من أوراقي المبعثرة :الثابت والمتغير في الشعر (1)

 

أهداني الأستاذ الأديب الشاعر أحمد فرح عقيلان كتابه “جناية الشعر الحر” في عام 1403 هـ. وقرأت الكتاب في حينه وعنت لي أفكار بعد قراءته، وظلت هذه الأفكار حبيسة في ملف أوراقي.وكانت معركة “الشعر الحر” وقت نشر الكتاب على أشدها إن لم تكن في ذروة مجدها حتى خيل لها أنها اكتسحت الساحة الأدبية في العالم العربي وآذنت بإقامة حفل لتأبين الشعر العربي.تعرفت على الأستاذ أحمد فرح عقيلان في عام 1377 هـ الموافق عام 1957 م حيث كان آنذاك مدرسا للغة العربية وآدابها بمعهد الأنجال بالرياض، وكنت وقت تعرفي به طالبا بالتوجيهية بالمدرسة الثانوية الوحيدة بالرياض والكائن مقرها في بيت ابن جبر بحي شلقه. وكان يجمعنا سكن واحد، وهو فندق الإقتصاد الكائن آنذاك بالحلة بشرق أمانة مدينة الرياض. واستفدت من تعرفي على الأستاذ عقيلان حيث وجدته ذا باع طويل في علوم اللغة العربية وآدابها، وفي معرفة مداخل الشعر العربي ومخارجه.وكنت ألتقي بالأستاذ عقيلان في بعض المناسبات. وكنت أستفسر منه عن أحوال الشعر الذي كانت لي محاولات فيه آنذاك. وكنت أجد منه عندما أعرض عليه أية محاولة شعرية تشجيعا منقطع النظير. وعرضت عليه ذات مرة قصيدة طويلة من تحبيري بعنوان “يوم الجزائر” فاستحسنها بعد أن أدخل عليها بعض التعديلات. وألقيت هذه القصيدة في الحفل الذي أقامته مدينة الرياض في قاعة حديقة أمانة المدينة بتاريخ 14/8/1377 هـ. ومن أبيات هذه القصيدة:
أهلا بشعب لا تلين قناته ….. حتى الممات أو الحياة لعزتهيوم الجزائر في الجزيرة دعوة ….. للبذل فابذل يا جواد لنصرتهيوم الجزائر منحة ملكية ….. دوى “سعود” بها العظيم كعادتهيوم الجزائر يا “رياض” تقدمي …… عزي الجزائر بالنوال وكثرتهيوم الجزائر يا “حسا” تقدمي …… سري الجزائر بالعطاء ووفرتهوكذا “القصيم” و”للحجاز” مناقب ….. أما “عسير” فما السباق بفائتهأهلا بمعط لا يمن ولا يني ….. يعطي الكثير مجاريا لسجيته
وتصفحت أوراقي فوقع بصري على كتاب الأستاذ عقيلان، وعلى الملاحظات التي سجلتها عنه بعد الفراغ من قراءته.وفي ظل حرية الرأي مناط العقل السليم رغب الأستاذ أحمد عقيلان من خلال كتابه أن يعد مرافعة أدبية. وهذه المرافعة لصالح الشعر العربي الذي أجمع الثقاة على أنه ديوان العرب ومستودع خزائنهم وحكمتهم وتراثهم الأدبي.وتستحق مرافعة الأستاذ عقيلان القراءة. وهي مرافعة بليغة ساقت الأدلة المقنعة من جيد النثر والشعر. وشاب هذه المرافعة، مع ذلك، ظاهرتان: وهما تأجج العاطفة وأثر الإنفعال. وهما ظاهرتان من الوضوح بثنايا الكتاب بحيث لا تكاد تتوارى عن عين القارىء. ولم يخف المترافع تينك الظاهرتين.ومن سيفرغ من قراءة هذه المرافعة المثيرة للجدل سيتذكر المثل القائل “لعل لصاحبها عذرا وأنت تلوم”. وكان لهذه المرافعة خصوم وأنصار، وكان من شأنها إثراء الساحة الأدبية بالنقاش الجاد والحيوي.وفي المرافعة دفاع عن الشعر العربي قوي وموثق بالأمثلة والأدلة وهو دفاع يتسم بهوى جامح. كذلك في المرافعة نقد لاذع لما يسمى بـ “الشعر الحر”. وهو نقد تتخلل جوانبه أمثلة من إنتاج رموزه من أمثال أودينيس والماغوط ويوسف الخال ومحمد عفيفي مطر. واستخدم المترافع في دفاعه مصطلحات من طبيعة شرعية أو قانونية مثل الجناية. وتقع الجناية في تقسيم قانون الجرائم في المرتبة الأعلى. وعدد المترافع حوالي أربع عشرة جناية. وسأكتفي باستعراض جنايتين منها وهما: الجناية التاسعة والرابعة عشرة.وعن الجناية التاسعة قال المترافع: الشعر الحر لا يعلق بالذاكرة، ولا يمكن أن تستعيده إلا وكتابه بين يديك، بينما الشعر الأصيل يمكنك أن تحفظه، ثم تنشده في خلواتك. وتدندن به في تهويمك، وتتمثل به في مجالسك وإنشائك ورسائلك لأن القوافي هي التي تسهل الحفظ. ولأمر ما أنزل الله جل وعلا القرآن الكريم بفواصل مقفاة لكي يسهل حفظه، وتلاوته، ويتيسر به الذكر في الخلوة والحضور.ويدلل المترافع على صدق مقولته قائلا: قرأنا أن أبا نواس كان يحفظ من غير شعره أكثر من عشرة آلاف أرجوزة، واعترف هو (أي أبو نواس) أن ذلك الحفظ أحكم فيه الموهبة وصقلها. وهنا يتساءل المترافع: هل كان يستطيع أبو نواس أن يحفظ شيئا لو ابتلي كما ابتلينا بالشعر الحر؟