من أوراقي المبعثرة – تأملات في الرحلة المقدسة (4)

استقبلت “المدينة المنورة” “محمد بن عبدالله” صلى الله عليه وسلم حينما قدم إليها مهاجراً بالبشر والسرور والترحاب. ومن “المدينة المنورة” انطلق الرسول صلى الله عليه وسلم ينشر رسالة الله سبحانه وتعالى الخالدة المبنية على عقيدة التوحيد بعزم وتصميم.و”المدينة المنورة” بعد “مكة المكرمة” هي المهبط الثاني للوحي، وفيها اكتملت تعاليم الدين الاسلامي. وعلى تراب “المدينة المنورة” رَسَمَ الرسول صلى الله عليه وسلم معالم أول دولة في تاريخ الاسلام.وفي رحاب “المسجد النبوي الشريف” تأسست “جامعة الاسلام” الأول. إذ فيها فسرت وشرحت تعاليم الاسلام، كما كانت مربط الدعاة، تعد الرجال خير إعداد، وتهيئ الأبطال لنشر رسالة الاسلام. وعاصرت “المدينة المنورة” أثناء حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وبعده انتصارات الاسلام الكبرى في الجزيرة العربية وخارج حدودها. وضم تراب هذه المدينة جسده الطاهر عليه أفضل الصلاة وأجمل التسليم. وواصل الخلفاء الراشدون ” وصحبهم رضوان الله عليهم من “المدينة المنورة” [من بعده] حمل لواء رسالة الاسلام إلى البشرية كافة دونما كلل أو وهن.وفي كلمات شاعرية تحدث الشاعر “محمد بن عبدالله آل ملحم” على لسان “المدينة المنورة” وهي تتباهى بأن تربتها تضم “جسد” الرسول صلى الله عليه وسلم. عن هذه المباهاة المفعمة بالانفعالات الوجدانية الخيرة قال:ـ
سُبْحَانَكَ اللَّهُّمَ يَا بَارِي الْوَرَى ….. يَا مَنْ لَهُ كُلُّ “الأَنَامِ” تَــؤُولُإِنَّ الْجَمَالَ طِبِيعَةٌ خَلاَّبَةٌ ….. فَربُوعُُ”طَيْبَةَ” تَزْدَهِي وَتَقُولُ:هَلْ مِثْلُ “حُسْنِي” فِي الْبِلادِ جِمِيِعِهَا ….. و”بتُرْبَتِي” خَيُرُ الأَنَــامِ نَزيِلُ”حُسْنِـي” تَكَامَلَ وَالْجَمَالُ جَمِيعُهُ ….. فَأَنَا “الْفَضِيلُ” وَغَيْرِيَ الْمَفْضُولُأَنَا خَيْرُ أَرْضِ اللهِ “بالْهَاديِ” الذِي ….. كُلُّ الأَنَامِ تُحِبُّهُ وَتَمِيلُتَرْجُو شَفَاعَتَهُ التِي هُوَ أَهْلُهَا ….. فِي مَوْقِفٍ عِنْدَ “الْجَلِيلِ” جَلِيلُفَيُجِيبُهُمْ إِنِّــي لَهَا إِنِّـي لَهَـا ….. وَكَفَاهُ ذَاكَ الْمَوْقِـفُ الْمَشْمُـولُ
ولدى توديع الشاعر “للمدينة المنورة” رَسَمَ في لوحة مثيرة وجذابة ملامح محبوبته والعلاقة التي تربطه بها. ومن يتأمل أسرار هذه العلاقة ينبهر من نقائها وطهرها وصفائها. علاقة حب معدنها الإيمان, وجوهرها الشوق والحنين إلى موطن الرسالة، موطن عقيدة التوحيد الخالصة. يقول الشاعر:ـ
يَا “طَيْبَةَ” الزَّهْرَا: وَدَاعَاً طَيِّبَاً ….. وَلِقُاؤُنَا فِي عَاجِلٍ مَأْمُولُمَا مِنْكِ أَشْبَعُ يَا هَوَى قَلْبِي وَإِنْ ….. فِيكِ أَظَلُّ الْعُمْرَ فَهْوَ قَلِيلُيَا مَنْظَرَ الْحُسْنِ الْبَدِيـــعِ شَجَيْتَنِي ….. فَالقَلْبُ عِنْدَكَ إِنْ رَحَلْتُ نَزِيـــلُ
وواصل الشاعر تأملاته مودعاً، وكان يأمل أن لا يكون الوداع الأخير، أما عواطفه الجياشة، ومشاعره النبيلة، وتربيته المشبعة بالإيمان الصادق فهي تفيض بالثناء والشكر لله سبحانه وتعالى الذي حقَّق حلمه، ومن ثم عَلَى مَنْ عَمِلَ عَلَى تحقيق أمنيته، متبعاً ذلك بالصلاة على سول الله صلى الله عليه وسلم، ومن ثم صحابته والمسلمين جميعاً في تسلسل مرتب أنهاه بالبيت الذي بدأ به قصيدته كعادة بعض الشعراء من ذوي الأحاسيس المرهفة المولعين بحب الله سبحانه وتعالى وحب خير خلقه “محمد بن عبدالله” صلى الله عليه وسلم:ـ
