النظر إلى العمل الأدبي يختلف من شخص إلى شخص، وحتى بالنسبة للشخص الواحد من وقت لآخر. وهناك مجموعة من العوامل من شأنها التأثير على الشخص نفسه عند النظر إلى العمل من أجل الحكم له أو عليه.لقد ترتب على قراءتي المتكررة لقصيدة “ابن دريد” محاولة الكشف عن الجوانب التى تراءت لي من تلك القراءة مما حاولت التعبير عنه فيما سبق من حلقات، وربما يوجد من يختلف أو يتفق معي فيما نحيته. والنظر الذي سلَّطته على القصيدة من طبيعة تأملية وللإجتهاد دور كبير فيه. ولقد استعنتُ خلال مطالعتي، وإلى جانب كبير، ببعض كتب التراث التي تناولت القصيدة نفسها رغبةً مني أن يشاركني الغير ولو مشاركة وجدانية فيما وجدت أنه رائع وممتع.ومسك الختام، وحتى تكتمل الصورة على الأقل لدي، رأيت ضرورة تقديم نبذة مختصرة عن محبر القصيدة لا سيما أنني وسمت هذا البحث بعنوان:ـ وتكفي قصيدة واحدة، وقصدتُ من ذلك أنه تكفي قصيدة واحدة لتخلع على قائلها لقب شاعر ، بل وأن يعدَّ من فحول الشعراء. والمقياس في التجربة الشعرية ليس في كثرة الشعر وإنما في جودته حتى ولو كان قليلاً، بل وحتى لو تمحور هذا الشعر حول قصيدة واحدة . وقصيدة “ابن دريد” من هذا الضرب.فمن هو هذا الشاعر؟يقول “ابن خلكان ” هو:ـ أبوبكر بن الحسن بن دُريد الأزدي. ولد بالبصرة في عام 223هـ، وشب عن الطوق بها، ثم رحل إلى “عمان”، رجع بعدها إلى “البصرة”، ومن ثم رحل إلى “الأهواز” من بلاد “فارس ” حينما كانت تحت إمرة الشاه “عبدالله بن محمد بن ميكال” وابنه “أبي العباس اسماعيل بن عبدالله”. وتروي كتب التاريخ التي تناولت حياة “ابن دريد” أنه تمكن بفطنته وذكائه وسعة اطلاعه على علوم اللغة العربية وآدابها أن يكون قريباً من الأميرين لدرجة أنه حاز ثقتهما، وألَّف لهما كتاب “الجمهرة”، وهو معجم كانت له شهرة فائقة، وبسبب هذا الكتاب، وأعمال أخرى قام بها، قلَّداه “ديوان فارس”، فأثبت لهما أنه ذا مقدرة وكفاءة. ولم يبخلا عليه بشئ، بل أجزلا له العطاء. وليَرد الجميل تفتقت ذهنيته عن تحبير قصيدته “المقصوره” في مدحمها، فنالا من الشهرة بسببها بقدر ما نالته القصيدة نفسها. وعن ما أولياه إياه من تقدير بعد أن أَخَذ منه اليأس مأخذه، وعن المكانة التي حظي بها عندهما، وما تمتع به من نعم في كنفهما قال:ـ
حَاشَا الأَمِيريْنِ اللَّذيْنِ أَوْفَدَا ….. عَلَيَّ ظِلاً مِنْ نَعِيمٍ قَدْ ضَفَاهُمَا اللَّذانِ أثْبَتَا لي أَمَلاً ….. قَدْ وَقَفَ الْيَأْسُ بِهِ عَلَى شَفَاتَلاَفَيَا الْعَيْشَ الّذي رَنَّقَهُ ….. صَرْفُ الزَّمانِ فَاسْتَسَاغَ وَصَفاوَأَجْرَيَا مَاءَ الحيا لِي رَغَداً ….. فَاهْتزَّ غُصْني بَعد مَا كَانَ ذَوىهُمَا اللَّذَانِ سَمَوَا بِنَاظري ….. مِنْ بَعْدِ إِغْضائي عَلَى لذْعِ الْقَذىهُمَا اللَّذانِ عَمَرَا لي جَانِباً ….. بِشُكْرِ أهْلِ الأَرْضِ عنّي مَا وَفَىوَقَلَّدَاني مِنَّةً لَوْ قُرِنَتْ ….. حُسْوَةٍ فِي آذِيّ بَحْــرٍ قَدْ طَمَا
وبعد أن أفاض في الرعاية والحفاوة التي تمتع بهما في ظلهما، والمنة التي قلداه بها وهي مِنَّةٌ لو قرنت، على حد تعبيره، بشكر أهل الأرض بالنيابة عنه ما كان ذلك كافياً. يقول “بن دريد” عن الأمير وابنه:ـ.
