كاد ابن الوردي، وهو الفقيه والنحوي والأديب والشاعر أن يكون في عالم الثقافة العربية الإسلامية نسيا منسيا لولا قصيدة حبرها لإبنه. ومنذ تحبيرها أصبحت هذه القصيدة، في محيط الشعر العربي، ملء السمع والبصر. ومهما كثر الشاعر، أي شاعر من أشعار من أجل الشهرة فتكفي قصيدة واحدة … إذا كانت جميلة ورائعة ومؤثرة أن تجعله في عداد الشعراء المشهورين.وفي تاريخ الشعر العربي شعراء مقلون إلا أن لهم قصائد مشهورة سارت بها الركبان وبسببها أصبح أصحابها في عداد الخالدين. وفي تاريخ الشعر العربي كذلك شعراء مكثرون إلا أن لهم قصائد مشهورة سارت بها الركبان وبسببها أصبح في عداد الخالدين. وابن الوردي من النمط الثاني وقصيدته هي من روائع الشعر، ويظهر فيها جمال اللفظ وروعة الأسلوب والبساطة وسهولة المعنى وسلامة المبنى ورنين الوزن والقافية. ومنذ حبر ابن الوردي هذه القصيدة وهي محل تقدير الشعراء والعلماء ومحبي الأدب عبر العصور، وكثيرا ما حفظت هذه القصيدة عن ظهر قلب لاسيما من قبل الناشئة نظرا لما بها من توجيهات تربوية ونصائح وحكم وبالنظر لما تمتعت به هذه القصيدة من شهرة فقد سميت بـ “اللامية” ونسبت من باب التوثيق إلى محبرها، وتصدى العديد من الأدباء لشرحها والتعليق عليها. يقول الشاعر في قصيدته مخاطبا ابنه:أي بني اسمع وصايا جمعت …. حكما خصت بها خير المللأطلب العلم ولا تكسل فما …. ابعد الخير على أهل الكسلواحتفل بالفقه في الدين ولا ….. تشتغل عنه بمال أو خولواهجر النوم وحصله فمن …. يعرف المطلوب يحقر ما بذللا تقل قد ذهبت أربابه ….. كل من سار على الدرب وصلفي ازدياد العلم إرغام العدى ….. وجمال العلم إصلاح العملجمل المنطق بالنحو فمن ….. يحرم الإعراب بالنطق اختبلقد يسود المرأ من غير أب …. وبحسن السبك قد ينفى الزغلوكذا الورد من الشوك وما ….. ينبت النرجس إلا من بصلقيمة الإنسان ما يحسنه ….. أكثر الإنسان منه أو أقلبين تبذير وبخل رتبة ….. بلغ المكروه إلا من نقلغب عن النمام واهجره فما ….. بلغ المكروه إلا من نقلدار جار الدار إن جار وإن ….. لم تجد صبرا فما أحلى النقل
فمن هو ابن الوردي؟ وفي أي عصر عاش؟هو عمر بن المظفر بن عمر الوردي المعري الشافعي. ولد في معرة النعمان بسورية عام 689 هـ ونشأ وتعلم الفقه والأدب على أيدي أساتذة له في المعرة وحلب وحماة ودمشق ومصر، وولي القضاء بمنبج وهي مدينة قديمة بشمال حلب. وبعد فترة تر القضاء زاهدا فيه، وله فيه مقطوعات شعرية. وأنصرف بعد ذلك يحترف الأدب والشعر وله فيه جولات وصولات، وتوفاه الله بالطاعون بحلب عام 749 هـ.ويقول صاحب كتاب “فوات الوفيات” عن ابن الوردي :- هو القاضي الأجل، الإمام الفقيه، الشاعر الأديب أحد فضلاء العصر وفقهائه وأدبائه وشعرائه، تفنن في العلوم، وأجاد في المنظوم والمنثور، نظمه جيد إلى الغاية، وفضله بلغ النهاية.ولأي=بن الوردي ديوان شعر، قام بتحقيقه الدكتور الهيب. وعن الشاعر قال المحقق:كان ابن الوردي إمام بارعا في اللغة والفقه والنحو والأدب مفننا في العلم ويؤيد ذلك مؤلفاته الكثيرة في شتى أنواع العلوم من نحو وفقه وتصوف وتاريخ وشعر وأدب وتفسير الأحلام وجغرافية وغيرها، وما نظمه فيها من منظومات فائقة مجيدة.وذكر محقق الديوان أن آخرين وصفوا شعر ابن الوردي بصفات هي: أن شعره أحلى من السكر المكرر وأعلى قيمة من الجوهر وأنه أسحر من عيون الغيد وأبهى من الوجنات ذوات التوريد وأنه جمع بين الحلاوة والطلاوة والجزالة.وخلص المحقق بعد هذه المقدمات إلى القول أن هذا التقدم في العلم والشعر جعل من ابن الوردي علما شهيرا حرص علماء عصره وشعراؤه وأدباؤه على أن يتصلوا به، وينالوا رضاه أو إجازته.ويعتبر ابن الوردي بحق أحد الأعلام الممثل لفكر وأدب عصره المملوكي وذلك في خصوص ما كتبه من نثر وحبره من شعر وهو شعر يغلب عليه طابع النظم.