وملحمة الدر المكنون للشاعر محمد بن عبدالله الملحم هي أشبه ما تكون “بالموسوعة”، ولقد انتقى الشاعر الفاظها بحرص وحذر حتى ليظن القارئ أنها ليست من اللغة، فاذا ما رجع الى المعجم وجدها تنبض بالحياة والصواب. ولا غرابة إن قلنا أنه رحمه الله معجم متنقل. كما استقى الشاعر موضوعات هذه الملحمة من مصادر شتى كالقرآن الكريم والسنة النبوية والسيرة النبوية والتراث العربي الاسلامي وكذلك مشاهداته وانطباعاته عما رآه أو سمعه أو قرأ عنه أو تعلمه منذ طفولته وحتى وفاته.وكان القرآن الكريم أول مصدر اعتمد عليه الشاعر في تحبير ملحمته حيث استخدم الكثير من الآيات القرأنية في الاستدلال على ما تناوله من موضوعات. وكان من هذه الموضوعات: قيام الليل، والزهد ومنازل المتقين في الجنة، ووصف ما في الجنة من نعيم دائم، ومقارنته مع ما في النار مقتبسا ذلك من آيات سورة النبأ، وأصول العقيدة الاسلامية، والجوارح واللسان وحصاد الألسن، ومجالس الجنة، وشمولية الشريعة الاسلامية، ومنازل الشهداء، وموقف القران من الشعر والشعراء. ومما قاله في وصف قيام الليل:
وسير ركابك في زمرة …… هم القوم في الذكر مشتهروناذا الليل أقبل تلقاهم …… قليلا من الليل ما يهجعون(1)يبيتون في جوفه سجدا …… وبالسحر القوم يستغفرونتجافي جنوبهم في الدجى …… فهم للمضاجع هم يتركون(2)يقومون منها إلى وردهم …… فيا حسنهم حينما يردونحدائق آي القران الحكيـم …… هم بين أفيائها راتعونوبين اشتياق إلى جنة …… وخوف اللظى القوم هم ساهرونويدعونه تارة رغبًا …… وثانية رهبا أجمعونومما أفاء إلهي على …… أولئك من أجله ينفقونفلا تعلم النفس ماذا لهم …… من الأجر حقا بما يعملونفإن أنت تنظم في سلكهم …… بلغت الذي بلغ الواصلونأليس الحدود أخي طبقت …… بعهد محمد خير القرونولو كان من يؤمنون هم …… يعيشون عمرا ولا يذنبونلما أوجد الله سبحانه …… حدودا وذلك ليس يكونولو لم يكن من ذنوب لما …… تغشى سحاب الرضا المذنبينإذا ذكروا ذنبهم فرقوا …… وعادوا له بفؤاد حزينوقد جاء في سنة المصطفى …… حديث شريف به تعلمونومعناه لولا الورى يذنبـون …… ومن بعد ذلك يستغفرونلكان إلهي أذهبهم …… وجاء بقوم هم يذنبونويستغفرون فيغفر ما …… جنوه ويستر ما يكسبونفلا تحسبوا ذلكم دعوة …… إلى الذنب بئس الذي تحسبونفما ربكم بالخنا آمر …… أيامر بالفحش أنى يكونولكن إذا العبد اخطا في …… دناه وما أكثر المخطئينوعاد إلى الله في توبة …… يعود له أرحم الراحمينويغفر ما كان من زلة …… ومن غيره يقبل العاثرين؟
وتأتي السيرة النبوية مصدرا ثالثا حيث تعرض الشاعر في أكثر من موقف ومناسبة بالملحمة إلى أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم وإلى أقواله سواء قبل البعثة أو بعدها. ومن هذا قول الشاعر:
فان المساجد مظهرنا…… وميزتنا أمة المسلمينفإن نحن قمنا بواجبها…… على خير وجه ووضع يكونفسوف تؤدي وظائفها …… بأكمل وجه يرى العالمونأما دخل المصطفى ورأى …… صحبابته حلقا يحدقونفقوم هم يذكرون بها …… وقوم من العلم يغترفونوقوم هم يقرؤون القـرآن …… مناهل شتى لها يردونفاثنى على الكل ثم أنثنى …… لمن يقرؤون وهم يقرؤونوصار لحلقتهم، إنما…… مجال التعلم خير الفنون
