من أوراقي المبعثرة الرد على مهيار 1 ـ 3بقلم معالي الدكتور محمد بن عبداللطيف آل ملحم*
وُلِدَتْ قصيدة “أعجبت بي” في بغداد عاصمة الخليفة “المعتصم” التي كان وقتها تحت “الحكم البويهي” ذي النَّزعات الفكرية المتصارعة. وتتكوَّن هذه القصيدة من “تسعة” أبيات محبرة على بحر “الرمل” ذي الموسيقى الرشيقة الخفيفة المنسابة كما يقول أحد النقاد العرب. وتقرأ الأبيات التسعة كما يلي:ـ
أُعْجِبَتْ بِي بَيْنَ نَادِي قَوْمِهَا …… “أُمٌّ سَعْدٍ” فَمَضَتْ تَسْأَلُ بِي سَرَّهَا مَا عَلِمَتْ مِنْ خُلُقِي …… فَأَرَادَتْ عِلْمَهَا مِنْ حَسَبِي لاَ تَخَافِي نَسَبًا يُخْفُضُنِي …… أَنَا مَنْ يُرْضِيكَ عِنْدَ النَّسَبِ قَوْمِيَ اسْتَوْلُوا عَلَى الدَّهْرِ فَتًى …… وَمَشُوا فَوْقَ رُؤُوسِ الْحُقُبِ عَمَّمُوا بِالشَّمْسِ هَامَاتُهُمُ …… وَبَنُوا أَبْيَاتَهُمْ فِي الشُّهُبِ وَأَبِي “كْسْرَى” عَلَى إِيَوَانِهِ …… أَيْنَ فِي النَّاسِ أَبٌُّ مِثْلَ أَبِي سَوْرَةُ الْمُلْكِ الْقُدَامَى وَعَلَى …… شَرَفِ الإْسِلاَمِ لِي وَالأَدَبِ قَدْ قَبَسْتُ الْمَجْدَ مِنْ خَيْرِ أَبٍ …… وَقَبَسْتُ الدِّينَ مِنْ خَيْرِ نَبِي وَضَمَمْتُ الْفَخْرَ مِنْ أَطْرَافِــهِ …… سُؤْدَدَ الْفُرْسِ وَدِينَ الُعَــرَبِ
ومنذ أن تَمَّ تحبير هذه القصيدة وهي ذاتٍ تألقٍ متناهٍ في عالم التجربة الشعرية،والقصيدة من روائع الشعر العربي، وقد نالت ما تستحقه من شهرة، وهي من نتاجٍ فارسيٍ في شكل عربي، وكان الغرض منها التعبير بوضوحٍ عن تفوق “فارس” أصلاً ومحتدًا وباسم الإسلام، وضد كل ما هو عربي أصلاً ومحتدَا.والقصيدة معلم شامخ، وتدل على عظمة الفخر باعتباره أحد فنون التجربة الشعرية العربية، كما أنها أهم رمز ممثل لروح الفلسفة الشعوبية التي نشأت وترعرعت في ظل التسامح الإسلامي وأخلاقياته النبيلة.وتَمَّ تحبير القصيدة تحت سمع وبصر خليفة “بغداد” الذي لم يحوك ساكنًا لأنه كان حبيس القفص الشهير. وكانت القصيدة في حد ذاتها أهم رسالة إعلامية عبرت في عقر دار العربي عن عظمة الفرس، والتذكير بأمجادهم، كما يتخيلها “مهيار”..وقائل القصيدة رجل فارسي مجوسي حديث عهد بالإسلام. ولتمجيد الفرس استخدم “مهيار” سلاح من أمضى الأسلحة عند العرب أَلاَ وهو الشعر عندما رغب في التعبير عن آرائه.