إِنَّ ابْنَ مِيكَالَ الأَمِيرَ انْتَاشَنِي ….. مِنْ بَعْدِ مَا قَدْ كُنْتُ كَالشَّيء اللّقَىوَمَدَّ ضَبْعِيَّ أبُوالْعَبَّاسِ مِنْ ….. بَعْدِ انْقِباضِ الذَّرْعِ وَالْبَاعِ الْوَزَىذَاكَ الَّذِي مَا زَالَ يَسْمُو لِلْعُلاَ ….. بِفِعْلِهِ حَتَّى عَلاَ فَوْقَ الْعُلالَوْ كَانَ يَرْقَى أحَـدٌ بِجُــودِهِ ….. وَمَجْـدِهِ إِلى السَّمَاءِ لاَرْتَقَــىمَا إِنْ أَتَى بَحْرَ نَدَاهُ مُعْتفٍ ….. عَلَى أُوَارِ عَيْمَةٍ إِلاَّ ارْتَوَىنَفْسي الْفِدَاءُ لأَمِيرِي وَمَنْ ….. تَحْتَ السَّماءِ لأَمِيرِيّ الُفِدَىلاَ زَالَ شُكْري لَهُمَـا مُوَاصِلاً ….. لَفْظِــي أَوْ يعْتَاقَنِي صَرْفُ اَلْمُنَا
قال “ابن خلكان” في “الوفيات”:ـ كان “بن دريد” أمام عصره في اللغة والآداب والشعر الفائق.أما “ابن مسعود في كتابه “مروج الذهب” فقد قال عنه:ـ وكان “ابن دريد” ببغداد ممن برع في زماننا هذا في الشعر، وانتهى في اللغة ، وقام مقام “الخليل بن أحمد” فيها، وأورد أشياء في اللغة لم توجد في كتب المتقدمين، وكان يذهب بالشعر كل مذهب، فطوراً يجزل، وطوراً يرِق، وشعره أكثر من أن نحصيه أو نأتي على أكثره.وله قصيدة غزلية أورد “ابن خلكان” خمسة أبيات منها وهي:ـ
غَرَّاءُ لَوْ جَلَتِ الْخُدُودُ شُعَاعَهَا ….. لِلشَّمْسِ عِنْدَ طُلُوعِهَا لِمْ تُشْرِقِغُصْنٌ عَلَى دِعْصٍ تَأَوَّدَ فَوْقَهُ ….. قَمَرٌ تَأَلَّقَ تَحْتَ لَيْلٍ مُطْبِقَلَوْ قِيلَ لِلْحُسنِ احْتَكِمْ لَمْ يَعْدَهَا ….. أَوْ قِيلَ خَاِطُب غَيْرِهَا لَمْ يَنْطِقَوَكَأَنَّنَا مِنْ فَرْعِهَا فِي مَغْرِبٍ …… وَكَأَّنَّنَا مِنْ وَجْهِهَا فِي مَشْرِقِتَبْدُو فَيَهْتِفُِ لِلْعُيُونِ ضِيَاؤُهَـــا ….. الْوَيْــلُ حَـلَّ بِمُقْلَـةٍ لَـمْ تُطْبِقَ
وبجانب الشعر يعتبر “بن دريد” من المؤلفين بالجملة. له مؤلفات وتصانيف في اللغة وعلوم القران والحيوان. ومن أشهر مؤلفاته “الجمهرة” التي قال عنها “ابن عطار”:ـإن “ابن دريد” أملى “الجمهرة” دون الاستعانة بالنظر في شئ من الكتب إلا في الهمزة واللفيف، وبهذا ينفرد بين كل مؤلفي المعجمات قديماً وحديثاً وفي كل لغات العالم، ويمتاز عليهم بهذه الموهبة النادرة الفذة، فإملاء عالم معجماً يضمُّ عشرات الآلاف من المواد اللغوية من حفظه وعقله وعلمه دون الاستعانة بكتب حدثٌ عظيمٌ جديرٌ بالإعجاب، وعملٌ قمينٌ بأن يقدر صاحبة أعظم تقدير، وإن عمله ـ هذا ـ معجز لا يستطيعه أي عالم من العلماء الأئمة الراسخين، فما سمع قط عن مؤلف معجم صنع ما صنع هذه المعجزة النادرة إلا: ابن دريد.وتوفي “ابن دريد” في بغداد في عام 321هـ بعد أن خلف وراءه نفائس في لغة الضاد.
ــــــــــــــــــــــــــــ
الناشر: جريدة اليوم
– العدد:101147
تاريخ النشر: 22/02/2001م
* رئيس دارة الدكتور آل ملحم للتحكيم والاستششارات القانونية