محطات في حياتي

هذه محاضرة لمعالي الدكتور محمد الملحم عميد كلية التجارة الأسبق، وزير الدولة وعضو مجلس الوزراء السابق ألقاها في مجلس الشورى متحدثاً عن ذكرياته أمام أعضاء وعضوات المجلس وفيما يلي نصها:

كم أنا مسرور أن أرى كوكبة من المؤهلين من ذوي الكفاءة تحت قبة مجلس الشورى الذي عايشتُ وضع مشروع نظامه في السنوات الخوالي.

وكم أنا مسرور أن أجد أنّ «مجلس الشورى» يحتل مكانه اللائق به «كمؤسسة استشارية» لمجلس الوزراء يُجاهد ويُنافح في أمانة وشفافية في إطار اختصاصاته المنصوص عليها في نظامه.

وباعتباري كنتُ المكلَّف بوضع مشروعي نظامي»الحكم الأساسي» و»مجلس الشورى» بعد صدور الأمر الملكي في عام 1400هـ بإنشاء اللجنة العليا لوضع أنظمة «الحكم الأساسي» و»الشورى» و»المقاطعات» فأودُّ في هذا الإطار أن أتحدث لكم عما تم بشأن هذه الأنظمة وبالذات نظاما «الحكم الأساسي» والشورى». وحديثي لكم أيها الإخوة والأخوات من شِقين: الأول سوف أتناول فيه ما كان يتم في ظل عدم وجود «مجلس للشورى» من إجراءات في شأن «الوضع التشريعي»في المملكة منذ عام 1373هـ وحتى عام 1412هـ. أما الشق الثاني فسوف أتناول فيه ما تم في إعداد مشروعات نظام الحكم الأساسي ونظام الشورى ونظام المقاطعات بدايةً من عام 1400هـ وحتى تم وضع المشروعات الثلاثة موضع التنفيذ بصدور مراسيم ملكية بإقرارها وذلك في عام 1412هـ.

وقبل الحديث عن هذين الشِّقين أرغبُ أن أمهِّد لهما بأِمرين مهمين. الأول: وفيه أود أن أفصح عن قناعة شخصية تامة عندي أحكمتها تجارب مرَّت عليَّ على مدى نصف قرن أو أكثر وهي أن أي مشروع يهدف إلى تطوير مجتمعنا ولا سيما بالأخص إذا كان يتعلق «بالشأن القانوني»أن يَبدأ العمل به في هدوء تام ودون الجري وراء الشهرة ولا عِشقِ الأضواء. وبالنسبة لي كان الهدوء ديدني والعمل ما أمكن في مثل هذا المشروع على نار هادئة.ولقد تحقق النجاح لي في مثل هذا المجال. أمَّا الأمر الثاني فيتعلق بمحطات مهمة في حياتي وذات دلالة على هوايةٍ كنتُ أرغب تحقيقها بحب حقيقي جامح وهي «دراسة القانون»، وكان الداعي لها قصة استفدتُ منها كثيرًا، وتناغمت مع الهوى الذي كان لدي وأنا طالب في السنة الثانية «بمدرسة الأحساء الثانوية» في عام 1374هـ، وستكون هي «المحطة الأولى»الأساس التي سأروي فيها ما حدث، ومناسبتها كانت زيارة الملك سعود -رحمه الله- لمقاطعة الأحساء في عام 1374هـ بعد تتويجه ملكًا حيث أقام الأهالي له حفلاً بهيجاً «بحي محاسن» بمدينة الهفوف تبرع فيه جلالته بمبلغ نقدي يُمْنَحٌ» كسلف زراعية» لملاك المزارع في «مقاطعة الأحساء» لتعمير مزارعهم، وعُهِدَ بإدارة التبرع «لمالية الأحساء»، وكان من شروط تقديم «السلفة» لأي مزارع أن يرفق ضمن معروضه لإدارة المالية صك ملكية النخل أو المزرعة أو أي وثائق معتبرة وفق التعليمات السعودية التي لدى «كتابة العدل» حتى يتسنَّى تقديم السلفة له. وكنتُ من ضمن عشرة طلاب من المدرسة الثانوية نعمل «بمالية الأحساء» عصرا بصفة «ملازمين» إذ كان دوام موظفي المالية وقتها على فترتين في اليوم صباحًا وعصرا. ونظرًا لضغط العمل على «كتابة عدل الأحساء» لاستخراج صكوك جديدة لملاك الزارع مُستنسخةً من صكوك معظمها مسجلة باسم «الخلافة العثمانية» التي كانت صاحبة الأمر والنهي في «مقاطعة الأحساء» التي كانت تسمى «سنجق» حتى عام 1331هـ فقد طَلَبَتْ إدارة كتابة العدل من «مالية الأحساء» أن تستعين ببعض الملازمين. وكنتُ من بين ثلاثة تَمَّ توجههم للعمل بكتابة العدل. لقد أمضيتُ في كتابة العدل أسابيع منهمكًا في نسخ وثائق وصكوك ملكية مكتوبة بحروف صغيرة يَصعبُ عليَّ قراءة بعضها. عانيت الأمرين في هذه المهمة، ولقد استفدتُ كثيرًا من هذه التجربة التي رسَختْ في ذهني رغم صغر سني،يستحيل عليَّ نسيانها، إذ أثرت فكري من الناحية الشرعية والانونية، وتزودتُ من خلالها بمعلومات لم أكن أعرفها مِن قبلُ عن الوصايا الأهلية المعدة وفقًا لمذاهب أهل السنة الأربعة ناهيك عن مذهب الاثني عشر الجعفري الشيعي. وكان مما يرد في هذه الوصايا على سبيل المثال قراءة جزء أو أجزاء من القرآن الكريم على القبور أو في المساجد أو في البيوت، وكذا شروط النظارة على الأوقاف الأهلية، وكذا على المساجد ودور الوعظ والإرشاد والأربطة، وكذا المواريث، وطرق توزيعها، ووسائل التملك للأوقاف. وقد أدَّيت مهمتي بأمانة وإخلاص في «كتابة عدل الأحساء». وتمضي السنون وحينما كنتُ طالبًا في السنة الثانية بكلية حقوق جامعة القاهرة أدركت الغرض الحقيقي من منح «السلف» لملاك المزارعين في «مقاطعة الأحساء» بموجب صكوك ملكية جديدة وفق التعليمات السعودية وذلك حينما درستُ»باب الإرث الدولي» أو «خلافة الدول» في مادة «القانون الدولي» التي كان يُلقي محاضراته علينا في مدرج العميد «بدر» أستاذي الدكتور حامد سلطان. إذ كان الغرض من دفع «السلف»وقتها هو تحويل الصكوك والوثائق العثمانية إلى صكوك ووثائق وفقا لتعليمات سعودية جديدة وذلك بعد أن استولى الملك عبدالعزيز -رحمه الله- على»الأحساء» لتكون «مقاطعة سعودية» في عام 1331هـ بعد أن كانت تُسمى «سنجقًا» باللغة التركية..

وأمَّا عن «المحطة الثانية» فهي تتعلق بعلاقتي بسمو الأمير «نايف بن عبدالعزيز» حينما عُيِّنَ نائبًا لوزير الداخلية في عام 1390هـ وحينما عينتُ في العام نفسه مدرسًا «للقانون» في كلية التجارة بجامعة الرياض حاملاً درجة الدكتوراه في «علم القانون»من كلية حقوق جامعة ييل الأمريكية.

تسلمتُ صورة خطاب من وكيل جامعة الرياض آنذاك سعادة الدكتور عبدالعزيز الخويطر موجهًا أصله لسمو نائب وزير الداخلية الذي طلب سموه من الوكيل الاستعانة بخبرتي للعمل بوزارة الداخلية كمستشار قانوني غير متفرغ بجانب عملي «مدرسًا» في كلية التجارة في عام 1391هـ.. وتعاونتُ مع سموه منذ أن كان نائبًا لوزير الداخلية وحتى مبايعته وليًا للعهد. ويقرأ نص الخطاب كالتالي.

الرقم 4476 – 2 وتاريخ 24 – 6 – 1391هـ

صاحب السمو الملكي نائب وزير الداخلية

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد:-

أشير إلى خطاب سموكم رقم 130171 – 2906 – 4 وتاريخ 22 – 6 – 1391هـ حول رغبتكم الاستفادة من خبرات الدكتور – محمد بن عبداللطيف الملحم – المدرس بكلية التجارة – في حقل اختصاصه لمدة ثلاثة أشهر قابلة للتجديد على أن يباشر العمل في أقرب فرصة.