وَفَعَلَ “مهيار” ما فعل لإدراكه أنه يعيش في عصر كانت السيادة فيه “للفرس”، كما كانت القصيدة نذير انتكاسات تلت عصر “المعتصم”.وكان “مهيار” نسيج عصره، وهو عصر اختلط فيه الحابل بالنابل وذلك في ظل ضعف عربي، وسيطرة خليط من أجناس غير عربية، ومذاهب متعددة، وأفكار متباينة.وقيل عن “مهيار” في التراث العربي أنه له مذاقٌ خاصٌ في الشعر، مبغضٌ “للعرب”، فخورٌ “بكسراويته”، ومحبٌ “للآل البيت”.تسامح الإسلام جعل “مهيار” يقول ما قال، وهو تسامح تبدو مصداقيته في قول “الرسول” صلة الله عليه وسلم في خطبة الوداع “ليس لعربي فضل على عجمي إلاَّ بالتقوى”.ولم أعثر، وهذا مبلغ علمي، على اسم شاعر تصدى “لمهيار” غير الشاعر”محمد بن عبدالله بن حمد آل ملحم” الذي حبَّر قصيدة من بحر “الرمل”، وهو البحر نفسه الذي استخدمه “مهيار” في قصيدته. وهي قصيدةٌ، كما سنرى، تستحِق الذكر والإشاده.وتحدث الشاعر “آل ملحم” عن كيفية عثوره على قصيدة “أعجبت بي” في أبياتٍ قدَّم بها قصيدته قائلاً:
بَيَنَمَا كُنْتُ بِظِلّ مُعْجِبٍ ….. مِنْ ظِلاَلِ الأَدَبِ الْمُعْشَوْشِبِ وَأَنَا فِيهِ أُسَلِّي خَاطِرِي ….. مُسْتَريِحاً فِي رِيَاضِ الْكُتُبِ إِذْ بَدَتْ لِي قِطْعَةٌ شِعْرِيَّةٍ ….. لِفَتًى لاَحَ كَمِثْلِ الْكَوْكَبِ فَاخِرًا فِيهَا بِقَوْمِيَّتِهِ ….. يَتَبَاهَى مُظْهِرًا لِلْحَسَبِ يُرْسِلُ الشِّعْرَ كَمَا نَعْهَدُهُ ….. لَيْسَ بِالْمَصْنوعِ وَالْمُكَتسِبِ سَاحِرُ الإِيقَاعِ فِي نَغْمَتِهِ ….. نَفَثَاتُ الْحُبِّ فِي قَلْبِ صَبِي غَيْرَ أَنَّ الْمَرْأَ مَهْمَا يَعْتَلِي ….. لَيْسَ يَخْلُو أَبَدًا مِنْ ثُلَبِ وَلأَنَّا لَمْ نَجِدْ مَنْ يَنْبَرِي ….. قَدْ أَخَذْنَا قَوْسَنَا فِي اللَّعِبِ فَاسْمَعُوا آرَاءَنَا نَعْرُضَـهَا ….. دُرَرًا مِْن نَوْعِـهَا لَمْ تُجْلَبِ
وهكذا، وفي أدب جم، بدأ “آل ملحم” قصيدته التي وإن لم تخلو من مدح لشاعرية مهيار، ومن أنه شاعر مطبوع، إلاَّ أن استنكرتْ عليه التعصب لقوميته.يقول “مهيار”:
أُعْجِبَتْ بِي بَيْنَ نَادِي قَوْمَهَا ….. “أُمٌّ سَعْدٍ” فَمَضَتْ تَسْأَلُ بِي
