّى بالنظام العالمي الجديد، ومن ثم نظام العولمة.وفي ظل حقائق الأحوال الدولية المعاصرة لا مناص من القول بأن عالم اليوم محكوم بقانون شبيه ” بقانون الغابة”. و”قانون الغابة” هو قانون اللاّ ـ شرعية أي القانون الذي يضفي الشرعية على أعمال الشر والظلم والعدوان دونما وازع من ضمير أو دين أو منطق أو عدل. وتتمركز معالم “قانون الغابة” على المقولات الخمس التالية:ـ1 ـ استخدام القوة من أجل المحافظة على وقائع غير شرعية. وهذا الاستخدام قانوني بموجب القانون الدولي. ومبنى هذه المقولة هو أن من شأن المحافظة على هذه الوقائع غير الشرعية المحافظة على الأمن والسلم الدوليين.2 ـ فعالية القانون الدولي تتأكد من الناحية الشرعية في الحالة التي يتجه فيها إلى تأييد موقف أو مواقف معينة غير شرعية. ومبنى هذه المقولة هـو اعتبار القانون الدولي كما هو مطبق حالياً هو قانون الغابة.3 ـ إعطاء قواعد القانون الدولي الداعية إلى استقرار السلم والأمن الدوليين أسبقية في التطبيق والتنفيذ حتى في الأحوال القائمة على أسس غير عادلة. ومبنى هذه المقولة هو اعتبار استمرار الأمن والسلم الدوليين من وجهة نظر قانون الغابة هي المظلة الواقية ضد ضربات شمس التغيير مع أن دوام الحال من المحال. 4 ـ تغليب استخدام القوة المجردة من الشرعية القانونية على استخدام القوة المستندة إلى الشرعية القانونية إذا كان من شأن ذلك حماية مصلحة غير مشروعة في نظر “قانون الغابة”. ومبنى هذه المقولة أن تكون القوة المجردة من الشرعية هي القانون النافذ في حسابات “قانون الغابة” في خصوص تلك المصلحة.5 ـ استخدام “حق النقض” في مجلس الأمن التابع لهيئة الأمم المتحدة باعتباره صمام الأمان وفقاً “لقانون الغابة” في خصوص حماية المصالح غير المشروعة كما ترتبت واستقرت بعد انتهاء الحرب الباردة. وهذا الاستخدام، من الناحية القانونية، سليم حتى ولو تعارض مع مبادئ الحق والعدل أو مبادئ حرية الأمم والشعوب في تقرير مصيرها أو مع مبادئ حقوق الإنسان. ومبنى هذه المقولة هو اعتبار “حق النقض” هو صمام الأمان الوحيد لاستمرارية “قانون الغابة” الحارس الأمين للهيمنة الدائمة للعولمة، وهي الهيمنة المعتمدة من حيث البقاء والفعالية والاستمرارية على “سلطان القوة” المجردة من الشرعية أكثر من اعتمادها على “سلطان العدالة”.هذه المقولات الخمس ثوابت من شأن ممارستها تعزيز “قانون الغابة”.ولعل الصـورة تتضح، في ظل المقولات الخمس المذكورة في الحلقة السابقة، عن المقصود من “قانون الغابة”.يقال في عالم الأساطير أن “قانون الغابة” هو القانون الذي يسيطر بموجبه القوي على الضعيف دونما شفقة أو رحمة أو حنان.و”قانون الغابة” هو قانون حقيقي له مبادئه وأحكامه وتطبيقاته سواء في عالم النبات أو عالم الحيوان أو عالم الانسان.من أراد أن يتعرف على “قانون الغابة ” في عالم النبات فليسأل عنه الفلاح.ومن أراد أن يتعرف على “قانون الغابة” في عالم الحيوان فليسأل عنه “علماء البيئة” هذا من جهة. كما عليه أن يبحث عنه، من جهة أخرى، في كتب قصص الحيوان. وهي كتب كنا، ومنذ الصغر وقبل أن نشب عن الطوق، نتسلى بقراءة الحكايات التي تحتوي عليها لأنها تصور لنا في إطار من الخيال وقائع ربما لا يصدقها العقل، ومع ذلك ففي هذه الحكايات الصحيح من الوقائع التي تتحدث عن الصراع بين القوة والضعف من خلال تصرفات الحيوان ممثلاً في أسوده ونموره وثعالبه وقططه وذئابه. إنها حكايات، برغم ما يتبقى منها من رواسب في الذهن مع تقدم السن، تظل مخزون عبر وذكريات.أما من أراد أن يتعرف على “قانون الغابة” في عالم الانسان فهذا القانون موجود، ومن السهل التعرف عليه لوجود تطبيقات له في كل زمان ومكان.ومن تطبيقاته “مجازر صابرا وشاتيلا”، وما يحصل في “أفغانستان”، واستخدام “حق النقض” غير المبرر، وما يحصل في “فلسطين”.”قانون الغابة” هو قانون اللاَّ ـ شرعية لأنـه القانون الذي يضفي الشرعية على أعمال الشر والظلم والعدوان . وقانون الغابة تتجلى تطبيقاته حينما يُفْرَضُ على القانون الدولي أن يستهدف عند تطبيق قواعده استقرار الأمن والسلم الدوليين حتى ولو كان ذلك على حساب العدالة الدولية.وعلى سبيل المثال، إن الإلتزام بأمن واستقرار ورفاهية “اسرائيل” [وهي واقع غير شرعي مزروع قي قلب الأمة العربية] من أولى أوليات “القانون الدولي” وفقاً لمفاهيم وتنظيرات “قانون الغابة” وذلك تأسيساً على أن من شأن حمايتها، ومن الناحية القانونية، استقرار الأمن والسلم الدوليين.وانطلاقاً من الأرضية السابقة ليس من المهم من الناحية الواقعية وفقاً “لقانون الغابة” أن يتشرد شعب فلسطين أو أن يقسم شعب لبنان أو أن تسود الفوضى في الصومال أو أن يفصل جنوب السودان عن شماله أو أن يمزق شعب الشيشان.القانون الدولي الذي تسعى الأمم والشعوب إلى تطبيق قواعده هو نقيض “قانون الغابة”. إنه القانون الذي يستمد جذوره من العدالة الدولية التي لا تجعل من القوة المجردة من الشرعية مصدر السلطة الدولية في حفظ الأمن والسلم الدوليين.القانون الدولي الذي نعنيه هو القانون الذي يتخذ من العدالة الدولية مقاييسه ومفاهيمه واستراتيجياته. ولكن أين هذا القانون في عالم حل محله “قانون الغابة” الذي يعتمد، من حيث الفاعلية والتأثير، على سلطان القوة المجردة من الشرعية.من المستحيل أن تبقى الحياة الدولية المعاصرة في كف قانون الغابة.ولعل هذا البقاء إلى حين.وكما تكونون يول عليكم.ولله سبحانه وتعالى في خلقه شئون.ــــــــــــــ* رئيس دارة الدكتور آل ملحم للتحكيم والاستشارات القانونية
الناشر: جريدة اليوم
– العدد:10079
تاريخ النشر: 18/01/2001م