يسرني إحاطة سموكم بموافقة الجامعة على انتدابه للعمل خارج أوقات الدوام الرسمي للمدة المطلوبة، راجيا الإيعاز للجهة المختصة بالوزارة لتزويد الجامعة بمقدار ما يُصرف لسيادته، علمًا بأنه يتقاضى راتبًا قدره 1815 ريالاً ومكافأة تدريس 1400 ريال شهريا بالإضافة إلى بدل الانتقال الشهري البالغ 400 ريال، ولسموك تحياتي وتقديري.

وكيل الجامعة: عبدالعزيز الخويطر

صورة لسيادة الدكتور محمد الملحم رجاء الإحاطة.

ومنذ أن تلقيت صورة خطاب سعادة وكيل الجامعة باشرت العمل في وزارة الداخلية على فترات، وفي المساء أحيانًا، وأنا في كليتي «مدرسًا» للقانون. ولقد تبين لي، كما سيأتي، أن وزارة الداخلية كانت تحتضن شتى أنظمة (قوانين) ذات علاقة بشتى طوائف المجتمع. وهي أنظمة (قوانين) كانت في حاجة ماسة إلى ترتيب بغرض التطبيق. وكان المشكل وقتها أن مُسَمَّى «نظام» كان مستحبًا ومقبولا. أما أن تُطلقَ على أي «نظام» أنه «قانون» فهو محل استنكار. والسؤال لماذا ذلك الاستنكار؟ من السهولة بمكان أن تجد الإجابة عليه بسهولة في ثقافة المجتمع السائدة وقتها. ثقافةٌ كانت،فيما قبل عام 1390هـ وما بعده، تشمئز من ذكر مصطلح «قانون»، أو حتى من مجرد لفظه لاعتبارات دينية الحديث عنها ليس هنا محله، ناهيك عن عدم وجود مَنْ يُشَجِّعُ مَنْ يَرْغَبُ في دراسة القانون.وفي حقيقة الأمر، ومن منظار تجربتي الشخصية،كانت كلمة «قانون» وقتها من المصطلحات غير المرغوب فيها، إن لم تكن مستنكرة، كما كان مَنْ يُظْهِرُ لمن حوله من أنه يُدَرِّسُ «قانون»كان لا يلقى الاحترام اللائق به، بل ربما تحوم حوله شبهات. هكذا كانت ثقافة المجتمع آنذاك.

ومما خفف من الوطأة أن سمو الأمير «نايف بن عبدالعزيز» وفي أول لقاء تلفزيوني له حينما كان نائبًا لوزير الداخلية، وأنا مستشار عنده غير متفرغ، قد حاورته وأنا مدرس «للقانون» وقد استخدمت مصطلح القانون في ذلك اللقاء الذي كان يضم كل من: الأخ الصديق محمد علي حافظ مدير شركة المدينة المنورة للطباعة والنشر ونائب مدير عام مؤسسة المدينة للصحافة التي تصدر «جريدة المدينة المنورة»والأخ الصديق الدكتور عبدالرحمن الشبيلي مدير التلفزيون وقتها، الذي كان يدير الحوار. تحدث سموه في اللقاء عن طموحاته بعد توليه نيابة وزارة الداخلية في تطوير مرفق الوزارة، وعن فتح أبوابها للمثقفين من أبناء الوطن للعمل فيها، كما أعلن سموه، صراحةً وفي شفافية تامة، أن «الشريعة الإسلامية» هي «القانون» المطبق في «المملكة». وهكذا استخدم سموه مصطلح «قانون».. مبدِّدًا الشكوك والأوهام التي أحاطت بهذا المصطلح. ما فعله سموه كان محل ارتياح لي وأنا مدرس «قانون»في «كلية التجارة» وقتها. وكان ذلك الحوار منذ حوالي خمسين عاماً أو أكثر.

كان سير الحياة العامة في «كلية التجارة» بجامعة الرياض في عهدي كمدرس للقانون فيها، ومن ثم عميدها يَتَعَرَّضُ على فترات لعواصف كادت تودي بالكلية، ولكنها عواصفٌ كانت بمثابة سحب صيف. تعرَّضت «كلية التجارة» لهجوم أو عاصفة مدوية من طبيعة «دينية» و»سياسية»»وأيدولوجية» لا مُبَرِّرَ لها، ولسبب بسيط وهو أن الكلية كانت تتميز بمناهج من بين كليات الجامعة حُسِدَتْ عليها، ومن بينها منهج يتضمن تدريس «علوم قانونية»، والحسد ظاهرة معروفة في الطبع الأكاديمي الجامعي.هناك من تناول عقيدة طلابها مشكِّكًا فيها، وكان الهجوم من أكثر من جهة. أُمْطِرَتْ الكلية بوابل من النقد لأنها تُدَرِّسُ قوانين لم تعهدها البلاد مِنْ قَبْلُ،.كما كانت تُدَرَّسُ بالكلية موادٌ من طبيعة سياسية، والخوض في «السياسة «كان محل ريبة وشك وقتها؛ كما قِيلَ إن حصص الثقافة الإسلامية في مناهج الكلية قليلة جدًا، وكان هذا بيت القصيد، وكان الغرض منه تكثيف مواد الثقافة الإسلامية في مناهجها ليقوم بتدريس موادها أناسٌ من خارج المملكة. كان الهجوم كما لو كان مُبرمجًا. بدأ الهجوم بمناسبة انعقاد «مؤتمر رسالة الجامعة» في مقر الجامعة في عام 1394هـ، وكانت كل كليات الجامعة ممثلة فيه، وكان المؤتمر كما لو كان مخصصًا «لمحاكمة كلية التجارة»، وكنتُ باعتباري «عميدا» للكلية مِمَّن حَضَرَ بعض جلسات المؤتمر، ولكنني قاطعتها بسبب لغط سمعتُه شخصيًا. وفي العدد الثالث والعشرين من السنة الثانية من «نشرة الطالب» التي صدرتْ في عام 1394هـ (وهي نشرة تصدر نصف شهرية من إعداد اللجنة الثقافية بالكلية، والنشرة بحوزتي الآن) أجاب الدكتور «محسون جلال»أستاذ مادة الاقتصاد، ومنظر الاقتصاد في المملكة على سؤال وجَّهه إليه «المعيد» بالكلية «عبدالله عابد»، ومؤدى السؤال هو: يُقال إن الكلية اتُّهِمَتْ ببعض التهم في «مؤتمر رسالة الجامعة»، وأظنك على علمٍ بهذه التُّهم، فما هي وجهة نظرك حيال هذه التهم؟ كانت إجابة «الدكتور محسون» التي نُشِرَتْ في «نشرة الطالب» الصادرة بتاريخ 16-11-1394هـ كما يلي: «سمعتُ شيئًا عما دار في بعض اجتماعات المؤتمر، ولا أعتقدُ أن تُهمًا وُجهتْ لِلكلية لأن من وَجَّهَ تهمًا للكلية، وتهجم عليها فإنما يتهجم على «مؤسسة علمية وطنية» هي في خدمة الدين والملك والوطن. ولا أدري كيف يَتَهَجمُ أَحَدٌ على «كلية التجارة» وهي أولى كليات الجامعة التي تخدم الدين الحنيف،تُثْبِتُ أنه صالح في كل مكان وزمان. ومن المعروف أن «كلية التجارة» هي الكلية الأولى في الجامعة من حيث تدريسها للمواد الإسلامية، والمواد التجارية الإسلامية، ويكفي إلقاء نظرة على «دليل الكلية». فإلى جانب تدريس «الثقافة الإسلامية»، هناك موادٌ في الاقتصاد الإسلامي، وموادٌ في «نظام الحكم والإدارة في الإسلام»، وموادٌ عن مشكلات العالم الإسلامي المعاصرة، وموادٌ عن تاريخ المملكة (وبلادها منبع الإسلام)، وموادٌ عن تاريخ الخليج ومشكلاته وهذا متصلٌ بالتاريخ الإسلامي، وغير ذلك من المواد التي تخدم الدين والوطن. وتُدرَّس في الكلية أيضًا النظم التجارية والإدارية التي تسير عليها المملكة، وهي نظمٌ صدرت بها مراسيم ملكية. ولا أعتقد أن ما دار بالمؤتمر هو اتهام للكلية لأن من يتهم الكلية فهو يتهم «مجلسها» لأنه هو الذي وضع المناهج، ويتهم «مجلس الجامعة» لأنه دَرَسَ المناهج بالتفصيل ووافق عليها، ويتهم «مدير الجامعة» لأنه رئيس الجامعة الذي وافق على المناهج، ويتهم «الرئيس الأعلى للجامعة» لأنه هو الذي اعتمد المحاضر التي ضمَّت المناهج (وكان معالي فضيلة الشيخ حسن بن عبدالله آل الشيخ هو الرئيس الأعلى). لذلك لا أعتقد أن ما دار في الاجتماعات هو اتهامٌ لكلية التجارة، وكيف يتجرأ أحد على اتهام كلية في جامعة الرياض وهي أكبر وأقدم جامعات المملكة تخدم الدين، وتخدم الملك، وتخدم الوطن؟ و»كلية التجارة» هي في «جامعة الرياض» في «المملكة العربية السعودية»، وليست في «جامعة عبرية».