مَنْ هي “أم سعد”؟ هل هي محبوبةٌ أم زوجهُ؟لقد سار “مهيار” على ما سار عليه الشعراء العرب منذ العهد الجاهلي وحتى عصر “مهيار” على اتخاذ اسم محبوبة لمناجاتها في أشعاره مثل “سلمى” و”بثينة” و”ليلبى” و”عنيزة”. ولكن “أم سعد” في مفهوم “مهيار” هي “العروبة المسلمة” وقوم “أم سعد” هم “الأمة العربية” قاطبةً. ولأن “العروبة” وقتها كانت في حالة ضعف واستكانة أخذت “أم سعد” تسأل “مهيار” مَنْ أنت؟ مَنْ أنت؟ وتمكن “مهيار” من التغلغل في أعماق “أم سعد” ليكشف عن سِرِّ سؤالها بكل وضوح. قال “مهيار”:
سَرَّهَا مَا عَلِمَتْ مِنْ خُلُقِـي ….. فَأَرَادَتْ عِلْمَــهَا بِحَسَبِي
وهنا أراد “مهيار” بجلاءٍ تبيانَ أخلاق “الفرس”، وأنه لولا علم “أم سعد” عن حسن أخلاقي باعتباري فارسيًا” لما كان لديها ما يبرر السؤال عن حسبي ونسبي.وللرد على “مهيار” من مطلقاتٍ إسلاميةٍ بحتةٍ ترتكز على نبذ “القومية” و”العنصرية” رفع الشاعر شعار “الإسلام”، وشعار “الأخوة الإسلامية”.يقول الشاعر “آل ملحم”:
لَكَ يَا “مِهْيَارُ” فِي الشِّعْرِ يَدٌ ….. وَلَنَا أَيْدٍ لَهَا لَمْ تُغْلَبِ لاَ تُفَاخِرْ “أُمَّةَ الضَّادِ” التِي ….. خَصَّهَا اللهُ بِذِكْرٍ عَرَبِي وَحَبَاهَا مِنْ لَدُنْهِ “الْمُصْطَفَى” ….. وَكَفَى الْعُرْبَ النَّبِيَّ الْيَعْرُبِي فَسَمُوا “بِالْمُصْطَفَى” فِي مَشْرِقٍ ….. وَسَمُوا “بِالْمُصْطَفَى” فِي مَغْرِبِ قَدْ أَضَاءَ الْكَوْنَ مِنْ أَنْوًارِهِ ….. وَانْجَلَتْ عَنَّا غُيُوبِ الْكُرَبِ لاَ تُفَاخَرْنـَـا فَإِنَّــا أُمَّــةٌ ….. شَمْسُهَا مِنْذُ بَــدَتْ لَمْ تَغْرُبِ
كما أخذ الشاعر “آل ملحم” يذكِّر “مهيار” بزلزال “الإسلام” الذي اجْتَثَّ “إيوان كسرى” من جذوره، كما قضى على كل ألوان الشرك والطغيان جامعًا منسوبيه مهما اختلفت جنسياتهم وقومياتهم في أمة واحدة تلتوي بلواء “الإسلام” وتتفيأُ في ظلاله في محبةٍ وأخوةٍ لاَ نظير لهما.يقول الشاعر “آل ملحم” مخاطباً “مهيار”:
لاَ تُفَاخِرْ “أُمَّةَ الضَّادِ” التِي ….. خَصَّهَا اللهُ بِذِكْرٍ طَيِّبِ كُنْتُمُ مِنْ قَبْلَهُ فِي مِحْنَةٍ ….. وَالْوَرَى كُلُّهٍمْ فِي نُوَبِ تَعْبُدُونَ النَّارَ وَيْحَكُمُ ….. وَتَجُودنَ لَهَا بِالْقُرَبِ كَمْ شُعُوبٍ حَارَبَتْنَا فَانْتَهَتْ ….. وَاسْتَحَالَتْ فِي سَحِيقِ التُّرَبِ قَدْ مَضَتْ “فُارِسُ” وَ”الرُّومِ” مَعًا ….. وَكَذَا دَيَلَكُمُ عَــنْ َكَثبِ
الناشر: جريدة اليوم
– العدد: 9823
تاريخ النشر: 07/05/2000م
رئيس دارة الدكتورآل ملحم للتحكيم والاستشارات القانونية