ومن تجارب المترافع حيث كان مدرسا لآداب اللغة العربية ما مفاده أنه حاول أثناء عمله في تدريس الأدب الحديث فرض حفظ بعض النماذج من الشعر الحر على طلبته وعلى أن تكون من ضمن أسئلة الإمتحانات، فأفاد بأن الطلبة وجدوا في ذلك مشقة كبيرة مع أنهم حفظوا برغبة وشوق عشرات القصائد من الشعر الأصيل.ويواصل الأستاذ أحمد عقيلان توضيح ما يقصد من محاربة دعاة الشعر الحر للقافية قائلا: لقد اتهموا القوافي بأنها كلمات متكلفة يحضرها الشاعر من بعيد ليضعها في أواخر الأبيات فتظل قلقة توحي بالتكلف، وتنال من صفاء التجربة، ونسوا أن الشاعر الفاهم للغة يمكن أن يجد مائة لفظ أو أكثر تليق بالقافية في جزالة أصيلة طبيعية لا يبدو معها أي تكلف..وليدلل على فساد هذا الإتهام أورد المرافع في نهاية تناوله للجناية التاسعة نموذجين قدمهما بقوله: وإني مورد هنا مقطعين أحدهما من قصيدة للبحتري والآخر لعروة بن أذينة .. وأتحدى أن تستبدل أية لفظة من القافية بأجزل منها ولو قلبنا كل لسان العرب:يقول البحتري:
إن قومي هم الكرام قديما …… وحديثا أبوة وجدودايحسن الذكر عنهم والأحاديث ….. إذا حدث الحديد الحديدافي مقام تخر من ضنكه البيض ….. على البيض ركعا وسجودافإذا المحل جاء، جاؤوا سيولا ….. وإذا النقع ثار، ثاروا أسودا
ويوقل عروة بن أذينة الشاعر الفقيه:
إن التي زعمت فؤادك ملها ….. خلقت هواك كما خلقت هوى لهابيضاء باكرها النعيم فصاغها …… بلباقة فأدقها وأجلهاحجبت تحيتها فقلت لصاحبي: ….. ما كان أكثرها لنا وأقلهافدنا وقال: لعلها معذورة ….. من أجل عاذلها، فقلت: لعلها
وعلق الأستاذ عقيلان على هاتين المقطوعتين قائلا: ولعل القارىء قد لاحظ أن القافية ليست قيدا أبدا لدى الشاعر المبدع المطلع الذي يجمع الأصالة والإطلاع اللغوي، بل هي موسيقى حلوة لو حذفت لفقد الشعر الشيء الكثير.وعن الجناية الرابعة عشرة أفاد المترافع بأن الدعابات الأدبية وقصص الأدباء والمناسبات الطريفة والنكت البلاغية الممتعة قد عصف بها الشعر الحر حيث من رأي المترافع أنه لم ير في الشعر الحديث مناسبة يمكن أن ترسم على الثغور إبتسامة لطيفة، أو تبعث في القلوب تفكهة نشطة. وساق المترافع نماذج شعرية لحكايات وقصص ظريفة مثل قصة المليحة في الخمار الأسود، وقصة ابن سكرة الهاشمي مع حبيبته العرجاء وقصة عمر بن أبي ربيعة مع أخيه الحارث بن أبي ربيعة، وقصة تغزل شاعر من ثقيف اسمه محمد النميري في زينب أخت الحجاج بن يوسف وهي تؤدي مناسك الحج، وقصة الشاب الظريف مع صديقه. وسأورد القصتين الأخيرتين لظرافتهما:تغزل شاعر من ثقيف اسمه محمد النميري في زينب أخت الحجاج بن يوسف فقال يصفها وزميلاتها وهن يؤدين مناسك الحج:
تضوع مسكا بطن نعمان إذ بدت ….. به زينب في نسوة عطراتتهادين ما بين المحصب من منى ….. وأقبلن لا شعثا ولا غبراتيخبئن أطراف البنان من التقى ….. ويقتلن بالألحاظ مقتدراتولما رأت ركب النميري أعرضت …… وكم من أن يلقنه حذرات
ويروى أن الحجاج ألقى عليه القبض، وقال له: لقد شفع لك قولك “يخبئن أطراف البنان من التقى”، ثم سأله كم كان ركب النميري من إبل وخيل في الموسم، فقال والله ما كان إلا حمارا أتعاقب ركوبه أنا وولدي.
ورأى الشاب الظريف صديقا له يكتم الجوى، وقد أثر فيه الهجر والفراق فكتب له هذه الوصفة الطبية:
لا تخف ما فعلت بك الأشواق ….. واشرح هواك فكلنا عشاققد كان يخفى الحب لولا دمعك ….. الهامي ولولا قلبك الخفاقلا تجزعن فلست أول مغرم ….. لعبت به الوجنات والأحداقواصبر على هجر الحبيب فربما ….. عاد الوصال وللهوى أخلاقفعسى يعينك من شكوت له الهوى ….. في حمله فالعاشقون رفاق
ويعلق المترافع على هذه النماذج قائلا: إن هذه النماذج وأمثالها مما يملأ بطون أمهات الكتب الأدبية لا تساوي في مقاييس دعاة التجديد شيئا لأنها على حد قولهم ليست من صف الكلام؟ ويتساءل المترافع عن فائدة الأدب إذا لم يحمل مع أفكاره إمتاعا وإثارة وطرافة؟


الناشر: جريدة اليوم

– العدد:6983

تاريخ النشر: 28/07/1992م

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.