وجاء الهجوم على «كلية التجارة» من أربع فئات: (1) من الأمانة العامة للندوة العالمية للشباب الإسلامي التي اتخذت في الرياض مقرًا لها، و(2) من قسم «الثقافة الإسلامية» الذي كان مقره بكلية التربية في الجامعة، وهو القسم الذي كان همه الوحيد صبّ جام غضبه على «كلية التجارة» التي سماها وكيلها «أسامة عبدالرحمن» «كلية التعساء». بحجة أن مواد الثقافة الإسلامية في مناهج كلية التجارة قليلة جدًا، وأنه من اللاَّزم تكثيف مواد الثقافة الإسلامية بها من قبل القسم، وكان من المهيمنين على القسم مدرسون من الإخوان المسلمين الذين كانوا يرغبون تزويد الكلية بمدرسين من قبلهم في الثقافة الإسلامية من الخارج، و(3) من قلة من خارج الكلية ممن كانوا متعاطفين مع الأستاذ المساعد الدكتور «غازي القصيبي بقسم العلوم السياسية عندي، ومن المعلوم وقتها أن الزميل الصديق غازي قد أُبْعِدَ عن «عمادة» الكلية بسبب ديوانه «معركة بلا راية»، و(4) من بعض طلبة العلم من ذوي الثقافة الدينية المحدودة الذين إذا قيل لهم إن القانون يُدَرَّسُ في الكلية: قالوا: قانون…. قانون…. والعياذ بالله.. وكان دفاعهم مجرد ترديد للآيات الكريمة التالية من سورة المائدة. قال تعالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (44) سورة المائدة، {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (45) سورة المائدة،{وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فِيهِ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (47) سورة المائدة. وقال تعالى: {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ * أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (49-50) سورة المائدة، وقال عز وجل: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} (65) سورة النساء.كانوا يقولون حكم الله هو أحسن الأحكا، وهو الواجب الإتباع، وبه صلاح الأمة وسعادتها في العاجل والآجل، وصلاح العالم كله، ولكن أكثر الخلق في غفلة عن هذا. وكنا نقول لهؤلاء أنه لم يثبت أننا في «كلية التجارة»كنا نُطالب في مناهج الكلية استبدال «الشريعة الإسلامية» بالقوانين الوضعية لتحُل محلها.

أرَّخ وكيل الكلية أستاذ مادة الإدارة العامة الدكتور «أسامة عبدالرحمن» لهذه الحقبة المريرة ذات الأبعاد السياسية وأنا عميدها وهو وكيلها في ملحمة له من أبياتها:

كُلِيَّةٌ لَوْ رَأَوْ غَدْرَ الزَّمَانِ بِهَا

لَمَا رَمُوهَا بِمَا يَرْمُونَ مِنْ كَذِبِ

قَالُوا وَقَالُوا وَسَامُوها بِأَلْسِنَةٍ

سَوْمًا منَ الشَّكِّ وَالْبُهْتَانِ وَالرِّيَبِ

ظَنُّوا بِهَا السُّوءَ إِفْكًا يَأْثَمُونَ بِهِ

وَلـْم يَكُفُّوا عَنِ التَّجْرِيحِ واللَّغَبِ

كَأَنَّ فِيهَا «أَبُوجَهْلٍ» وَزُمْرَتُهُ

يُحَاضِرُونَ نَبِيًا مِنْ أَبِي لَهَبِ

وَالْمُلْحِدُونَ وَمَنْ سَارَتْ سَرِيرَتُهمْ

وَالْفَاجِرُونَ وَأَهْلِ اللَّهْوِ واللَّعِبِ

وقال «أسامة» عن كليته: إنها يتخرَّج فيها طلابٌ أذكياء نجباء سيتقلَّدون مناصب عليا في الدولة، ناهيك عن أنهم بعد تخرجهم سيكونون أخوة أباة، عقيدتهم سليمة، وتربُّوا في تربة طيبة مبناها عقيدة التوحيد السلفية النقية الصافية، وكان الأولى بالكلية ما دام هؤلاء طلبتها، ومن ثم خريجيها، أن تكون مَحَلَّ تكريم، لا مَحَلَّ مَذَمَّة وتجريح.عن طلبة الكلية قال أسامة:

وَهُمْ هُمُو إِخْوَةٌ طَابَتْ سَرِيرَتُهمْ

وَأنْصَفُوا الْحَقَّ إِنْصَافًا وَلَمْ يَخِبِ

وَهُمْ أُبَاةٌ إَذَا ضَيْمٌ أَلَمَّ بِهِمْ

هَمُّوا سِرَاعًا أَبٌ هَبَّ خَلْفَ أَبِي

وَهُمْ هُنَا نَشَأُوْا فَالدِّيـنُ دِينُهُمُو

رَأْسٌ وَتُرْبَتُهُمْ منْ أَطْهَرِ التُّرَبِ

وَمَنْ تَخَرَّجَ مِنْهَا كَانَ مَفْخَرَةً

غَذَّى وَزَارَاتِنَا بِالْقَادَةِ النُّجُبِ

قَدْ كَانَ أَوْلَى بِهَا التَّكْرِيمُ لَوْ عَرَفُوا

كَمَا عَرَفْنَا ظُرُوفَ الْعَرْضِ وَالطَّلبِ

أما عن أحوال أساتذة الكلية، ونشاطهم الأكاديمي، ناهيك عن أحوال طلابها، وبالأخص طلاب السنة الأولى الذين كانوا يدرسون بِقَبْوِهَا المُظلم فقد قال أسامة عنهم….وعنها.

فَاسْأَلْ أَسَاتِذَةً يَحْيَوْنَ دَاخِلَهَا

حَيَاةَ بُهْمٍ بِأَكْشَاكٍ مِنَ الْخَشَبِ

وِكُلُّهُمْ فِـي اقْتِصَادٍ أَوْ مُحَاسَبَةٍ

يُحَاضِرُونَ عَنِ الْبَتْرُولِ وَالذَّهَبِ

وَفِي الإِدَارَةِ نَحْكِي عَنْ مَشَاكِلِهمْ

وَنحْنُ نَقْتَاتُ مَا فِي الصَّيْفِ مِـْن لَهَبِ

وَفِي السَّيَاسَةِ نَحْكِي عَنْ مَشَاكِلِهمْ

وَنَحْنُ مِنْ «قَبْوِنَا» الْمَوْبُوءِ لَمْ نَطُبِ

وكما سبق القول عند الحديث عن «ثقافة المجتمع» منذ حوالي خمسين عامًا حيال مصطلح «القانون»، وحيال ما يحيط بمَنْ يَدْرِسُ أو يُدَرِّسُ «القانون» من شكوك، وهو حال تفرد فيه سمو الأمير نايف ليعلنَ في صراحةً وفي شفافية تامة وقتها أي منذ خمسين عاماً مضت أن «الشريعة الإسلامية» هي «القانون» المطبق في «المملكة». وهكذا استخدم سموه مصطلح قانون.. مبدِّدًا الشكوك والأوهام التي أحاطت بهذا المصطلح.

والسؤال الآن هو عن حال ثقافة المجتمع القانونية في عام 1439هـ بعد مضي الفترة المشار إليها أي منذ خمسين عاماً مضت؟ وعن مدة تقبل المجتمع للثقافة القانونية؟

للحقيقة والتاريخ أود القول أن سمو الأمير»نايف بن عبدالعزيز» قد سَبَقَ جيلَه بأجيال.. وَسَبَقَ مجتمعه بمراحل».

وفي أيامنا المعاصرة تحوَّلت «كلية التجارة» بعد انشطارها إلى كليتين: كلية «للعلوم الإدارية» وكلية «للحقوق والعلوم السياسية». وقد تخرج في كلية «الحقوق والعلوم السياسية» إناث في الحقوق (أي القوانين) من بنات الوطن، وبعضهن مُرَخَّصٌ لهن الآن من «وزارة العدل» للمحاماة في ساحات المحاكم. كما أن كليات الحقوق أو القانون انتشرت في جامعات المملكة كانتشار النار في الهشيم. والفضل يرجع «لكلية التجارة» «كلية التعساء» كما سمَّاها وكيلها الملهم المخضرم يرحمه الله «أسامة عبدالرحمن» في ملحمته.