إِنِّي أُوَدِّعُ وَالْحَنِينُ يَشُدُّنِي ….. وَالدَّمْعُ ذَلِكَ شَاهِدِي وَدَلِيلُوَأَقُولُ مِنْ قَلْبِي وَدَمْعِي دَافِــقٌ ….. يَا لَيْتَ أَيَّامَ الْوِصِالِ تَطُـولُمَرْحَى ومَرْحَى “ِللوَزيِر” وَمَرْحَباً ….. شِفْعَاً وَوِتْرَاً والثَّناءُ يَطُولُأَسْدَى الْجَمِيلَ مُقَدَّماً وُمُؤَخَّـراً ….. وَكَذا الْجَمِيلُ عَلَى الدَّوامِ جَمِيلُوَعَدَ “الْوَزِيرُ” وَإِنَّهُ فِي وَعْدِهِ ….. لَهُوَ الوَفِّيُّ الصَّادِقُ الْمَأْمُولُزُرْنَــا بِفَضْلِ اللهِ ثُـــمَّ بِفَضْلِكُمْ ….. وَقَـدِ اعْتَمَرْنَــا وَالرَّجَــاءُ قَبُولُحُلْمٌ تَحَقَّقَ فِي الْحَقِيقَةِ لَمْ يَكُـنْ ….. يَجْرِي بِبَالِي فِـي الْكَـرَى فَأَطُـولُفَلَقَدْ حَظَيْنَا بِالدِّخُولِ “لِكَعْبَةٍ” ….. فَليْهَنَنَا شَرَفٌ بِهَا وَدُخُولُوَلَقَدْ حَظَيْنَا بِالدُّخُولِ “لِحُجَـــرَةٍ” ….. فِيهَا “إِمَامُ” المُرْسَلِينَ نَزِيلُفَجَزَاكَ مَـوْلاَيَ الْكَرِيمَ جَـــزَاءَ هُ ….. وَأَتَـــمَّ نَعُمَـــاهُ عَلَيكَ يُنِيـلُوَأَرَاكَ فِي دُنْياكَ أَسْعَدَ مَا تَرَى ….. وَلِمَنْ لِبَيْتِكَ يَنْتمِي وَيَؤُولُوَأَنَالَكَ الأْخُرَى وَلَمْ يَكُ بَيْنَنَا ….. رَبِّي يُفَرِّقُ واِلالَهُ مُنِيلُوَعَلَى الْحَبِيبِ “مُحَمَّدٍ” بَاهِي السَّنَا ….. مَـا إِنْ لَهُ فِي الْعَالَمِينَ مَثِيـلُصَلَّى عَلَيهِ اللهُ سَلَّمَ دَائِمَاً ….. أَبَداً وَبَارَكَ مَا قُرِى التَّنْزِيـلُوَ”الآلِ” خَيْرِ الآلِ فِي كُلِّ الوَرَى ….. وَكَفَاهُمُ التَّقْرِيِبُ وَالتَّنْفِيلُوَالصَّحْبُ خَيْرُ الصَّحْبِ فِي كُلِّ الدُّنَا ….. بِصُدُورِهِمْ قَدْ أَشْرَقَ التَّأْوِيـلُوَالْمُسْلِمِينَ جَمِيعُهُمْ مَا أنْ شـدا ….. طَيْرٌ وَزَانِ بِصْوتِــــــهِ التَّهْلِيلُوَغَدَا يُرَدِّدُ عَاشِقٌ فِي لَهْفَةٍ ….. وَالدَّمْعُ فَوْقَ خُدُودِهِ مَسْيُولُشَوْقِيْ إِلى تِلكَ الرُّبـوعِ يَطُـولُ ….. أَنَّيِّ بِهَــا أَحْظَى وَكيْفَ وُصُـولُ!
وهكذا كان الشاعر على طريقته المعتادة في تحبير الشعر يحب التطويل، ولكنه تطويل ذو خواطر جياشة ترتكز على فكر متميز، وثقافة واسعة مصادرها تراث الاسلام وآدابه.
وقلت عن الشاعر في أحد “كتبي” (1) :ـإن الشاعر “آل ملحم” شخصية متعددة المواهب، فهو:ـ واع لما يجري حوله من وقائع وأحداث، وتمكن من تأريخها شعراً، وهو شاعر مطبوع وكثير النفس، عازفاً عن الاغراءات، ولا تجد في شعره القول الفاحش، ويمقت الهجاء إلاَّ عند الحاجة، ويستنكر الخداع وما يدعو إلى الباطل، وكان من الدعاة في سبيل الله رحمه الله تعالى.

—————هوامش:—————
(1) راجع د. آل ملحم، “هزار الأحساء وبلبلها الغريد”، ط/عام 1420هـ الموافق عام 2000م، إصدار “دارة الدكتور آل ملحم للنشر والتوزيع”، الرياض.

من أوراقي المبعثرة – تأملات في الرحلة المقدسة (4)من أوراقي المبعثرة – تأملات في الرحلة المقدسة (4)
الناشر: جريدة اليوم

– العدد: 9788

تاريخ النشر: 02/04/2000م

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.