إنه الأستاذ الشيخ عثمان بن ناصر الصالح المربي الكبير والأديب الأريب والذي كان العلم المتألق في ميدان التربية والتعليم في مدينة الرياض مديرا لمعهد الأنجال الشهير بها في الستينيات والسبعينيات والثمانينيات من القرن الهجري الماضي.كان هذا الرجل معلمًا من الطراز الأول مربيًا فاضلاً ومديرًا حازمًا.التقيت لأول مرة بهذا المعلم الجليل حينما كنت طالبًا بمدرسة الرياض الثانوية (الواقع في بيت آل جبر بحي الظهيرة) وذلك في الحفل الذي أقامته المدرسة لاختتام نشاطها السنوي عام 1377هـ. وكان مدير المدرسة الثانوية النواة آنذاك الأستاذ “أحمد بن محمد الجبير”، كما كنتُ وقتها رئيسا لمجلس إدارة طلبتها. وكان ذلك الحفل متواضعًا في مظهره لضعف الموارد المتاحة له، ولكنه كان ساميًا في معناه وجوهره. وخلال برنامج ذلك الحفل كان الشيخ عثمان وكأنه بين طلبته بمعهد الأنجال مشجعًا ومتعاطفًا وعلى وجهه علامات البشر والسرور. ولا أبالغ إذا ذكرت الآن أنني كنت أتخيله آنذاك بقلبين: قلب بمعهد الأنجال وقلب آخر بالمدرسة الثانوية بالرياض.وظل هذا المعلم القدير في الساحة التربوية كالعاشق المتيم محبًا للتربية والعلم والمتعلمين.وكان هذا الرجل بالمرصاد للطلبة المتفوقين سواءً منهم من كان بمعهد الأنجال أو من هو بالمدرسة الثانوية بالرياض حتى بعد تخرجهم حيث كان يراسلهم حيثما كانوا مشجعا لهم على مواصلة الدراسة وبذل الجهد في سبيل تحصيل العلم.وخلال مراحل دراستي خارج بلادي وبعدها كنت أتابع النشاط التربوي والأدبي لهذا المربي الجليل الذي تخرج على يديه رجال ساهموا، ولا يزالون يساهمون، في قيادة مسيرة بلادنا الخيرة كل في موقعه من حيث المسئولية سواء منهم من هو أمير لمنطقة، أو وزير على رأس مرفق، أو أديب مثقف، أو صحفي موهوب، أو رجل أعمال.وحتى بعد أن ترك هذا المعلم الساحة التربوية فإنه لم يزل معها بقلبه ودمه وفكره وأحاسيسه حيث لم تشده عنها وسائل البحث عن المال والغنى أو الرغبة في التواري عن الأنظار طلبا للراحة والدعة. لقد كان “أبو ناصر” بعد تركه للساحة التربوية أكثر حماسا وتعلقا بها من ذي قبل إذ ساهم قلمه الفياض في مجال الأدب والتوجيه التربوي حيث أثبت هذا القلم، وبجدارة أن صاحبه شاعر مجيد، ومرب واع، وذو اطلاع واسع في عالم الفكر والثقافة. وكنت، على سبيل المثال، أتابع ما ينشره هذا العلم في مجلة “المنهل” الغراء تحت عنوان “ملاحظات غير عابرة”. وهي ملاحظات قيمة أو هي بمثابة الموسوعة حيث تجد فيها ما لذ وطاب من القول الجيد الحسن. ففيها الطرافة في الاختيار والعرض، وفيها القصة المعبرة وأبيات الشعر الجميلة من مقول الشيخ عثمان أو منقوله، كما تجد بها ما اختاره من طيب القول المأثور شعرًا ونثرًا وذلك بالإضافة إلى التعليق المفيد والكلمة الصادقة المعبرة. وكم أتمنى على هذا المربي الجليل أن يجمع تلك الملاحظات بين دفتي كتاب لتستفيد منه الأجيال الصاعدة التي أحب وربى آباءها.وفي إحدى “ملاحظاته غير العابرة” وما أكثرها تحدث الشيخ عثمان عن لغتنا الجميلة أو لغتنا الخالدة في عام 1408هـ حيث قال (من بين أمور أخرى) مانصه: “كلتا الجملتين يصلح لأن نعبر بهما عن لغتنا الجميلة الخالدة التي لا يخلق ثوبها. ولا تزول أهميتها. ولا يتحول جمالها ما مر الزمان، وتعاقب الملوان. لكنا نحن الذين مع الأسف “والقول للمربي الجليل” تخاذلنا في دراستها.. طغى عليها غيرها مع أنها الثوب لكل العلوم.. واللباس الذي لم يزل قشيبًا.. إن العلوم التي تزاحمها، والمواد التي يتلقاها الطالب في مدرسته وفصله ليست