رحم الله الأمير نايف بن عبدالعزيز الذي عبَّر عن طموحاته، عن رؤاه ورؤيته في تطوير شؤون وزارة الداخلية كما عايشتُها باعتباري مستشاراً غير متفرغ فيها.

كان سموه ينظر للمستقبل، وليس للخلف، وسبحان مغير الأحوال.

في عام 1390هـ كان مدرس القانون في الكلية لا يعلن للكافة أنه «مدرس قانون».

وفي عام 1438هـ إناث من بنات الوطن يرغبن أن يكن معيدات في «علم القانون» بعد تخرجهن من كلية الحقوق والعلوم السياسية في الكلية.

أما عن «المحطة الثالثة «فسوف أتناول فيها، وباختصار، عن علاقتي وأنا مدرس قانون في كلية التجارة بوزارة المالية والاقتصاد الوطني حيث تلقيت خطابًا من عميد الكلية في عام 1390هـ عن رغبة وزارة المالية والاقتصاد الوطني أن أعمل بها مستشارًا غير متفرغ. يقرأ نص الخطاب كالتالي:

الرقم 1846/10 وتاريخ 8-9-1390هـ

سيادة الدكتور محمد الملحم

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:

أفادت إدارة الجامعة بخطابها رقم 3957/4 وتاريخ 4-9-1390هـ بأن صاحب السمو الملكي ولي العهد ونائب رئيس مجلس الوزراء (خالد بن عبدالعزيز) قد وافق على استخدامكم في وزارة المالية والاقتصاد الوطني لدراسة بعض العقود الحكومية مع الشركات الأجنبية التي تعرض لوزارة المالية وغير ذلك من الأعمال المماثلة على أن تمنح مكافأة شهرية مقدارها ألف ريال وذلك في أوقات إضافية في الوزارة وعندما تسمح بذلك أعمال التدريس في الكلية. أرجو التكرم بالإفادة، وتقبلوا تحياتي.

عميد كلية التجارة: حسين محمد السيد

وإلى جانب دراستي لبعض العقود الحكومية مع الشركات الأجنبية رغب الرجل الهُمام معالي الشيخ محمد أبا الخيل نائب وزير المالية والاقتصاد الوطني وقتها، (وبتوصية من الرجل الصالح زميل دربي في الدراسة «صالح الحصين» في مدينة قاهرة المعز حينما كنتُ طالبًا بكلية حقوق جامعة القاهرة وكان طالب ماجستير بالقسم القانوني بمعهد الدراسات التابع لجامعة الدول العربية، والذي تعين بعد عودته من القاهرة مديرًا للإدارة القانونية بالوزارة)، أن أعمل مستشارًا غير متفرغ في وزارة المالية، وأن أرأس «اللجنة العليا للتظلمات الجمركية» (وكانت بمثابة محكمة) وذلك في وقت كان الفساد ضاربًا أطنابه في جمارك جدة أثناء رئاستي للجنة. وكانت تجربةً رائعةً مكَّنتْني من استيعاب أوضاع الجمارك ونظامها وجرائم التهريب، وكذا ما يخص وزارة الداخلية بالنسبة لأحوال سلاح الحدود في مطاردة المهربين وكانوا من الكثرة وقتها.

وبخصوص «المحطة الرابعة» فمقتضاها طلب مدير معهد الإدارة العامة في عام 1390هـ من وكالة جامعة الرياض الاستعانة بي في تدريس مادة «القانون الإداري» في برنامج الأنظمة المنشأ وقتها بالمعهد. وهو برنامجٌ كان له من خلال خريجيه فيما بعد شهرة وأثر ونتائج حميدة في الكثير من مرافق الدولة. وكان مدير المعهد وقتها الأستاذ النشط فهد الدغيثر. وجاءت موافقة الجامعة كما يلي:

الرقم 6860/4 وتاريخ 17-10-90

سعادة مدير عام معهد الإدارة العامة

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد:

نشير إلى خطابكم رقم 3283 في 4-10-1390هـ بشأن طلبكم الموافقة على ندب سيادة الدكتور/ محمد الملحم المدرس بكلية التجارة للقيام بتدريس مادة القانون الإداري.

نشعركم بموافقتنا على ذلك، علما بأن راتبه الشهري 1400 ريال، وقد رفع عنه لمقام مجلس الوزراء لترقيته للمرتبة الثانية، وسوف نشعركم حال صدوره ولكم تحياتي.

وكيل الجامعة: الدكتور عبدالعزيز الخويطر

صورة لسعادة الدكتور/ محمد الملحم كلية التجارة

أما عن «المحطة الخامسة» ففيها طُلِبَ مني أن أكونَ مستشارًا غير متفرغ بوزارة الدفاع والطيران والمفتشية العامة وأنا «مدرسٌ» في الكلية وحتى بعد أن كنت فيها عميدًا، قدَّمت بعض الاستشارات والدراسات للوزارة قبل أن أتعرَّف على سمو الأمير سلطان وزير الدفاع. والفضل في بدء علاقتي بوزارة الدفاع للأستاذ «محمد أبا الخيل» الذي أوعز للوزارة بأن أنظر في قضية عقد كانت وزارة الدفاع قد وقعته مع «شركة إيرويرك «AIR WORKS)) البريطانية وكانت وزارة المالية طرفا فيه. وتم التوصل إلى إنهاء القضية في مدينة جدة.. وكانت هذه القضية هي بداية علاقة طال مداها بين وزارة الدفاع وبيني حتى تغيير وزارتنا في عام 1416هـ.

وهكذا وأنا «مدرس» بكلية التجارة، ومن ثم عميدُها،كانت لي علاقات مع «وزارات السيادة الثلاث»: وزارة المالية ووزارة الداخلية ووزارة الدفاع، بالإضافة إلى ديوان الموظفين العام، ومعهد الإدارة العامة.

وأود أن أنوه كحقيقة تاريخية أن علاقتي بوزارتي الداخلية والمالية قد أثرت فِكري من الناحية القانونية حيث إن «وزارة الداخلية» كانت «أم قوانين»، وهي قوانين (أنظمة) كانت تُعنى بأحوال كافة طوائف الشعب، وكذلك «وزارة المالية والاقتصاد الوطني» التي كانت هي الأخرى الأم لمعظم القوانين (الأنظمة) في المملكة، وذلك في كل ما يتعلق بالشؤون المالية والإدارية.

هذه نبذة مختصرة عن المحطات الخمس التي أشرت إليها. وهي محطات الحديث عنها بالتفصيل طويل وشيق ولكن ليس هنا محلها، وموطنها سيكون في «مذكراتي»، وهي محطات مُكِّنْتُ فيها أن يكون لي دور في «عملية التشريع القانوني» في المملكة، وهي عملية مهمة أفصحت عنها في مقدمة حديثي لكم من أنها وفَّرت لي قناعة تامة أحكمتها تجارب مرت عليَّ على مدى نصف قرن أو أكثر وهي أن أي مشروع يهدف إلى تطوير مجتمعنا ولا سيما بالأخص إذا كان يتعلق «بالشأن القانوني» يلزم البدء به بهدوء تام، ودون الجري وراء الشهرة، والعمل ما أمكن أن يكون على نار هادئة. ولقد تحقق النجاح لي بتوفيق من الله.

الشق الأول

والآن سوف أبدأ، وباختصار، في تناول الشق الأول من حديثي، وهو كما سبق القول، يتعلق بما كان يتم، في ظل عدم وجود «مجلس للشورى»، من إجراءات في شأن الوضع التشريعي في المملكة وذلك منذ عام 1373هـ وحتى عام 1412هـ.

أنشأ الملك عبدالعزيز في الحجاز «مجلسًا للشورى» كان يُسمى «مجلس شُورِي» في عام 1346هـ وذلك لظروف اقتضت إنشاءه في مملكة الحجاز، ومن ثم صدر نظام جديد للمجلس في عام 1347هـ وهو مجلس قليل العدد، وذو صلاحيات محدودة. وظل هذا المجلس يمارس صلاحياته وإن كانت مقتصرة على مملكة الحجاز، حيث ضعف عمله، وتوارى عن الأنظار رغم أن نظامه ظل ساري المفعول.