وكان التراث العربي الإسلامي رآبع مصدر استقى منه الشاعر موضوعات اخرى في الملحمة. ومن هذه الموضوعات: الرياضة، وأعمال الفروسية، والسباحة، والسباق، والنوادي، والشعر، والغناء، وقصة هارون الرشيد مع السحابة، ووصف للدنيا من خلال ملك سليمان، وسقوط الممالك، وقصة عمر بن الخطاب رضي الله عنه حينما جاء للرسول صلى الله عليه وسلم بينما كان نائما على حصير، وقصة سليمان والنملة والرزق، وأبو بكر الصديق ومرتبته في الصحابة. ومما ستقاه الشاعر من التراث العربي الاسلامي قوله:
وبالعدل يصلح شأن الدنا…… ولو أن مالكها الكافرونفكيف إذا كان يملكها…… أولو العدل ممن هم مسلمونوبالظلم تفسد أحوالها…… ولو حاولوا ظاهرا يصلحونوإن الخليفة يحوى الدنا…… فينظر أقطارها بالعيونويسمع صوت الفتاة التي …… تنادى بجوف ظلام السجونفيسعفها بالخميس الذي …… يقوده بالبلق من غير هونويقتحم السور سورهم …… ويفتتح الحصن أعتى الحصونوتأتي الفتاة مكرمة …… ببغداد تحمى بأقوى القيونوما كان أرسل برقية …… لمجلس أمن كما يزعمون ولكن لباب السما وحده …… ولا غيره يشخص المؤمنونفيأتي الغياث لهم مسرعا …… قبيل ترد إليهم عيون
وكانت مشاهدات الشاعر وانطباعاته مما رآه أو سمعه في بيئته مصدرا آخرا أثرت منه ملحمته. ومن الموضوعات التي تطرق لها في الملحمة وحاول معالجتها على ضوء القواعد الشرعية: تصحيح خطأ النظرة إلى الأوائل، وعدم وجود مكان لليأس في حياة المسلم، ونظرة إلى تراث الغرب مع الحث على التمسك بالدين، إثبات وجود الله بواسطة آياته، مسألة الغناء، الحجاب، المرأة في الاسلام وحكم الاختلاط ، الشعر بصفة عامة والشعر الحر، مفهوم الجمال، الحضانة، استخدام الخادمات الاجنبيات، عمل النساء، الربا وأعمال البنوك، محور التربية، التصوير، الرسوم ومظاهر الحضارة الزائفة في اللباس والسفور. ومما قاله الشاعر في الجمال وموقفه منه:
أقول لمن خدعوا في الهوى …… وقالوا وقد أبدعوا في الفنونوقد غرهم ماجن قبلهم …… ببيتين ظلا عماد المجون”خلقت الجمال لنا فتنة” …… وقلت لنا يا عباد اتقونوأنت جميل تحب الجمال …… فكيف عبادك لا يعشقون”أقول: برا الحسن ذا فتنة …… وكل الذي في الحياة فتونوركب سبحانه شهوة …… وقال لنا يا عباد اتقونلينظر في الخلق سبحانه …… فيجزيهم بالذي يعملونوحكمته ليس يدركها…… سواه، وإنهم يسألونولا يسال الله عن فعله …… تعالى مدبر كل الشؤونوما حرم الحب سبحانه …… ولكن أكثرهم يجهلونبل الحب فينا له فطرة …… فطوبى لقوم به يولعون
للبحث صله
—————هوامش:—————(1) اقتباس من سورة الذاريات، آية 17 وآية 18 .(2) اقتباس من سورة السجدة، آية 16 وآية 17
————–ا
لمجلة العربيةالعدد: 149التاريخ: جماد الأخر – 1410 هـ – يناير (كانون الثاني) -1990 م
الناشر: المجلة العربية
– العدد: 149
تاريخ النشر: 01/01/1990م