ولابد لكي نتعرف على أدب وفكر ابن الوردي أن نتناول باختصار وفي شيء من التبسيط أحوال العصر المملوكي الذي أمتد من عام 648 هـ إلى عام 923 هـ وذلك من الناحية السياسية والإجتماعية والثقافية.يتميز هذا العصر الذي عاش ابن الوردي في كنفه بثلاث ظواهر. تتعلق الظاهرة الأولى بضعف وتفكك أسس الثقافة العربية الإسلامية التي كانت سائدة في عصور ما قبل الحروب الصليبية. وساهم في هذا الضعف والتفكك كون ولاة هذا العصر من غير العرب إذ ترتب على هذا الوضع انصهار ثقافات غربية وافدة على الثقافة العربية الإسلامية من شمال شرق آسيا ومن منطقة شبه جزيرة الأناضول وجنوب غرب أوربا ومن أهم رموز هذه الثقافات دخول أنظمة إجتماعية وعقائدية جديدة لم تكن مألوفة بالمنطقة العربية الإسلامية من قبل كنظام الإقطاع الأوربي. ونظام التعمير ونظام الزخرفة والنقوش المعمارية في الأبنية والمساجد ودور العلم ورواج نزعات دينية هدامة كان من شأنها كثرة الخلافات المذهبية وانتشار الخرافات والبدع وامتهان مذاهب أهل السنة. وقد اثرت هذه الثقافات في الفكر الأدبي العربي حيث أصابته بضعف، وتجلت معالم هذا التأثير في بروز ألوان من الفنون الأدبية لم تكن مألوفة على نطاق واسع من قبل وكان من أهمها: فن الخطب الرسمية والرسائل الرسمية والرسائل الإخوانية من الشعر والنثر في مجال التهاني والتعازي والألغاز وفن اصطناع المصطلحات التعبيرية ذات المعاني الغامضة أحيانا مع التكلف والغلو في استخدام المحسنات البديعية كالطباق والتورية والجناس وانتشار اسلوب السجع والإزدواج والتضاد في الكتابة مع بروز الركاكة في التعبير واستخدام المهجور والميت من الكلمات في كثير من الأحيان. وتتعلق الظاهرة الثانية بتدهور الحالة الإقتصادية في المنطقة العربية الإسلامية وما صاحب هذا التدهور من آفات وكوارث طبيعية وصحية. أما الظاهرة الثالثة فتتعلق بحركة تدوين التراث. وهي ظاهرة تميز بها هذا العصر دون سائر العصور وعرف بعصر الموسعات. وكان الداعي لتدوين التراث تعويض ما فقده العرب من تراث علمي وأدبي وديني بسبب الدمار الذي أحدثه الإجتياح التتري. يقول في هذا الخصوص أحد الراصدين لحركة الأدب العربي ما يلي:”إن تخريب معالم الحضارة، ذلك التخريب الذي رافق الإجتياح التتري قد قضى على كثير من دور العلم ودور الكتب وأفقد العرب مئات الألوف من ذخائر تراثهم. من أجل ذلك كان من المنتظر أن تنشط حركة التأليف بعاملين أساسيين: (أ)بعامل الحاجة الى كتب تسد الكتب التي تلفت، ثم (ب) بعامل هو أن العلم كان ولا يزال برغم كثرة الكتب التي ألفت في الأعصر السابقة يقوم على الرواية. فأراد حفاظ العلم، بعد الإستعانة بما كانت ذاكرتهم لا تزال تعي، وبعد الإستعانة بالكتب التي نجت من الدمار أن يضعوا كتبا في الموضوعات المختلفة. من أجل ذلك لا يعجب أحدنا إذا رأي أن معظم هذه الكتب كان مجاميع كل مجموع منها في عدة مجلدات وخصوصا في الحديث والفقه والجغرافية والتاريخ والتراجم والسياسة والإدارة وفي العلوم الرياضيات والطبيعة ولا ريب في أن عصر المماليك كله كان عصر الموسعات (بضم الميم وكسر السين) في التأليف إما علما علما أو علوما – متقاربة أو متباعدة. في الكتبا الواحد.وكان من أهم رموز حركة التدوين رجال أعلام نالوا شهرة فائقة بل واحتلوا مكان الصدارة في تاريخنا العربي الإسلامي ومن هذه الرموز على سبيل المثال لا الحصر، ابن خلكان، والطوسي، والقزويني، وابن منظور، والنووي، وابن تيمية، والنويري، والسبكي، وابن كثير، وابن واصل، وأبوالفداء، والأدفوني، واليافعي، وابن هشام الأنصاري، والصلاح الصفدي، وابن عقيل، والنيسابوري، والسيوطي، والقلقشندي، وابن حجة الحموي، والفيروز أبادي، والعسقلاني، والبيضاوي، والنسفي، والطبري المكي، وابن النفيس.
الناشر: جريدة اليوم
– العدد: 7266
تاريخ النشر: 07/05/1993م