وفي عام 1373هـ أُنْشِئَ مجلس الوزراء محتضنًا اختصاصات «مجلس الشورى» الذي توارى عن الأنظار، وعُدِّلَ «نظام مجلس الوزراء» أكثر من مرة، وكان آخرها في عام 1377هـ حيث حل محله نظام جديد للمجلس بموجب المرسوم الملكي رقم 38 وتاريخ 22 شوال 1377هـ وهو النَّظام الذي بسط نفوذه على جميع أنحاء المملكة. ويعد هذا النظام، من وجهة نظري «دستوراًَ» من حيث المضمون حسب ما هو متعارف عليه في الأعراف الدستورية المعاصرة، وبمعنى أنه هو «دستور المملكة» من حيث جمعه بين سلطات الدولة الثلاث.

وفي عهد جلالة الملك خالد بن عبدالعزيز تَمَّ تشكيل وزارة جديدة في عام 1395هـ بموجب أمر ملكي رقم أ/23 وتاريح 8-10-1395هـ دَخَلَ فيها وزراء جدد معظمهم من جامعة الرياض، وجامعة الملك عبدالعزيز في جدة، وكنتُ عضوًا في هذه الوزارة بمسمى «وزير دولة وعضو مجلس وزراء»، وكان يُطلق على هذه الوزارة في الصحف الغربية «بوزارة الدكاترة». وصاحب تشكيلَ الوزارة «نموٌ اقتصادي» كان فاتحة خير لما يُسَمَّى وقتها ببدايات «الطفرة الأولى». وظل نظام مجلس الوزراء لعام 1377هـ هو المحور الأساس لكل مكونات الدولة السعودية، وساري المفعول في ظل الطفرة المشار إليها. وكان من سلطات هذا المجلس «السلطة التنظيمية» التي لم يُمارسها المجلس وحده وباستقلال تام. بل كانت ممارسة «السلطة التنظيمية» إلى جانب سلطة مجلس الوزراء «الأم» موزعةً على وزارات من جهة، وعلى مرافق من جهة أخرى، وباعتبارها كلها وزارات ومرافق ـ بمثابة مؤسسات أو هيئات استشارية في المجال التشريعي. ومن الوزارات وزارة المالية والاقتصاد الوطني، ووزارة الداخلية، ووزارة التجارة، ووزارة العمل والشؤون الاجتماعية، ووزارة العدل، ووزارة التعليم العالي، تُحَالٌ كل أعمالها في مجال التشريع اقتراحًا ودراسة إلى «السلطة التنظيمية» الأم بمجلس الوزراء، وذلك لكي تأخذ مجراها بعد الموافقة عليها من المجلس إلى النفاذ بموجب مراسيم ملكية تصدر بها. كان هذا الوضع هو مجمل الحال في نطاق «السلطة التنظيمية» المفترض فيها من «الناحية القانونية» أن يكون «مجلس الوزراء» هو المختص أصلاً بها في كل ما يتعلق بالأنظمة» دون غيره. ومن المرافق المناط بها اقتراح ودراسة الأنظمة مرافق كنت عضوًا فيها، ومرافق لم أكن عضوًا فيها: والمرافق التي كنت عضوًا فيها هي:

(1) اللجنة العليا للإصلاح الإداري.

(2) مجلس الخدمة المدنية.

(3) المؤسسة العامة للخطوط الجوية العربية السعودية.

(4) اللجنة العامة بمجلس الوزراء.

(5) لجنة السيادة الخاصة بالمشتريات الحكومية.

أما المرافق التي لم أكن عضوًا فيها فهي كما يلي:

(6) معهد الإدارة العامة.

(7) الإدارة المركزية للتنظيم والإدارة.

(8) الديوان العام للخدمة المدنية.

(9) شعبة الخبراء.

(10) مجلس الخدمة العسكرية.

وكان اختصاص هذه المرافق جميعها من «الناحية التنظيمية» مشاراً إليه في عبارات متفاوتة الصياغة كما هو الشأن في الوزارات: ومن هذا العبارات ذات الصيغ المتفاوتة على سبيل المثال:

بالنسبة لشعبة الخبراء: مراجعة مشروعات الأنظمة واللوائح المقدمة من الأجهزة الحكومية، وإعادة مراجعة الأنظمة السارية واقتراح تعديلها.

ـ وبالنسبة للجنة العليا للإصلاح الإداري: اتخاذ الإجراءات اللازمة لتحقيق إصلاح الجهاز الإداري، ممارسة اختصاص مجلس الوزراء فيما يتعلق بإحداث وترتيب الأجهزة والمصالح العامة، إنشاء أحكام إدارية جديدة، أو تعديل أو إلغاء قرارات سابقة داخلة في اختصاصها.

وبالنسبة للإدارة المركزية للتنظيم والإدارة: إبداء الرأي في مشروعات الأنظمة المتعلقة بالنواحي التنظيمية والإدارية، ومراجعة جميع الأنظمة القائمة بغرض العمل على تطويرها.

ـ وبالنسبة لمجلس الخدمة المدنية: اقتراح الأنظمة المتعلقة بشؤون الخدمة المدنية لإصدارها بالطرق النظامية.

وبالنسبة للمؤسسة العامة للخطوط الجوية العربية السعودية: مجلس الإدارة هو السلطة العليا المهيمنة على شؤونها وتصريف أمورها ووضع السياسات العامة في الوزارات والمصالح الحكومية دون التقيد بالنظم الإدارية والمالية المتبعة في الوزارات والمصالح الحكومية، ولها في سبيل ذلك دون تحديد اختصاصها (1) إصدار اللوائح والقرارات المالية والإدارية والفنية والداخلية بما في ذلك ترتيب الوظائف وتحديدها، (2) اقتراح اللوائح المتعلقة بتعيين موظفي الهيئة ومستخدميها وعمالها وترقيتهم وتحديد مرتباتهم وأجورهم ومكافآتهم، وما يمنحون من ميزات عينية ونقدية وغير ذلك دون التقيد بالنظم واللوائح الخاصة بموظفي الحكومة، وتصدر اللوائح الخاصة بذلك من مجلس الوزراء.

وبالنسبة للجنة العامة بمجلس الوزراء، مراجعة مشروعات الأنظمة واللوائح المقدمة من الأجهزة الحكومية، وإعادة مراجعة الأنظمة السارية المفعول واقتراح تعديلها، ومناقشة التقارير السنوية التي تقدمها الوزارات والأجهزة الحكومية الأخرى، واقتراح ما تراه بشأنها، وحرية إجازة ما يرد فيها من مخالفات إن أمكن أو الرفع عنها لمجلس الوزراء.

وبالنسبة للجنة السيادة الخاصة بالمشتريات الحكومية ذات الاختصاص الاستثنائي فهي لجنة مُنْحَتْ اختصاصات مجلس الوزراء في الشؤون المالية، وذلك في كل ما يتعلق بعقود المشتريات الحكومية، وكانت تتكون من سمو ولي العهد رئيسًا وعضوية كل من: وزير المالية محمد أبا الخيل، ومحمد إبراهيم مسعود وزير الدولة ومنِّي. وكان لهذه اللجنة دور كبير في الموافقة على كل القرارات المتعلقة بإنشاء وتطوير البنية التحية الشاملة لكافة مرافق الدولة في ظل الطفرة الأولى.

الشق الثاني

والآن سوف أبدأ، وباختصار، في تناول الشق الثاني من حديثي، وهو كما سبق القول، يتعلق بما تم في إعداد مشروع نظام الحكم الأساسي، ونظام الشورى، ونظام المقاطعات ابتداء من عام 1400هـ حتى عام 1412هـ، وهو العام الذي وُضِعَتْ فيه المشاريع الثلاثة موضع التنفيذ بصدور مراسيم ملكية بإقرارها.

وكانت البداية صدور البرقية التالية من الديوان الملكي ذات الرقم 10957 تاريخ 2-5-1400هـ من نائب رئيس مجلس الوزراء لسمو وزير الداخلية، والتي نصها كالتالي.

عاجل جدا

صاحب السمو الملكي وزير الداخلية

بعد التحية: بناء على التوجيه الملكي، واهتمامًا من حكومة جلالته في استكمال الإجراءات النهائية المتعلقة بنظام الحكم الأساسي، ونظام مجلس الشورى، ونظام المقاطعات تمهيدًا لإعلانها وتطبيقها، وبناء بما وعدتْ به حكومة جلالته في هذا الشأن، ورغبةً في تطوير أجهزة الحكم، وجعلها مسايرة للنهضة الشاملة التي تعم شتى مرافق المملكة العربية السعودية، فقد ارتأينا تشكيل لجنة برئاستكم لاستكمال إجراءات الأنظمة المذكورة، تجتمع في أقرب وقت ممكن بمقر الديوان الملكي بالمعذر لهذا الغرض، وتحرص على إنجاز الدراسة في أقصر مدى مستطاع. وإليكم فيما يلي بقية أعضاء اللجنة المشار إليها:

1 ـ معالي الشيخ إبراهيم بن محمد آل الشيخ وزير العدل.