هي السبب في هزالها في الأفكار، ولكن الذي جعل الطالب يتقاعس عنها.. ولا يقبل عليها ذلك أن المعلم لم يكن مؤهلاً فيها، ولا متعمقا في مفرداتها.. والادارة المدرسية التي هيأتها لم تكن واعية لها ولا متذوقة لطعمها .. جعل التعليم فيها أليًا سواء في مفرداتها أو نصوصها أو قواعدها حتى أصبح ما يدرسه الطالب في الخامسة (الابتدائي) لا يعاوده في (السادسة). وما يدرسه الطالب في المتوسط لا يكون مما يتذكره ويراجعه في الثانوي.. لأن المدرس نفسه يحفظ أبوابا ولا يتجاوزها إلى ما سبق…”وفي ملاحظات غير عابرة أخرى أورد قصيدة أخوية رقيقة من مقوله. وهي قصيدة تنم عن شاعرية خصبة. وقد وجَّه هذه القصيدة للأستاذ عبد الله بن حمد الحقيل وذلك بمناسبة تعيينه أمينًا عامًا لدارة الملك عبد العزيز رحمه الله عام 1406هـ وهي قصيدةٌ من بحر الوافر اقتطفت منها الأبيات التالية:
(أَبَاحَمَدٍ) عَمِـيدَ الْمُخْلصِينَا ….. وَيـَا شَيْخَا (بِسِيرَتِهِ) رَزِيـنَا(بِدَارَةِ) قَائِـدٍ فَـذٍّ عَظِـيمٍ….. صَعُدْتَ لَهَا فَصِرْتَ لَهَا أَمِيـنَانُهَنِّيكُمْ بِفَـوْزٍ فِـي مَجَـالٍ….. شَرِيفٍ مَـا تَزَالُ بِـهِ قَمِيـنَاوَكُنْتَ مُرَبِّيًا وِمُدِيـرَ عِلْـمٍ….. وَرَبَّيْتَ الشَّبِيبَةَ أَجْمَعِيـــنَاوَفِي دَرْبِ الثَّقَافَةِ سِرْتَ شَوْطًا….. وَفِي التَّدْرِيسِ قَدْ زَاوَلْتَ حِينَالِذَا أَهَّلْتَ نَفْسَكَ دُونَ شَـكٍّ….. لِتُصْـبِحَ رَائِـدَ الـرُّوَّادَ فِينَا
وكنت، ولا أزال، أتابع وبشغف كذلك ما ينشره هذا المربي في مجلاتنا وصحفنا كالمجلة العربية والجزيرة واليوم والرياض من تعليقات قيمة ذات طابع أدبي واجتماعي وتربوي ومنها على سبيل المثال تعليقاته حول “الطفل وكيف نربيه” التي نشرها في جريدة الجزيرة” الغراء بتاريخ 14 و18/جمادى الآخرة/1411هـ. وهي تعليقات تنم عن بصيرة نافذة رغب أن يرينا شيخنا فيها الداء والدواء والسلبيات والايجابيات في مجال تربية الطفل. لقد استهل تعليقاته متحدثا عن أهمية الطفل والطفولة وعما سيكون للأمة في المستقبل من تقدم وسمو إذا كان الطفل معتنى به خلقيًا وتربويًا وعلميًا وصحيًا. وفي هذا الخصوص يشيرالشيخ “عثمان” إلى أن الطفل “وديعة مهمة عند الأب والأم.. فإذا لم يعتنيا بهذه الوديعة والأمانة ويحافظ عليها ستصبح الأمانة نقمةً.. والوديعة خسارةً ومن ثم يؤولان إلى عبء على الأسرة في شخصية هذا الطفل المضاع.كذلك يمضي الشيخ “عثمان” ليتحدث عما ستتحول إليه هذه الوديعة إذا أصبحت خسارة حيث ستمسي “لبنة منهارة في المجتمع ونكبة سوداء في جبين البلد”.. إن الطفل الذي لا يجد أمَّا تربيه ولا أبا يحميه يصبح كما يقول الشاعر:
لَيْسَ الْيَتِيمُ مَنْ انْتَهَى أَبَوَاهُ ….. مِنْ ذِلِّ الْحَيَاةِ وَخَلَّفَاهُ ذلِيلاَإِنَّ الْيَتِيمَ هُوَ الذِي تَلْقَى لَهُ ….. أُمّـَا تَخَلَّتْ أَوْ أَبًا مَشْغُولاَ
أن تعليقات الشيخ عثمان “حول الطفل كيف نربيه لنجعل منه رجلاً صالحًا وامرأةً صالحة” هي تعليقاتٌ شيقةٌ وممتعةٌ وجديرةٌ بالاهتمام.إنني أهمس الآن في آذان طلبة هذا المعلم الجليل ومنهم أمراء ووزراء وقادة رأي وفكر بأن يتحركوا لتكريمه في أحد أندية الأدب ببلادنا وذلك وفاءً وعرفانًا لما قدمه ولا يزال يقدمه لوطنه حيث في تكريم هذا المعلم تكريم للعلم والتربية والأدب.
تكريم معلم: مقالة بقلم معالي الدكتور محمد آل ملحم في “مساحة للتفكير” في جريدة “الجزيرة” في العدد رقم 6674، وتاريبخ 20/6/1411هـ الموافق 6/1/1991 م
الناشر: جريدة الجزيرة
– العدد:6674
تاريخ النشر: 6/1/1991 م