2 ـ معالي الشيخ إبراهيم العنقري وزير العمل والشؤون الاجتماعية.

3 ـ معالي الشيخ عبدالوهاب عبدالواسع وزير الحج والأوقاف.

4 ـ معالي الشيخ محمد إبراهيم مسعود وزير الدولة وعضو مجلس الوزراء.

5 ـ معالي ا لدكتور محمد الملحم وزير الدولة وعضو مجلس الوزراء.

6 ـ معالي الشيخ محمد بن جبير رئيس ديوان المظالم.

7 ـ فضيلة الشيخ صالح اللحيدان عضو هيئة كبار العلماء وعضو المجلس الأعلى للقضاء.

8 ـ معالي الشيخ صالح الحصين وزير الدولة وعضو مجلس الوزراء سابقًا.

وقد زودنا كلا منهم بصورة من خطابنا هذا لاعتماد مقتضاه/ والله يحفظكم.

نائب رئيس مجلس الوزراء فهد بن عبدالعزيز

وللحقيقة والتاريخ لقد انصرفَ «حدسُ وبعدُ نظر» كل من جلالة الملك خالد وولي عهده سمو الأمير فهد في محلهما حينما قرَّرا بأن يتولى وزير الداخلية الأمير نايف بن عبدالعزيز مهمة حساسة إذ كان سموه جديراً بتحمل تلك المهمة لأن له من خلال ممارساته الأمنية ذات الطابع القانوني في وزارة الداخلية ما يثبتُ أنه قادر على تحمل مهمة رئاسة اللجنة العليا المناط بها وضع نظام الحكم الأساسي، ونظام الشورى، ونظام المقاطعات.

لقد اجتمعت اللجنة برئاسة سمو الأمير «نايف»، ونظرت فيما قُدِّمَ لها من أوراق، وكانت تتلخص في مشروعَين لنظام الحكم في مواد مختصرة.

الأول من إعداد صاحب السمو الأمير «مساعد بن عبدالرحمن» وزير المالية والاقتصاد الوطني، والثاني من إعداد معالي الدكتور «معروف الدواليبي» المستشار في الديوان الملكي.

ولم تجد اللجنة في المشروعَين ما يحقق المطلوب وفقًا للتوجيه الملكي الذي بموجبه تقرر تشكيل «اللجنة العليا».

وأثناء النظر في المشروعَين فَاجَأ اللجنة صاحب السمو الملكي الأمير فهد بن عبدالعزيز ولي العهد ونائب رئيس مجلس الوزراء بزيارة كريمة. تحدث سموه باستفاضة لأعضاء اللجنة عن تصوراته في شأن نظام الحكم، ونظام الشورى، ونظام المقاطعات. ولأن اللجنة ليس لديها غير المشروعَين المنوه عنهما سلفًا، وبالنظر لقصور المشروعَين حيث إنهما لا يعبران عما اقتضاه التوجيه الكريم فقد تقدَّمتُ باقتراح لسموه مؤداه بأنني على استعداد لتقديم مشروعين متكاملين لنظامي الحكم الأساسي ومجلس الشورى. رحب سموه باقتراحي مباركا له، ومن ثم غادر اللجنة.

وبعده مغادرة سمو الأمير فهد واصلت اللجنة اجتماعها، وفي الحال وقتها طلبتُ من سمو الأمير رئيس اللجنة العليا أن أُمْنَحَ مهلة كافية من الوقت لتقديم المشروعَين فوافق سموه. ومن ثم انفض الاجتماع.

وأكاشفكم أيها الإخوة أعضاء مجلس الشورى عمَّا دار في مخيلتي لأول وهلة وهو أن تطوعي للقيام بمهمة إعداد المشروعين كان بمثابة «ورطة» لي. وبالفعل كانت.

لم يرد بالتوجيه الكريم بتشكيل اللجنة أي مسارٍ محددٍ لها لتسير عليه غير ما ورد بافتتاحية تشكيلها.

المهمة في حقيقة الأمر كانت شاقة…

والسُّبُلُ بالنسبة لي من الناحية الدستورية في إعداد المشروعين كانت مُتَاحَة للغاية لو تركتُ لنفسي حرية التصرف… أو لو تُرِكَ لي حرية التصرف رسميًا من ولاة الأمر. لم يتم ذلك.

كنت أسأل نفسي كيف أتصرف!! وفكرت أكثر من مرة باحثًا لوحدي عن الطريق الأسلم والأنسب لِأسلكه.

لم يتصل بي كائنًا من كان من ولاة الأمر مُسْتَفْسِرًا عما أنوي عمله ما عدا اتصال من سمو الأمير رئيس اللجنة سائلاً متى انتهي؟

كانت حيرة!!!

ومع ذلك كنت أزاول أعمالي المكلف بها كوزير مع حرصي على حضور جلسات مجلس الوزراء لعام 1377هـ وهو المجلس المناط به «نظام» لا يزال ساري المفعول. وهو نظام كان بمثابة «دستور» للبلاد.

وبعد أسابيع وجدتُ ألا مفر من التمسك بنظام مجلس الوزراء لِأَلُفَّ.. وأدور حوله.. بدأت أدرسه وأتأمله.. لاسيما وأنا أشارك في اقتراح أنظمة في المرافق التي كنت بها عضوًا، «أنظمة» بعد إتمام دراستها كان مآلها إلى مجلس الوزراء بموجب نص المادة 18 من نظامه التي تنص على ما يلي:

«يرسم مجلس الوزراء السياسة الداخلية والخارجية والمالية والاقتصادية والتعليمية والدفاعية وجميع الشؤون العامة للدولة ويشرف على تنفيذها ويملك السلطة التنظيمية والسلطة التنفيذية والسلطة الإدارية وهو المرجع للشؤون المالية ولجميع الشؤون المرتبطة في سائر وزارات الدولة والمصالح الأخرى وهو الذي يقرر ما يلزم اتخاذه من إجراءات ولا تعد المعاهدات والاتفاقيات الدولية نافذة إلا بموافقته وقرارات مجلس الوزراء نهائية إلا ما يحتاج منها لاستصدار أمر أو مرسوم ملكي طبقًا لأحكام هذا النظام».

كانت المادة (18) من نظام مجلس الوزراء بعد دراستها بعمق هي محور كل تصوراتي عن مواضيع حساسة لا بد أن يشتمل عليها مشروعي نظامي الحكم الأساسي والشورى ما دام لم يصل لعلمي من أية جهة كانت أن هناك نية لدى القيادة العليا للمساس بنظام مجلس الوزراء تعديلا أو إلغاء بعد إنشاء اللجنة العليا، وأثناء مداولاتها، وحتى بعد أن أنجزت مهمتها.

وبالفعل كان تمسكي بالمادة (18) من نظام المجلس هو المحور الأساس، وأنا أعد مشروعي نظامي الحكم الأساسي والشورى.

كانت المادة (18) تنص صراحة على أن المجلس يملك السلطتين: «السلطة التنظيمية» و»السلطة التنفيذية». إذن كان مجرد النظر دستوريا، من وجهة نظري، في نظرية «الفصل بين السلطتين» مجرد تضييع وقت لو شرعتُ في مباشرة تأطيرها في مشروعي نظامي الحكم والشورى لا سيما أن نظرية «الفصل بين السلطات» مِفْصَلٌ مهم في أي شأن دستوري في الفقهين: «اللاتيني» و»الأنجلو/ سكسوني» وأنا على علم تام بهذين الفقهين، ولكنه شأن مختلفٌ في الفقه السياسي الإسلامي الذي لا يعترف بنظرية «الفصل بين السلطات» كما هي مؤطرة في الفقهين المشار إليهما.والمملكة العربية السعودية منذ أن تأسست ودستورها القرآن الكريم والسنة النبوية: عقيدة وشريعة.

ووضعت مشروعي النظامين خلال مدة ثلاثة أشهر تقريبًا، وقبل تقديمهما لسمو رئيس اللجنة العليا رغب مني صاحب السمو الملكي الأمير «سلطان بن عبدالعزيز» وزير الدفاع والطيران والمفتش العام ونائب رئيس اللجنة العليا للإصلاح الإداري بصفة خاصة، واعتباري عضواً «باللجنة العليا للإصلاح الإداري»، أن أُطْلِعَ سموه على مشروعَي النظامين. أطلعتُ سموه على المشروعين، وتأملهما، واستحسنهما بعد أن أجرى سموه تعديلات طفيفة على بعض موادهما. ومن ثم سلمتُ لسمو رئيس اللجنة العليا مشروعي النظامين، وأمر سموه أمين سر اللجنة الأستاذ «إبراهيم السحيباني» الموظف بالديوان الملكي بتوزيعهما على أعضاء اللجنة. واستغرق النظر في مشروعَي النظامين اثني عشر عاماً أي منذ عام 1400هـ الذي تم فيه تشكيل اللجنة العليا وحتى صدور الأوامر الملكية بهما في عام 1412هـ بما في ذلك نظام المقاطعات الذي تم فيه تسمية المقاطعات «مناطق».

ونظرًا لأنني قد أعددت مشروعَي النظامين، ولأنه لم يبق على قيد الحياة من أعضاء اللجنة العليا إلاَّ اثنان هما معالي فضيلة الشيخ «صالح بن محمد اللحيدان» ومحدثكم، أرى، كحقيقة تاريخية، أن أقرر ما يلي، وفي تجرد تام، وبقدر ما تسعفني به الذاكرة، عمَّا دار في اللجنة العليا من مناقشات، وعن إسهامات البعض من أعضائها بما فيهم رئيس اللجنة..

(1) كان رئيس اللجنة سمو الأمير نايف يُحاور ولكن في أناة وأدب جم، وكان يستمع للرأي الآخر، وحتى إن لم يقبله فهو يحترمه، وكان الأمير يتدخل عند اللزوم. وكان له أطروحات في منهجية نظام الحكم ودستوريته كان يعرضها خلال الجلسات.

(2) كان رئيس اللجنة ما بين فترة وأخرى أثناء جلسات اللجنة يُثْريها بآرائه في منهجية نظام الحكم الأساسي بالذات، كما كان واسطة الاتصال بين «القيادة العليا» وبين اللجنة حينما تتعرَّض اللجنة أثناء مناقشاتها لنقاط حساسة في مشروعي النظامين فيُزود اللجنة بمرئياته، ومرئيات «القيادة العليا».

(3) أعطى رئيس اللجنة الحرية المطلقة لأعضاء اللجنة ليناقشوا، ويجادلوا، ويدْلوا بما يعُنُّ لهم من أفكار عند مناقشة مواد وبنود مشروعَي النظامين. وكان يلتزم سموه الصمت إذا حمى وطيس النقاش، كما كان يتدخل عند اللزوم إذا اقتضى الأمر.

(4) كان أعضاء اللجنة يتفاوتون فيما يتعلق بالمناقشات، كان البعض منهم صامتًا أحياناً، والبعض الآخر يُناقش، ويَقترح، ويُعارض في حرية وشفافية وصراحة تامة. هذا الحال، في حقيقة الأمر، جعل أعضاء اللجنة يعتبرون أنفسهم كما لو كانوا إخوة في أسرة واحدة.

(5) كانت اجتماعات اللجنة مبرمجة مرة كل أسبوع مساء لعدة ساعات في مقر الديوان الملكي بالمعذر. وكانت لا تجتمع حينما تواجه المملكة صعاب وطوارئ ذات طبيعة سياسية.

(6) وكان في اللجنة فُرْسَان يناقشون ولكن كان على رأسهم معالي فضيلة الشيخ «صالح بن محمد اللحيدان» عضو هيئة كبار العلماء وعضو المجلس الأعلى للقضاء. كان الشيخ «اللحيدان» محاورًا لبقًا، ويعرف من أين تؤكل الكتف كما يقال. وكان ذا اطلاع واسع في علوم الشريعة الإسلامية، وحريصًا للغاية على أن ينسجم نظام الحكم الأساسي بالذات مع قواعد الشريعة الإسلامية. وكان فضيلته يقرع الحجة بالحجة بأدلة مقنعة في مناقشة مصطلحات قانونية وسياسية وَرَدَتْ في شتى مواد مشروع نظام الحكم الأساسي بالذات. ولقد استفدتُ من تداخلاته كثيرًا. وكان من المصطلحات التي كانت محل جدل ونقاش مستفيضين: السيادة، الحاكمية، مفهوم ولي الأمر أو أولي الأمر في الإسلام، الدستور، التمسك بالإسلام عقيدة وشريعة، موقع القرآن والسنة في إطار نظام الحكم، السلطة التنظيمية، الفصل بين السلطات النسبي والمطلق، الشرعية الدستورية، القومية العربية، الإقليم كركن من أركان الدولة، المشرع، العصمة، الشعب، استقلال القضاء وانفراد ولي الأمر بتعيينهم وإقالتهم، العلاقة بين نظامي الحكم الأساسي ونظام الشورى وغيرها من المصطلحات. وفي جلسة عاصفة ذات مساء اشتد النقاش بيني وبين فضيلته، وحمى وطيسه لدرجة أنني خُلْتُ، بل وتوقعتُ، أنني سوف اسْتَبْعْدُ من اللجنة لوحدي أو كلانا: فضيلة الشيخ وأنا. وبعد يومين كنتُ في مكتب جلالة الملك خالد رحمه الله بالمعذر صباحًا، وكان بالمكتب وتداعيات استخدامهما في شتى مرافق سلطات الدولة الثلاث: «السلطة التنظيمية» و»السلطة التنفيذية» و»السلطة القضائية» التي مرجعها «الملك» بموجب نص المادة 44 من نظام الحكم الأساسي.

فيما يلي استدراك لبقية محاضرة معالي الدكتور محمد بن عبداللطيف الملحم عميد كلية التجارة الأسبق. وزير الدولة وعضو مجلس الوزراء السابق التي ألقاها في مجلس الشورى متحدثًا عن ذكرياته أمام أعضاء وعضوات المجلس وقد نشر الجزء الأول والثاني منها في وقت سابق، وفيما يلي الجزء المتبقي من المحاضرة:

«ونظرًا لأنني قد أعددتُ مشروعَي النظامين، ولأنه لم يبق على قيد الحياة من أعضاء اللجنة العليا إلاَّ اثنان هما معالي فضيلة الشيخ «صالح بن محمد اللحيدان» ومحدثكم، أرى، كحقيقة تاريخية، أن أقرر ما يلي، وفي تجرد تام، وبقدر ما تسعفني به الذاكرة، عمَّا دار في اللجنة العليا من مناقشات، وعن إسهامات البعض من أعضائها بما فيهم رئيس اللجنة..

(1) كان رئيس اللجنة سمو الأمير نايف يُحاور ولكن في أناة وأدب جم، وكان يستمع للرأي الآخر، وحتى إن لم يقبله فهو يحترمه، وكان الأمير يتدخل عند اللزوم. وكان له طروحات في منهجية نظام الحكم ودستوريته كان يعرضها خلال الجلسات.

(2) كان رئيس اللجنة ما بين فترة وأخرى أثناء جلسات اللجنة يُثْريها بآرائه في منهجية نظام الحكم الأساسي بالذات، كما كان واسطة الاتصال بين «القيادة العليا» وبين اللجنة حينما تتعرَّض اللجنة أثناء مناقشاتها لنقاط حساسة في مشروعي النظامين فيُزود اللجنة بمرئياته، ومرئيات «القيادة العليا».

(3) أعطى رئيس اللجنة الحرية المطلقة لأعضاء اللجنة ليناقشوا، ويجادلوا، ويدْلوا بما يعُنُّ لهم من أفكار عند مناقشة مواد وبنود مشروعَي النظامين. وكان يلتزم سموه الصمت إذا حمى وطيس النقاش، كما كان يتدخل عند اللزوم إذا اقتضى الأمر.

(4) كان أعضاء اللجنة يتفاوتون فيما يتعلق بالمناقشات، كان البعض منهم صامتًا أحيانا، والبعض الآخر يُناقش، ويَقترح، ويُعارض في حرية وشفافية وصراحة تامة. هذا الحال، في حقيقة الأمر، جعل أعضاء اللجنة يعتبرون أنفسهم كما لو كانوا إخوة في أسرة واحدة.

(5) كانت اجتماعات الجنة مبرمجة مرة كل أسبوع مساءً لعدة ساعات في مقر الديوان الملكي بالمعذر. وكانت لا تجتمع حينما تواجه المملكة صعابا وطوارئ ذات طبيعة سياسية.

(6) وكان في اللجنة فُرْسَانٌ يناقشون ولكن كان على رأسهم معالي فضيلة الشيخ «صالح بن محمد اللحيدان» عضو هيئة كبار العلماء وعضو المجلس الأعلى للقضاء. كان الشيخ «اللحيدان» محاورًا لبقًا، ويعرف من أين تؤكل الكتف كما يقال. وكان ذا اطلاع واسع في علوم الشريعة الإسلامية، وحريصًا للغاية على أن ينسجم نظام الحكم الأساسي بالذات مع قواعد الشريعة الإسلامية. وكان فضيلته يقرع الحجة بالحجة بأدلة مقنعة في مناقشة مصطلحات قانونية وسياسية وَرَدَتْ في شتى مواد مشروع نظام الحكم الأساسي بالذات. ولقد استفدتُ من تداخلاته كثيرًا. وكان من المصطلحات التي كانت محل جدل ونقاش مستفيضين: السيادة، الحاكمية، مفهوم ولي الأمر أو أولي الأمر في الإسلام، الدستور، التمسك بالإسلام عقيدة وشريعة، موقع القرآن والسنة في إطار نظام الحكم، السلطة التنظيمية، الفصل بين السلطات النسبي والمطلق، الشرعية الدستورية، القومية العربية، الإقليم كركن من أركان الدولة، المشرع، العصمة، الشعب، استقلال القضاء وانفراد ولي الأمر بتعيينهم وإقالتهم، العلاقة بين نظامي الحكم الأساسي ونظام الشورى وغيرها من المصطلحات. وفي جلسة عاصفة ذات مساء اشتد النقاش بيني وبين فضيلته، وحمى وطيسه لدرجة أنني خُلْتُ، بل وتوقعتُ، أنني سوف اسْتَبْعْدُ من اللجنة وحدي أو كلانا: فضيلة الشيخ وأنا. وبعد يومين كنتُ في مكتب جلالة الملك خالد رحمه الله بالمعذر صباحًا، وكان بالمكتب معالي الدكتور «رشاد فرعون» فقط. سألني جلالته، وهو يبتسم، لأحدثه عما تم في الجلسة التي وسمتها بالعاصفة؟ قلت لجلالته: لو سألتم يا صاحب الجلالة، رئيس اللجنة لعله أبلغ مني في تبيان ما حدث. صَمَتَ جلالته، وقال معالي الدكتور رشاد، وهو مطأطأُ الرأس ومسبحته بين أطراف أصابعه، معلوم… معلوم… وهكذا تبين لي أن جلالته كان يتابع ما يدور في اللجنة عن بُعد.

(7) لم يُستخدم «نظام التصويت» في جلسات اللجنة، بل كانت قاعدة «التوافق» هي المستخدمة، وبمعنى أن النقاش لو اشتد، أو الجدل لو احتدم حول «مادة» أو «بند معين» أو مصطلح معين كان تَحَرِّي «المصلحة العامة» في صياغة المادة أو البند هو المعيار الوحيد. وأحيانا كان المادة أو البند المختلَف عليها تؤجل لجلسة أخرى.

(8) وفيما يتعلق بمشروع «نظام المقاطعات» فهو ليس من إعدادي. أُحِيلَ إلى «اللجنة العليا» ملف يحتوي على «مشروع نظام المقاطعات»، وكان من إعداد لجنة برئاسة صاحب السمو الملكي الأمير «سلمان بن عبدالعزيز: أمير مقاطعة الرياض وقتها. لقد دَرَسَتْ «اللجنة العليا» مشروع النظام مادة مادة، وللحقيقة والتاريخ بودي القول أن بالملف أراء نيرة وعميقة لمعالي الأمير عبدالرحمن بن أحمد السديري أمير منطقة الجوف وقتها في مشروع النظام وبالأخص في «نبض» العلاقة ما بين الحاكم الإداري وفروع الوزارات بالمقاطعة.

(9) كان لبعض أعضاء اللجنة العليا آراء في شأن توزيع المقاطعات بالمملكة وكان منها رأيي أن تكون الأحساء «مقاطعة» أي «منطقة» باعتبارها «وحدة إدارية زراعية» قائمة بذاتها من الناحية التاريخية، وأيدني في ذلك معالي الأستاذ عبدالوهاب عبدالواسع. لم تأخذ اللجنة بما ارتأيناه، بل كانت قاعدة «التوافق» هي السائدة كما سبق القول، وعلى اعتبار أن توزيع «المقاطعات» أو «المناطق» أو إعادة توزيعها هو شأن سيادي خالص.

(10) مُسمَّى مشروع نظام المقاطعات قد أُعيدت تسميته ليكون مُسمى «نظام المناطق» وذلك بالنظر لما بين مصطلح «المقاطعة» ومصطلح «المنطقة» من فوارق في الفقه الإداري والدستوري. «المقاطعة» تعني «استقلالية الوحدة الرئيسية للإدارة المحلية» كما لو كانت «شبه دولة» في إطار «الدولة الفدرالية» بينما «المنطقة» تعني «وحدة جغرافية إدارية» في «دولة واحدة».

(11) وقبل صدور أنظمة: النظام الأساسي للحكم، ونظام الشورى، ونظام المناطق بسنة تقريبًا أعيد تشكيل اللجنة… وخرجتُ منها لانشغالي بأمور سياسية أخرى وقتها، وَضُمَّ إليها معالي الشيخ «عبدالعزيز بن عبدالمحسن التويجري» مساعد رئس الحرس الوطني وقتها، ومعالي الدكتور «مطلب النفيسة» رئيس شعبة الخبراء بمجلس الوزراء.

(12) لم تُسجل وقائع جلسات اللجنة العليا على مدار اثني عشر عام، وللحقيقة والتاريخ أن ما دار بها من مناقشات كان ذا أهمية كبرى. وكم كنت أتمنى لو سُجِّلتِ الوقائع للتعرف على مضامين بعض المواد والبنود التي انتهت اللجنة إلى صياغتها، وكانت محل جدل بالذات وذلك لتحقيق غرضين: الأول أن من اختصاص مجلس الشورى تفسير الأنظمة، إذ ربما يستعين المجلس بهذه الوقائع في عملية التفسير هذا من جهة، ومن جهة أخرى، أن تكون وقائع الجلسات عونًا للأساتذة المناط بهم تدريس الدساتير في كليات القانون في جامعاتنا بما فيها الدستور السعودي ذي الأجنحة الثلاثة وذلك للتعرف على مقاصد اللجنة من صياغة المواد التي انتهت إليها عندما يحاضرون لطلابهم.

(13) وصدرت الأنظمة الثلاثة بأوامر ملكية في عام 1412هـ، وبصدورها انقطعت صلتي بالأوامر فيما عدى حضوري كوزير دولة وعضو مجلس وزراء لجلسات «مجلس الشورى» في مناسباته الرسمية حتى عام 1416هـ وهو العام الذي أُعِيدَ فيه تشكيل مجلس الوزراء فخرجت من المجلس مع (18) وزيرا.

(14) وفي عام 1414هـ صدر نظام مجلس الوزراء برقم أ/ 13 وتاريخ 3-3-1414هـ، وكانت مشاركتي فيه عند عرضه لدى مجلس الوزراء فقط. وهذا النظام في رأيي كان بمثابة «وثيقة دستورية» أكثر منه نظام أو قانون في الأعراف الدستورية بحكم نصوصه. ولكن صدر كنظام وهو مع نظامي الحكم الأساسي ومجلس الشورى يشكلون ثلاث وثائق دستورية، ويشكلون ما يمكن أن أسميه من وجهة نظري «بالدستور السعودي». وسوف أشرح وجهة نظري في الحوار إذا انطلق في نهاية حديثي عما أقصده من ذلك.

وأختم حديثي لكم أيها الأخوة بهذا، وآخر دعواي أن الحمد لله رب العالمين.

إضافة مهمة

وعلى إثر انتهاء حديثي انطلق حوارٌ هامٌ ومثمرٌ بيني وبين البعض من الإخوة الأعضاء الحاضرين عن نقاط جوهرية أثرتها، وتركز الحوار حول المقصود من «الفصل بين السلطات» في ضوء المادة 23 المحورية من «نظام الشورى» التي مَنَحَتْ بُعْدًا عميقا لمجلس الشورى في العملية التشريعية، وهو حوارٌ في حوزة تسجيلات مجلس الشورى، ولو نُشِرَ ففيه فائدة ولا سيما عن «صدام حضاري» نافذ ومقلق في شتى مفاصل الدولة نعيشه الآن بين مصطلحي: «القانون» و»النظام»، وتداعيات استخدامهما في شتى مرافق سلطات الدولة الثلاث: «السلطة التنظيمية» و»السلطة التنفيذية» و»السلطة القضائية» التي مرجعها «الملك» بموجب نص المادة 44 من نظام الحكم الأساسي.

هنا رابط المقالة في جريدة الجزيرة من ثلاثة أجزاء

الجزء الأولالجزء الثانيالجزء الثالث

 

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.